19 - العودة الجزء الثاني

كان سيريوس بجانبه إنتوس وريفيريا. هرولوا إلى العرش سريعاً، ولكن إنتوس كانت تركض كالسهم إذ رفعت فستانها إلى مستوى ركبتيها وأخذت تركض والدموع تتساقط خلفها، وفي لحظة وثبت عالياً وكأنها طائر يحلق في السماء.

وبدا شعرها الأسود الطويل كعشرات من الأجنحة المتراقصة وحلقت فوق إلفآم واليفياء وفوق درجات العرش حتى سقطت فوق لينياس الذي رفع يديه ليمسكها وخبطت ركبتيها قاع العرش بصوت قوي ولا شك أنها تأذت وجُرحت.

ولكن إنتوس لم تشعر بشيء تلك اللحظة إذ انفجرت بالبكاء في فورة عاطفة محمومة. واخذت تقبل كل شيء أمامها. عنقه. يديه. وجهه. ذراعيه. كتفيه. صدره. شعره. قبَّلت كل شيء حتى ارتوى قلبها ثم دفنت وجهها في صدره وارتفع صوت بكاءها حتى بدا كالصريخ مخنوق:

-" آآآه!!!. سيدي!!. سيدي!!. سيدي!!. سيدي!!. سيدي!!. سيدي!!. سيدي!!. تأخرت!!.. كثيراً.. كثيراً!!".

وبدهشة قال لينياس:

-" إنتوس لقد تغيرتي كثيراً في ليلة واحدة". ومن الجانب همست ريفيريا في أذنه بكلمات لم يسمعها أحد.

ومن تلك الكلمات أغمض لينياس عينيه وتساقطت دموعه بصمت.

وطوقته ريفيريا بيديها وأخذت تبكي على عنقه و بدت دموع ريفيريا القرمزية وكأنها دماء تتدفق من جرح. وأفرغت النساء كل مافي صدورها من اشتياق. ونزل لينياس أسفل الدرجات وإنتوس مازالت تطوقه بيديها وكأنها كانت تخشى أن يختفي إن تركته. ولكنها تركته عندما قام يحتضن سيريوس.

ومن الخلف احتضنه أحد بقوة وقد اعتقد أنها إنتوس قد عادت لفعل ذلك، ولكن ما إن التفت حتى وجد أنها كانت بلاندر التي كانت تبكي كفتاة صغيرة على خلاف مظهرها الصلب. حينها فقط أنزل لينياس عينيه محدقاً إلى الأرض في ألم وقال:

-" هل تكرهوني.. ". واجهش الجميع في البكاء. وضع سيريوس منديل على عينيه وهو يقول:

-" ما هذه السخافات..". واعتصرته بلاندر بقوة وارتفع صوت بكائها حتى بدا بكائها كنواح وقالت:

-" أنا.. أحبك!.. ". ولكن مع بكاء الجميع لم يسمعها أحد. وفي فورة بكاء إنتوس وضعت يديها على صدر لينياس ورفعت عينيها لتحدق إلى عينيه الذهبية المتألمة. ولكن لينياس اشاح بوجهه عنها. وبسرعة أمسكت وجهه بيديها وحدقت إلى عينيه وتلاقت أعينهم وقالت إنتوس:

-" لماذا ياسيدي تقول ؟..".

-" العشيرة.. والليلة السابقة.. أنا.. لست.. مناسباً..". صرخت ريفيريا وكأن الحديث عن تلك الليلة احرقها :

-" لتذهب تلك الليلة إلى لحية البرفسور!!.. لقد انقضى كل شيء وانتهى. لقد فعلت أكثر وزيادة!!".

-"هالامايا !!.. نعم. لتذهب تلك الليلة إلى لحيتي". واخذ لينياس يبتسم من تلك الكلمات.. شخص واحد فقط يقول كلمة هالامايا دائماً وكأنه يستمتع بتلك الكلمة التي لا يعرف معناها أحد. والتفت إلى البرفسور ووجد أنه يقترب فاتحاً ذراعيه والدموع تتساقط من عينيه غير المتماثلة. واحتضنه لينياس وهو يقول:

-" لم تتغير مطلقاً .. ". قال البرفسور بسعادة غامرة:

-" العباقرة مثلي لا يتغيرون أبداً.. ولا يمكن أن يتركوا هذا العالم حتى تختفي الخرفان من هذا العالم..". والتفت إلى سيريوس واستمر يقول:

-"الم أخبركم أنه سيعود!".

