توقف القائد هو وفرسانه أمام الشيء الذي قام بإضحاكهم حتى الأن.
كانت امرأة جميلة تقف وكأنها تمثال في وسط الطريق أو المكان الذي كان طريقاً في القديم.
كانت ترتدي بدلة كاملة من الدروع الذهبية المزخرفة البراقة. والتي تم صناعتها باحترافية شديدة وكأنها تحفة فنية رائعة الجمال.
يتدلى أسفل بطنها قطعة قماش قرمزي مستطيل الشكل يصل إلى أسفل ركبتيها. وكان لديها سيفين في جانبي خصرِها وضعوا في أغماد ذهبية مرصعة بالمجوهرات المتلألئة.
وترفرف خلفها عباءة قرمزية نقش عليها نجمة ذهبية ذو عشرة رؤوس.
كانت في أواخر العشرينيات ،ذو شعر كستنائي طويل يتدلى أسفل ظهرها وكانت تطوي ذراعيها فوق صدرها وهي مغمضة العينين.
حدقوا إليها في مزيج من الدهشة والإعجاب والذهول. كانت ذو جمال أخاذ وكانت دروعها الذهبية تتوهج وتلمع تحت أشعه الشمس كالكنوز. إلا أن القائد تعافى سريعاً من ذهوله وابتسم بسخرية من ملابسها المبهرجة.
والتي لم يرى مثلها أبداً .
كانت تبدو فاخرة حقاً ، حتى الإمبراطور المقدس لن يستطيع الارتداء مثلها. ومع ذلك بدت بنظر القائد زينة مفرطة للمظهر وليس لها اي فائدة تذكر في أرض المعركة.
كانت المرأة تقف بشجاعة في هذه الأنقاض الموحشة إلا أن المشكلة بنظره أنها كانت امرأة. فلو كان رجلاً ، لكان محط الأعجاب والثناء. وقد كان القائد يكره النساء المحاربات ، ويشمئز منهم بشدة.
إذ كان يصر في أن مكان المرأة هو في منزلها. في مطبخها. لتُلبي رغبات وطلبات الرجل. بدل أن تقوم بعمل الرجال. والتفت إلى أتباعه وهو يقول بسخرية صريحة :
-" انظروا إليها ، إنها بنفسها وليس معها أحد، هذه هي الشجاعة الحقيقية". وانفجر يضحك ملئ قلبه بصخب. ثم عاد يتفرس فيها وقال:
-" أنتِ أيتها المرأة. يجب عليك العودة إلى منزلك، او تذهبي لحفلة راقصة بهذه الملابس لربما وجدتي عروساً جيداً لكِ. تباً ، لقد كان ميكور اللعين محقاً ، صنعت الدروع للقتال وليس لحفلة راقصة.. لقد فهمت الآن ما كان يقصده " .
-"إيييي !! " انزلقت صرخة مقيتة من أحد الرجال واتضح أنه نائب القائد الذي وصل متأخر وأخذ يحدق إلى المرأة بعينين متسعتين كصحنين. وفي لحظة خاطفة إنزلق من بينهم وفر هارباً على قدميه.
حينها انفجر الجميع بالضحك ملئ حناجرهم من هذا المشهد والذي لم يروه من نائب القائد من قبل. وفكروا جميعا فيً أن نائب القائد لا يناسبه أن يكون رجلاً.
-"ربما كان امرأة لديها شكل رجل!". هكذا قال أحدهم مما زاد من ضحكاتهم .
لم يهتم القائد بنائبه المرأة التي كانت تولول هاربة. وأراد أن يجعل المرأة أمامه ترتعد لكي تعرف الفرق بينها وبين الرجال مثله.
وربما يقوم بتعريتها بعد ذلك لتعود مذلولة مهانة إلى مطبخها الحقير ولا تخرج منه ابداً.
طبعاً ذلك بعد أن يتسلوا بها قليلاً، فلا يمكن أن ينزلق هذا الجمال من بين ايديهم دون أن يدفع لهم مستحقاتهم الرجولية. خصوصاً في هذا المكان المهجور.
كان على القائد العظيم أن يكافئ فرسانه المخلصين. لم تكن هذه المرأة هي الأولى ولن تكون الأخيرة. هكذا كانت حقيقة العالم.
القوي يأخذ كل شيء وينتحب الضعيف تحت قدميه. وأخذ يتساءل في نفسه وهو يحدق إليها: ماهو الصوت الذي ستصنعه من ذلك. وشرع سجال روسو في العمل.
-" أنتِ !!"
صرخ القائد بنبرة حادة صاخبة مليئة بالقوة. كان صراخه القوي الهادر كفيل أن يرعب الأعداء في أرض المعارك ، ويجعل أعتى الرجال يرتعدون، والأطفال يبكون.
إلا أن المرأة كانت على حالها غير عابئة به وكأنها نائمة.
ضيق القائد عينيه ورمقها باحتقار من تحت حاجبيه الكثيفان. كيف تجرؤ على تجاهلي. وعلى هذه الإهانة التي لم يألفها أبداً بصق على درعها الذهبي. وأخذ يدور حولها متفحصاً. حلوة ورشيقة، لابد أنها أجمل تحت هذه الاشياء.. ولكن لماذا لا تجيب هذه المرأة اللعينة؟.
