فتح سالم عينيه وشعر أنه يطفو كالغيوم في هذا المكان العجيب.

كانت غرفة هائلة مترامية الأطراف بدت مصنوعة من أجمل الأحلام. آلاف من الشموع الذهبية الضخمة تسبح في الهواء ، أو ربما السماء في هذه الحالة.

إذ كان السقف يحاكي شكل السماء الزرقاء، وفي السماء عشرات البلورات التي تضيئ المكان بكل الألوان.

شرفات من ثلاث طوابق تحيط الغرفة من ثلاث اتجاهات كدار أوبرا صنعت من خيال. وكانت الغرفة بأكملها بيضاء مشرقة ومزخرفة بنقوش زرقاء متوهجة.

ويحيط الغرفة تماثيل كرستالية بدت كملائكة تحمل بيديها أعلام قرمزية رسم عليها نجمة ذو عشرة رؤوس.

وفي وسط الغرفة سجاد قرمزي وضع في خط مستقيم من باب الغرفة الذهبي حتى تصل إلى ست درجات زرقاء لامعة وبدت تلك الدرجات وكأن في داخلها مئات النجوم المتلألئة.

وفوق تلك الدرجات كان تنين ذهبياً هائلاً، ينشر أجنحته الأربعة ويجلس على ركبتيه ويمد يديه أمامه، خافضاً رأسه الكبير وكأنه يتوسل سيده في أن يجلس على كفيه التي بدت على شكل عرش عظيم.

كان تنيناً مهيباً ،عظيماً ،قوياً. يُشعل الرعب والخوف في النفوس وكأنه سيسحق اي شخص يجرؤ ويخطو خطوة واحدة إليه.

وقد تم صنع هذا التنين كعرش هائل، تجسيداً للسلطة والقوة المطلقة إلا أن سالم وجد نفسه جالساً عليه بكل أريحية.

وهكذا جلس سالم على كفي التنين أو على عرشه، العرش التنين. ونظر سالم بعينيه الذهبيتين المشقوقتين رأسياً كالقطط إلى هذا الجمال المتلألئ.

وفكر في أنه حلم ما. وحدق إلى الأعلام بتعجب وحيرة إذ كانت ترفرف دون نسمة هواء، ولكن الشعار المنقوش على تلك الأعلام كان الأشد غرابة إذ كان ذلك هو شعار عشيرته. ومع ذلك لم يكن وحده في هذه المكان الساحر.

وأنزل عينيه إلى أسفل درجات العرش حيث كانت هناك فتاة في الخامسة عشر من عمرها تقف وتعطي سالم ظهرها ويبدو من منظرها أنها لم تلاحظه إذ كانت تقف كتمثال متألق. وغرق سالم بتفكير عميق وهو ينظر إليها دون أن يبدي أي حركة.

تنهدت الفتاة وأخذت تداعب شعرها الأسود المتجعد الذي كان يلامس كتفيها وبعينين ذهبيتين حدقت إلى السقف المرتفع.

أحبت الفتاة هذا السكون وتمنت أن يستمر إلى الابد. فلو كان الأمر بيدها لقامت بسحق كل من يشوه هذا السكون برمحها الحبيب الذي لا يفارق يديها أبداً.

كان الرمح الذي تمسكه أسود اللون وكان رأس الرمح على شكل قوسين ذهبيين ملتصقين ببعضهم. وكانت الفتاة تردي سترة إرجوانية مطعمة بالفضة وحول عنقها فرو وبري أسود. وكان لديها سروال جلدي يلائم لون حذائها الكريستالي.

وكان لديها قرنين في جوانب رأسها وكانت تتشابك وتتشعب بأنماط معقدة جميلة بدت كتاج من أغصان الأشجار.

أمسكت الفتاة رمحها بكلتا يديها ولوحت به وكأنها تقطع شيئاً في الهواء، وتبع رأس رمحها قوسا ذهبي من الضوء.

لوحت به مرة أخرى وأخرى. وفي كل مرة تعصف الرياح من قوة تلويحها وفي الضربة السادسة فرقعت عظام ظهرها.

آخ ! . صرخت الفتاة متألمة. واتكأت على رمحها كالعجوز.

-" ظهري!. ظهري!. تباً.. هذا ما يحدث عندما لا تقوم بعمل اي شيء لمئة عام".

ورفعت ظهرها في فرقعة شديدة. وأكملت تقول:

على هذا الحال سأصبح صدئة ولن يكون لي اي فائدة تذكر. تباً. سحقاً!".