كان البرفسور لديه بشرة مدبوغة بالشمس إذ كان من عرق الجان وكانت إحدى عينيه ذهبية والأخرى فضية وكانت تشعان ذكاء خارق، وكانت جفنيه بلون عينيه إذ كان جفن ذهبي والآخر فضي. مع أنه يبدو أنه قام بصبغها هكذا إلا أنها كانت ألوان طبيعية فقد ولد بهذا الشكل وربما كان ذلك سبب جنونه.

يبدو مظهر البرفسور وكأنه في منتصف الثلاثين من عمره مع أنه تجاوز الثلاثة آلاف عام. وكان ذو شعر فضي مخروطي ينسدل على كتفيه، ولديه لحية فضية صغيرة. وكان يرتدي معطف بلاتيني طويل يكاد يلامس كعبيه، وحول عنقه فرو ذئب قرمزي يتناسب مع سترته القرمزية، وبيده ريشة طائر لا تفارق يديه أبداً.

-" صراصير..".

-" ممم .. ".

-" المعذرة أيها البرفسور، ولكن أنا أختلف معك.. إنهم..". وضع البرفسور ريشته أمام وجه إليفيا وكأنه سيف وقال:

-" لا أيتها الفتاة الصغيرة أنتِ مخطئة.. كم أخبرتك.. كم قمتُ بتعليمك.. ومع ذلك لا تفهمين شيئاً.. ". وفي حركة سريعة ادخل طرف ريشته في أنف إليفيا مما جعلها تعطس. تراجعت إليفيا بعيداً وقد أحنقها هذا الفعل، ولكن البرفسور ابتسم وهو يقول:

-" هذا عقابكِ على جهلك، ولكن عليك شكري على هذا العقاب إذ يقوم المعلمون بضرب تلاميذهم الأغبياء بقضبان حديدية حتى يحطموا جماجمهم. ولكن أنا متسامح وفي هذا المناسبة العظيمة اسمحوا لي أن أقضي على هذا الجهل والتخلف وأخبركم حقيقة الخرفان!". مسحت إنتوس دموعها بمنديل أنتجته من العدم وقالت وهي تضحك بعذوبة:

-" لقد صدَّعت رؤوسنا بهذا الحديث.. ".

ابتسم لينياس وقال:

-" لقد اشتقت لهذه الدروس المجنونة". قال البرفسور بلهجة انتصار:

-" لقد تقرر الأمر إذن ". ولوح بيده بحركة مسرحية لتظهر بيده عصى صغيرة تشبه عصى قائد الأوركسترا وأخذ يدق قرون إنتوس بعصاته ليجذب الانتباه وكأنه معلم يدق سبورة.

لم تمانع إنتوس وهي تمسح دموعها بل ازدادت ضحكاتها من هذا الفعل. ومن خلف ظهر لينياس مطت بلاندر عنقها ووضعت ذقنها على كتف لينياس لتحدق إلى عرض البرفسور وتمتمت تقول هامسة :

-" لماذا العباقرة دائماً مجانين؟". وخنق لينياس ضحكته وطوق بلاندر بذراعه.

وبعد رنين قرن إنتوس أخذ البرفسور يثقف التلاميذ حوله:

-" في قديم الزمان ، قبل أن تتواجد مخلوقات في هذا العالم.. كانت الخرفان تعيش على هذه الارض.

لكن كانوا دائما يتناطحون ويتقاتلون في ما بينهم حتى غرقت الأرض من دمائم. عندها قرر الخرفان المتبقين أن يقوموا بطقوس خرفانية كبيرة ليصبحوا متطورين.

وقد ضحوا بالعديد من رفاقهم للقيام بهذه الطقوس وقد نجحت تلك الطقوس وتساقطت فرائهم واصبحوا يقفون على قدمين واصبحوا ذو ذكاء افضل آلاف المرات واستحالوا إلى عرق جديد يدعى البشر.. هالامايا!".

كظمت إليفيا غيظها من هذا الدرس وبدت وكأنها ترغب بالإعتراض وقول كملة صراصير.

ولكنها كانت قد تصرفت بشكل لا يليق سابقاً، لهذا صمتت.

ولكن ماقاله سيدها المطلق بعد ذلك جعل الجميع يضحكون عدى البرفسور وسيريوس. إذ قال لينياس:

-" لا أعتقد أني كنت من الخرفان.. فقد كنت من البشر قبل لحظات". وكان لينياس على وشك الاستمرار بالحديث إلا أن سيريوس طلب منه أن ينتظر، وطلب من إليفيا وإلفآم وسنوريا الخروج من غرفة العرش إذ أخبرهم أنهم سيعقدون اجتماع للقادة الكبار. وقد خرجوا طائعين بعد تقديم احترامهم إلى سيدهم لينياس إذ ركعوا أمامه ووضعوا أيديهم على صدرهم الأيسر وطلبوا الإذن منه بالرحيل. وبعد خروجهم دخل أربعة أشخاص.