-" أيتها المرأة ، أنا سِجال روسو قائد فيالق الشمس!!، عرفي عن نفسك ؟!!.. إني أُحدثك يامرأة !! ."
أجابت المرأة دون أن تفتح عينيها وبصوت مشمئز قالت :
-" يا لهذه الرائحة الكريهة العفنة!. ألا تعرفون كلمة الاستحمام؟. لاريب في أن هذه هي رائحتكم الطبيعية.. كائنات عفنة!.. ولا تتعلمون أبداً.إذاً ماذا تريدون ؟ هلا أخبرتني أيتها الجيفة الباصقة؟ ".
تشوه وجهه القائد بالغضب الشديد إذ لم يجرؤ الأعداء بالحديث معه بهذا الشكل الحقير ناهيك عن امرأة. وفكر أن يقطع عنقها تلك اللحظة تكفيراً عن ما قالته ، إلا أنه كان يحتاج معلومات عنها قبل ذلك وقال مكشراً :
-"يالكِ من امرأة وقحة تفتقر إلى التهذيب وعدم الاحترام !. يجب أن تُعرِفي بنفسك أولاً قبل كل شيء !. ثم اخبريني ماذا تفعل امرأة لوحدها في هذا المكان ؟!..وما قصة هذه الملابس المضحكة التي ترتدينها ؟!!".
تنهدت المرأة وقالت:
-" نفس الأسئلة في كل مرة ، لقد مرت مئتا عام وأنتم مازلتم تسئلون نفس الاسئلة. حسناً ، في كل مرة أُصر على أن تُجيبوا عن أسئلتي، لذلك، أعتقد أني سأُجيبك، وعلى الرغم من أني لا أفهم لماذا أقول اسمي للجثث".
ابتسم القائد وكأنه سمع نكته ظريفة وقال:
-"جثث؟ ، نحن؟ ، لا تخبريني أنك ستفعلينها ؟، هذا سيكون مخيفا جداً ! " . وعصفت الرياح وتناثر الغبار ورفرفت عباءة المرأة خلفها وكأنها حريق هائلة وحبس الجميع أنفاسهم إذ بدت المرأة كبطل عظيم.
-" أنا ، بلاندر أحد المؤسسيين لعشيرة بنتوس، وأحد القادة الكبار، والخادم المخلص للإمبراطور لينياس بنتوس، حاكم قلعة بنتوس العظيمة. وهذه الأرض تنتمي للإمبراطور" .
-"ماذا ،هل أنتِ مجنونه ! ، ما الذي تقولينه ،هذه مملكة فيرنا !، ما تقوليه سُخف ، ومن هذا لينياس بنتوس ! ".
فتحت بلاندر عينيها وهي تقول :
-" شخص تافه مثلك لا يستحق أن يعرف!".
وبعد تلك الكلمات والتي لم تقل اي شيئاً بعدها ولم تفتح سوى عينيها. اندلع الصراخ من المحاربين وصهلت الخيول باهتياج شديد.
-" شيطان !! ،شيطان ، إنها شيطان !! ، استعدوا للمعركة !!" . صرخ الجنود .
والتفوا حولها بسرعة ممسكين سيوفهم بأيديهم وبعضهم شد أقواسهم وبعضهم رفعوا صولجاناتهم متمتمين بكلمات غريبة.
وقفز القائد من حصانه محطماً بذلك الأرض تحت قدميه وهو يقول :
-" هذه العيون لا تنتمي إلى البشر" .
كانت عيون بلاندر سوداء بأكملها كسماء الليل إذ بدت كجوهرة سوداء وضعت في داخل محجر عينيها وفي منتصف ذلك السواد الداكن نقطة قرمزية أشبه بنيران شمعة متراقصة.
حركت بلاندر تلك النقطتين القرمزيتين إلى الأشخاص حولها وكأنها وحش مفترس يحدق بفريسته. وفي كل مرة تحدق بأحد بعينيها يتجمد الشخص في مكانه من شدة الخوف.
حتى الأحصنة نفسها تتراجع إلى الخلف مذعورة من تلك العيون المحدقة بها.
كانت عيون مرعبة تُشعان الموت والكراهية لكل ماحولها.
إلا أن القائد وضع سيفه فوق كتفه وأخذ يقترب منها مبتسماً بثقة وكأنه يمشي في حديقة. غير عابئ بتلك المرأة وعيونها السوداء و التي أرعبت أتباعه.
كان ذلك عرضاً للقوة والشجاعة، كان موقف البطل الذي جعل أتباعه يصرخون بحماسة ويستعيدون شجاعتهم.
ومع ذلك كان مرعوباً من تلك العيون التي كانت تنظر إليه وكأنه جيفة منتنة.
لقد كان جسده يخزه كالأبر من تحديقها به، ولم يشعر بهذا الشيء من قبل. إلا أنه لا يمكن أن يظهر خوفه في هذه اللحظات، حيث إظهار الضعف والخوف في أرض المعركة يعني الموت الوشيك.
لقد قاتل وحوشاً مرعبة سابقاً وهذه ستكون واحدة من تلك الوحوش.