-" هل تسمحين لي بسؤال؟". ارتجفت سنوريا وكأنها تعرضت لصعقة كهربائية وبعينين متسعتين كصحنين نظرت إلى الرجل الجالس فوق العرش، كان الرجل لديه عينين ذهبيتين بلون الذهب المصهور، وكان شعره الأبيض الكثيف يتدلى من العرش. كان رجل يجلس على العرش بهيبة تليق بملك عظيم. ومع ذلك من المستحيل أن لا تعرفه فقد كان شخصاً منحوتاً في خلايا دماغها ولا يمكن أن تنساه أبدا.

كان شخصاً يقف فوق كل شيء. والشخص الذي تنتمي إليه حياتها. صاحب الولاء المطلق وسيدها المطلق لينياس بنتوس.

انزلق رمحها من بين أصابعه الصغيرة وسقط مفجراً الأرض من وزنه الذي لا يصدق.

وارتجف فمها وتورمت عينيها وانفجرت في البكاء. وقبل أن يقول كلمة واحدة سقطت سنوريا على ركبة واحدة وخفضت رأسها لتنظر إلى الأرض ودموعها تتساقط من عينيها وقالت :

-"خادمتك سنوريا ترحب بعودتك ياسيدي.. سيدي لينياس بنتوس".

وقال بصوت خفيض:

-" أنتِ ؟.. تعلمين من أنا؟ ". رفعت سنوريا عينيها إليه وكأنها لم تفهم هذا السؤال.

وأحس لينياس بحرارة جسده تتقد.

وغرقت الغرفة بألوان قوس قزح إذ انفجرت هالات سحرية من جسده وحامت حوله كدوامة جميلة من كل الألوان. واهتزت الغرفة بصوت عشرات الأجراس غير المرئية، وتوهج العرش التنين بنيران ذهبية مشرقة.

وتدفقت إلى لينياس أشياء هائلة.

أول شيء كان هو القوة الجسدية التي بدأ يشعر بها. ورفع ذراعيه أمامه وشعر أنه يستطيع لوي الفولاذ بهذه الأذرع، بل شعر أنه يستطيع سحق تنين بأصبع واحدة. كان هذا شيئاً غريباً لا يصدق. إلا أنه كان متأكداً تماماً في أنه يستطيع فعل ذلك بسهولة.

تم بدأت تتدفق أشياء أشد غرابة، إذ أيقن أنه يستطيع استخدام السحر من كل الطبقات والمستويات، حتى أنه يستطيع استخدام السحر المفقود كسحر إحياء الموتى.

تم تدفقت إليه كميات هائلة من المعلومات. أسماء أشخاص كثيرين، قدراتهم. قوتهم. أعمالهم. سحرهم. أنواعهم. حتى هذه القلعة كيف تعمل، ماذا يوجد فيها.

كيف تُدار. كيف تم بناءها. من ماذا صنعت.

ثم بدا كل شيء مألوفاً إليه وأدرك أن العشيرة قد عادت إلى الحياة. ولكن لينياس لم يكن يتوقع في أن ذلك السحر سيصنع كل هذا. ولم يكن يعلم في أن ذلك السحر يزداد قوة كلما ازداد عدد التضحيات. وتمتم يقول كلمات تلك المرأة:

-" كائن صنع من احتراق البشر.. من ليلة زرقاء وأُمنية رجل.. لا. بل من كراهية وانتقام رجل". وتفرس لينياس سنوريا بتعجب.

حينها فتحت بوابة غرفة العرش ودخل منها شخصين وما إن شاهدوا لينياس حتى ركضوا إليه وركعوا أسفل الدرجات، ولم يبالوا بتلك الألوان المتراقصة، كانوا يعلمون أن هذا الشيء هو القوة السحرية المتدفقة من سيدهم ومع أنها كانت قوة سحرية هائلة ولم يروا مثلها مطلقاً، إلا أنه في أعماق قلوبهم يعلمون في أن سيدهم لا يضاهيه أحد.

وبصوت رقيق عذب قالوا معاً:

-" نرحب بعودتك المجيدة ياسيدي".

وأخذوا ينظرون إلى لينياس بعينين محمرتان حارتان إذ كانت الدموع تتدفق بغزارة من تلك العيون وتنزلق فوق خدودهم وتتساقط من على ذقونهم لامعتاً تحت وهج الألوان وكأنها حبيبات من الماس.

لم يكن هؤلاء من عشيرته الحقيقية ولم يراهم مطلقاً، ومع ذلك كانوا مثل تلك المرأة التي أحضرته إلى هنا.

