غمغم القائد:
-" مابك؟..".
-" أضحك من السعادة!، فقريباً جداً سيتم سحق مملكة آيرم ونطهر العالم من الزنادقة العفنة! ". وقام يزيل دموعه بظهر يده واستمر يقول ليمنع القائد من الحديث عن مملكة آيرم:
-" سيتم إبادتهم عما قريب بلا شك. ولكن ليس هذا الحديث مناسبا في هذا الوقت إذ يجب أن نجمع المعلومات ونعرف سبب تدمير مملكة فيرنا واختفاء الناس فيها " .
قال القائد بقلق:
-" همم، هذا غريباً ومزعجاً حقاً ، هذه المدينة السابعة التي نمر بها ولا نرى فيها اي أثر للكائنات الحية. أين ذهبت الناس؟ المخلوقات؟ حتى ولو تعرضوا لوباء ما أو قتِلوا يجب أن تبقى أجسادهم. حسنا، لقد مر مئتا عام ولن تبقى اي جثة من ذلك.
ولكن، يجب أن يكون هناك بقايا من أجسادهم، هياكلهم العظمية، أين ذهبت بحق االله ؟!".
قال نائبه وقد بداء يشعر ببرودة غريبة في عظامه:
-" ربما وحوشاً او شياطين قامت بقتلهم وأكلتهم جميعاً؟ او ربما أستُخدمت طقوساً شيطانية ما ؟".
تقلصت أمعاء القائد من تلك الكلمات.
كان العالم مليئ بالكائنات المروعة. ولكن مملكة بأكملها.. حتى التنانين لا يمكن أن تفعل مثل هذا الفعل، ربما مدينة.. وقد أحرقت التنانين القديمة مدن كاملة على مر العصور. ووجد نفسه يصرخ غاضباً من هذه الأفكار المروعة:
-" ما هذه السخافة التي تتحدث عنها؟ لقد كان هناك الملايين من البشر.. الملايين. وأنت تقول أنهم أكلوا البلاد بأكملها! هناك حدوداً حتى للشياطين !.. إن وجد وحش مثل ذلك فلن يبقى في الأرض أحد !".
بدا القائد متوتراً حقاً إذ بدأ يشعر ببرودة غريبة. كان هذا الشهر هو شهر الشمس الثالث حيث كان الحر شديداً جداً في ذروته. ونظر القائد إلى شمس الظهيرة الحارقة وكأنه يتأكد من أن الشمس لاتزال موجودة فوق رأسه.
ومع ذلك كان درعه المسحور ينفي موجات البرد والحر المتولدة من الطقس أو السحر.
وأخذ يفكر في أن السحر على درعه قد تلاشى بشكل ما، ولكن إن كان ذلك صحيحاً وهو مستحيل بطبيعة الحال فلماذا لا تصدر حرارة من الشمس. لكن الغريب في الأمر أن البرودة تأتي من كل الأتجاهات في نفس الوقت.
ومن البعيد شاهد بضعة أشجار تتحرك مبتعدة وبدا مظهر تلك الأشجار ككومة هائلة من العظام
إذ كانت أشجار بيضاء شاحبة تسير مُتثاقلة على جذورها. كانت تدعى أشجار الشيطان.
وقد كان يعلم أن تلك الاشجار تعيش في الغابات الموحشة ولا تخرج منها مطلقاً.
كان هذا غريباً جداً . ومع ذلك كانت ثمارها الذهبية تباع بثروة هائلة بالإضافة إلى لحائها الذي يتجاوز صلابة الفولاذ.
فلو كان لديه الوقت لقام بإبادتها. ولكن لم يكن الوقت مناسباً لهذا.
صرخ القائد بقوة :
-" توقفوا ! "
توقف الفرسان وقاموا يراقبون محيطهم وهم يشعرون بانخفاض درجات الحرارة بشكل غير معقول.
قال نائب القائد بصوت قلق :
-"هل هناك شيئاً ما ؟".
بتأكيد كان يعرف أن هناك شيئاً ما ولكنه قال ذلك ليخفي خوفه بالحديث.
أجاب القائد:
-" هناك شيئاً غريب، هذه البرودة غير طبيعية أبداً، إني أشعر بها في عظامي كالخناجر. لابد أنه شيئاً ما.. سحر ما " .
-" ربما وحوشاً أو شياطين أيها القائد" .
-"لا أدري حقاً، فإن كانت كذلك فهي لا تحمل لنا إلا الموت. اطلب من الفرقة الاستعداد للمعركة في الحال". ورفع القائد يديه ووجدها تتعرق وترتعش وشعر بالغضب من صراخ نائبة الذي بدا كولولة امرأة.
-"الموت ؟!! ".
-"لا تصرخي هكذا يامرأة !!. لقد قاتلنا وحوشاً وشياطين.. ما بكِ ؟!!".
أجاب نائب القائد وهو يحاول أن يتمالك نفسه:
-"لا ، لا شيء، لكن، هذا المكان يقلقني حقاً ، دعنا نخرج من هنا ، ونعود في بداية الصباح ، الغروب سيأتي قريبا ً" .
-"نائب القائد.. هل تمزح معي ؟ نحن في الظهيرة ، تبدو.." . أراد أن يقول تبدوا خائفاً. إلا أنه لم يقلها فقد كان الخوف معدياً في هذا الأماكن. لذلك قال بدماء بدأت تغلي:
- "سنتقدم قليلاً و من ثم نخيم هنا هذه الليلة ".
صرخ نائب القائد بصوت بدا كصوت دجاجة مخنوقة.