في مقدمتهم رجلاً ضخم بطول مترين ونصف. ذو جسد عضلي. وكانت عينيه خضراء بلون شعره المجعد الذي بدا كطحال البحر، وكان يرتدي سروال جلدي أسود أبيض من الجانبين. ويرتدي سترة من فرو الدببة البيضاء، وكانت ذراعيه العضلية عارية إلى الكتفين كان يدعى هيكروس.

بجانبه رجل يرتدي بدلة كاملة من الدروع والتي كانت نسخة مطابقة من درع بلاندر عدا أنها ذو لون بلاتيني، وكان لديه سيف واحد في خاصرته. كان الرجل ذو شعر أبيض شائك، ولديه عينين زرقاوتين ناعستين بدا وكأنه يمشي وهو نائم. كان يدعى سيلفر.

وخلفه رجل بدت عينيه السوداء حادة كموس الحلاقة. وكان لديه شعر أسود طويل تم ربطه بشريط ذهبي في نهايته، وكان يرتدي ملابس سوداء وكأنها صنعت من ظلام الليل، وعلى بطنه وصدره درع أسود لامع يأخذ شكل عضلات صدره وبطنه المنحوتة. وعلى ظهره سيف رفيع. كان يدعى بنياس.

وبجانبه رجل يبدو كزعماء المافيا والعصابات إذ كان يرتدي بدلة فاخرة سوداء ، وفوق كتفيه معطف طويل أسود. ولديه شعر ذهبي تم تمشيطه جيداً ولحيه خفيفة بلون شعره، وبدت عينيه الخضراوتين مليئة بالعطف والحنان. كان يدعى إنجوس.

كان هؤلاء هم القادة العشرة الكبار والمؤسسين لعشيرة بنتوس إضافة إلى قائدهم لينياس. وبعد الدموع والأحضان بدأ لينياس بالحديث عن كل شيء. وأخذت إنتوس تتساءل في قلبها هل تخرج من الغرفة أم لا. إذ لم تكن إنتوس أحد القادة الكبار.

كان القادة في قمة خاصة بهم فقد حملوا العشيرة فوق أكتافهم وضحوا في سبيلها بكل شيء. لهذا كانت تعلم أنهم يقفون في نفس المكان الذي يقف فيه قائدهم، في مكان مرتفع عنها كالسحاب. كانوا يدعون القادة العشرة، ولكن في الأصل كانوا تسعه بالإضافة إلى قائدهم لينياس، لم تكن تعلم ماذا يعني ذلك. ومع ذلك كانت تحسدهم وتتمنى أن تقف في نفس المكان الذي يقفون فيه مع سيدها.

وبما أنه لم يُطلب منها أن تنصرف ظلت تنصت بصمت.

ولكن حين استمر سيدها بالحديث بدأت إنتوس تشعر بالغثيان وأخذت تحمر وتصفر وتخضر واشتعلت نار حارقة في صدرها جعلتها ترتجف من حقارة البشر. وبصقت في قلبها على البشر.

وبعد الحديث الطويل في ما بينهم صرخت إنتوس وشهقت ريفيريا وشحب الجميع مما حدث فقد سقط لينياس على الأرض مغشياً عليه. وتم نقله إلى غرفة خاصة. وقد اخبرهم البرفسور أنه بخير ولكن عقله تعرض لإرهاق شديد لهذا يحتاج إلى النوم.

ولكن إنتوس ظلت تبكي دون انقطاع لعدة أيام، فلم ينهض لينياس من نومه لعدة أيام وخشيت إنتوس أنه لن ينهض بعد الآن وأقسمت أنها ستقتل نفسها هذه المرة، وبعد أن أخرجوها من غرفة لينياس بالقوة أخذوا يتناوبون على العناية به، ولكن كلمة العناية كانت بسيطة وفي الحقيقة كانت القلعة بأكملها في فوضه وامتلئت غرفة لينياس بالحشود بشكل مستمر حتى انفجر البرفسور صارخاً: لن يصحو وأنتم تقفون بجانبه هكذا!.

وتدافعوا ليخرجوا مسرعين من الغرفة حتى إنتوس لم تتجراء في دخول الغرفة خوفاً على صحة سيدها مع أنها كانت تحترق شوقاً لرؤيته. وعلى الرغم من أنهم استخدموا كل أنواع السحر فلم ينهض. وبعد خمسة أيام فتح لينياس عينيه. ولكنه لم يكن يعلم في أنه لن ينام بعد الآن.

2021/06/28 · 87 مشاهدة · 1407 كلمة
نادي الروايات - 2025