وأدرك الآن أن هذا العالم مجنون تماماً وتمتم يقول :

-" من ليلة زرقاء وأُمنية رجل".

رفع الراكعون رؤوسهم متسائلين ولكن لينياس أخذ يتفرس فيهم وكأنه يحاول فهم كل هذا الجنون. إذن هؤلاء هم أتباعي الجدد.. جنون خالص.

كان أحدهم امرأة شابة ترتدي فستان مصنوع من أوراق الأشجار الذهبية والحمراء، وكان الفستان على شكل وردة مقلوبة، ضيقاً من أعلى وكروي من الأسفل كالجرس، ويغطي يديها قفازين من الدانتيل الأبيض.

ولديها شعر بنفسجي يتدلى نصفه أسفل ظهرها ونصفه الآخر مرمي فوق صدرها الأيمن ،

وعلى رأسها تاج من الكريستال الامع، وعلى عنقها الطويل عُقد من المجوهرات الصغيرة وكان يلمع بكل ألوان قوس قزح.

وكان وجهها العاجي وعينيها البنفسجيتين تظهر الجدية والحكمة. وخلف ظهرها كان جناحان بلون شعرها وكانا يتموجان دون توقف كالسنة الهب.

كانت تبدو كملكة خيالية مع أن لينياس يعلم أنها من عرق قديم يدعى افيور وقد شاهد مثلها سابقاً. كانت رئيسة الخدم في هذا المكان وتدعى إليفيا.

بجانبها فتاة وكأنها الخيال نفسه متجسداً. كان عمرها بين السادسة عشر والتاسعة عشر، وكانت رشيقة ونحيفة كالعصى البيضاء التي تمسكها بيديها. وكانت ترتدي ملابس بيضاء حريرية مذهبة من الحواف.

تتكون ملابسها من سروال وقميص ضيق يكشف أعلى صدرها المسطح كالجدار.

ومع ذلك لم يكن بياض بشرتها طبيعي أبداً إذ بدت وكأنها ستُضيئ في اي لحظة من شدة بياضها العجيب.

وكان شعرها الأبيض الطويل يتموج خلفها ككائن حي، وكانت عينيها فضيتين متوهجتين واذنيها مذببتان بشكل جميل.

وكانت تبتسم بشفتيها الورديتان كاشفة عن أسنان مرصوصة كاللؤلؤ.

كان هذا الجمال لن يكسر القلوب ويستحوذ عليها، بل سيحطمها وسيسحقها سحقاً بلا اي رحمة أو شفقة.

كانت إليفيا رائعة الجمال، إلا أن هذه المرأة البيضاء كان جمالها لا يمكن قياسه وكأن جمال كل العالم تم جمعه وتركيزه على هذه الفتاة. كانت تدعى إلفآم.

وكانت نسخة مطابقة من تلك المرأة ذو الشعر الأزرق. ووجد لينياس نفسه يقول لها في ذهول:

-" لاشك أن كل النساء حاولن قتلك؟.. أو ربما الرجال؟". وأخذ لينياس يتنحنح عندما لاح عليها الارتباك. لسبب ما بدت أجمل عندما لاح عليها الارتباك.

هذه الفتاة مخيفة حقاً.. فلو كانت تعيش في ذلك العالم لحكمت العالم بأصابع قدميها.. أو ربما تقاتل الرجال من أجلها حتى ينقرضوا عن بكرة أبيهم.

ووجد نفسه يتذكر تلك الصحفية التي كانت تقول أن الرجال خرفان مريضة. وشعر بكآبة من موتها بهذه الطريقة. تلك المرأة العملاقة عليها الإجابة عن أشياء كثيرة.

ونظر إلى إلفآم وقال:

-" أه. إنه..هل.. هل تعرفين امرأة تشبهك؟ ولكن لديها شعر أزرق.. وهي طويلة كالعمالقة. أحتاج أن أتحدث معها. فهل...". وصمت لينياس إذ شاهدها تحمر خجلاً كتفاحة وقالت إلفآم بصوت رقيق:

-" أنا.. أنا لست.. أنا رجل ولست فتاة ". وحرك لينياس عينيه إلى إليفيا التي هزت رأسها مؤيدة هذا الحديث.

لقد شاهدت وسمعت أشياء غريبة، ولكن هذا أغرب شيئاً سمعته في حياتي.. لاشك أنها تمزح. وأخذ يتفحص جسد إلفآم بعينيه.