-"هناااا..لا لالا ،يجب أن نعود في الحال ! ". وارتعد نائب القائد إذ ظهر شيئاً هائل أمامه.
كان ذلك الشيء هو القائد الذي بدا يحترق غضباً وكان الشرر يتطاير من عينيه وكأن نائبه كان عدو حقير. وبقبضة مدرعة بالفولاذ القى القائد لكمة عنيفة على رأس حصان نائب القائد.
سقط الحصان على الأرض وكأنه جوال عملاق من الدقيق. سقط نائب القائد على وجهه وكسر أنفه، ونهض خائفاً من هذه الوحشية ورفع عينيه إلى الرجل الهائل أمامه وخيوط الدم تتدفق من أنفه.
-" هل تعطيني أمراً يامرأة ؟!! هل نسيتي نفسك؟!! .. إنظري إلي.. أنتِ هنا من أجل أن تراقبي الأشياء المخنثة مثلك.. تلك الخجولة التي لا تظهر نفسها للرجال الأشداء مثلنا.. هذا فقط هو عملك ؟!!. هل هذا واضح يامرأة؟!!".
هز بنس مير رأسه مؤكداً أنه يفهم الأمر ولكن القائد لم يكتفي بهذا القدر وقال:
-" إذن من أنتِ ؟!! ". قال بنس مير بكآبة تلك الكلمات المعتادة:
-" امرأة.. مخنث، أي شيء تريده". ظل القائد ينظر إليه بتقزز ثم رفع عينيه إلى رجاله بكل فخر واحترام وقال:
-" نحن لسنا أطفال نلعب !.. لدينا مهمة ويجب تنفيذها !، مهما كانت خطيرة او مميتة !، هذا واجبنا اللعين!.
فإذا كنت تريد العودة فعد !، وكلامي موجهاً للجميع !، من يريد الذهاب فليذهب، ولكن لا تبقوا معي وأنتم ترتجفون كالنساء !!" قال أحد الفرسان وهو يضح رمحه على كتفه:
-"أيها القائد لا يوجد سوى امرأة وحيدة بيننا ".
وانفجروا جميعاً بالضحك حتى القائد أخذ يضحك معهم بحرارة.
كان نائب القائد مكروهاً بينهم لهذا كان يعلم في أنه لن يساعده أحد ويلقي عليه سحر الشفاء وأخذ يمسح دمائه بعبائته البيضاء وهو يحدق بصديقه الوحيد الذي كان يلفظ أنفاسه الأخيرة مرتعشاً في بحيرة من دمائه.
ضربه واحدة هشمت جمجمة الحصان وتناثرت مكونات دماغه في كل مكان.
وأغمض عينيه من ضحكاتهم فلم يكن يهتم بهذه السخرية. كان يعلم أنهم يسخرون منه في كل وقت وفي كل مكان ويسخرون منه في وجهه مثل الآن.
كان معتاداً على ذلك. ولكن ، تعرضك للسخرية ورمي نفسك إلى أحضان الموت شيئان مختلفان تماماً .
كانوا جميعاً أغبياء حمقى وأكثرهم غباء كان قائدهم ، كان بنس مير يدرك ذلك تماماً.
لهذا طلب منهم أن يعودوا. وفي الحقيقة كان يشعر بعينين وحش هائل تراقبهم بهدوء من أمامهم مباشرة وكأنه ينتظر قدومهم.
لهذا كان خائفاً حتى الموت. ولو أخبرهم لسخروا منه مرة أخرى فقد كانت مهمته هي رؤية الأوهام كما تفضل القائد بالقول. وكان حديث القائد كتلة من الأكاذيب. فلو قام نائب القائد بالعودة ، لقطع رأسه في لحظة خاطفة عبرة لغيره. كان قائدة لا يعرف الرحمة أبداً.
ومع ذلك كان بنس يدرك في أنه لن يعود أحد من هذا المكان. فقد كانت مهمة كلفهم بها الإمبراطور المقدس. قد يجد البعض فخراً في هذا أو ربما شرف ومجد. ولكن بنس أدرك من الوهلة الإولى في أنه لن يعود حياً مع هذا القائد.
فلو قام القائد بالإطلاع على بعض المخطوطات القديمة لوجد في أن أبطالاً تلاشوا وتبخروا في هذه الأرص.
-" أيها القائد! "
التفت القائد الى أحد أتباعه وقال:
-" ماذا؟ ماذا هناك؟".
رفع الرجل ذراعه وأشار بأصبعه إلى الأمام بصمت. نظر القائد إلى الأمام وهو يضيق عينيه وفي لحظة اتسعت في دهشة وانفجر يضحك بحراره وكأنه لا يصدق ما يراه بعينيه وقال ملتفتاً إلى نائبه متناسياً ما صنع به:
-" هل هذا حقيق ؟.. أنا لا أصدق ذلك !، إنها مزحة، إنها نكتة!، هذا بتأكيد وهماً اليس كذلك ؟!".
هز نائبه رافضاً ذلك.
-" حقيقي.. وأنتم كنتم خائفين من هذا المكان وأنتم مئة رجل عظيم ، ياللخجل !.. إتبعوني! " .
وصفع مؤخرة حصانه بقوة مماجعل الحصان يصهل وكأنه ينوح من الألم وانطلق الحصان يعدو إلى الأمام كالسهم. تبعته فرقته وهم يضحكون تاركين خلفهم نائب القائد الذي كان يمشي على قدميه مغمغماً بكلمات وداع إلى زوجته التي تزوجها مندو شهرين.
ولكنه لم يكن يعلم في أنه سيكون بطلاً بعد هذ اليوم.