هل هذا ممكن ،لا. لا يمكن أن يكون رجلاً، إنه فتاة دون شك،

فلا يمكن أن يكون رجلاً بهذا الشكل. حتى النساء لن يصلوا إلى هذا الجمال أبداً. إليفيا جميلة بشكل لا يصدق ومع ذلك فهي لاتصل إلى نصف جمال إلفآم. وزفر بقوة من هذه الأفكار السخيفة. كان يعلم أن التفكير بهذه الأشياء وهو في هذه الحالة وفي هذه الظروف التي هو فيها ليست سوى افكار رجل مجنون، فهناك أشياء أخرى يجب أن يتم التفكير بها.

ولكن إلفآم قال وهو ينزل عينيه خجلاً:

-" هل تريد أن تشاهد وتتأكد بنفسك؟". صفعة. شعر أنه تلقى صفعة في وجهه. أغمض لينياس عينيه وحدَّث نفسه: لقد استحقيت ذلك.. ولكن هذا جنون.. هل ما زلت أحلم. وفتح عينيه على صراخ إليفيا إذ كانت توبخ إلفآم على حديثه، وفي لحظة تحولت إليفيا من امرأة عذبة إلى قائد عسكري لا يعرف الرحمة:

-" كيف يمكن أن تحدث صاحب الجلالة بهذه البربرية؟! ".

-" صاحب من؟". لم تسمع إليفيا كلمات لينياس واستمرت تقول:

-" وتسمي نفسك نائب القائد العام !".

تمتم إلفآم بذعر:

-" أنا.. لم.. كنت.. إنه سيدي.. من ".

-" اصمت !. يجب أن تعاقب ! ".قالت والتفتت إلى لينياس بخضوع على عكس كلماتها مع إلفآم:

-" يجب أن يعاقب هذا الشخص ويترك منصبه .. وسيكون من اليوم وصاعد أحد الخدم الوضيعين ليتذكر اخطائه ". من المعلومات التي تدفقت إليه عرف أن إلفآم هو نائب سيريوس ولا يمكن أن يخضع إلا لسيده المطلق لينياس والقادة العشرة الكبار وقد كانت إليفيا أسفل هرم القيادة. كانت مجرد رئيسة الخدم.

إذن كيف يمكن أن تتحدث رئيسة الخدم بهذا الشكل مع رجل بهذا المنصب الرفيع؟.. وفوق كل ذلك تهدد بجعله أحد الخدم؟.. ولماذا يبدو إلفآم مذعوراً منها؟.

ولكن كلماتها بعد ذلك أجابت عن تساؤله وجعلته أكثر حيرة إذ قالت:

-" لقد أخطى أخي الأصغر الخجول ويجب أن يعاقب". خجول؟.. لقد أخبرني أنه سيتعرى أمامي لكي اتأكد من رجولته.. وأنتِ تخبريني أنه خجول.

ومع ذلك هذا مربك. كيف يمكن أن يكونوا إخوة؟.. هل كانوا بشر ثم تحولوا إلى هذا الشكل؟.. لا. ليس هذا الوقت مناسباً للتفكير بهذه الأشياء. ومع ذلك ضايقته كلمة خادم وضيع وقال:

-" مهما كان العمل فلا يمكن أن يقلل من قيمة الإنسان".

-" صراصير؟". وبدهشة قال لينياس:

-" ماذا ؟". ردت إليفيا:

-" صراصير..".

-" هل أنتِ بخير؟".

-" أنا بصحة جيدة وجاهزة للولادة، ولكن سيدي تحدث عن الصراصير".

-" لم أتحدث عن الصراصير مطلقاً !". وعن أي ولادة تتحدث.. هل هي حبلى، ولكن بطنها مسطحة تماماً. ولماذا تخبرني ذلك فأنا لا..

رفع إلفآم عينيه وقال:

-" إنها تقصد البشر، فهي تدعوهم هكذا دائماً، إنها مجنونة !". وتأوه إلفآم إذ شدت إليفيا أذنه وقالت:

-" اصمت!، إنهم صراصير.. مقززون ويزحفون في كل مكان.. صراصير!".

-" الصراصير.. أه. اقصد ماذا عن سؤالي عن تلك المرأة ؟". هز إلفآم رأسه رافضاً وقال:

-" لا يوجد أحد يشبهني في قلعة بنتوس". وشعر لينياس بتعاسة من هذه الإجابة.

حينها تلاشت الألوان المتدفقة منه. وتوقف صوت الأجراس. ونهض عن العرش وفتحت بوابة غرفة العرش ليظهر ثلاثة أشخاص. رجل وامرأتان.

2021/06/28 · 90 مشاهدة · 1866 كلمة
نادي الروايات - 2025