في هذه الليلة من تاريخ 10819 من عام القمر. غرق العالم بلون الدماء إذ كان في سماء الليل قمرين كاملين متوهجين بلون الدم،

ويلقي القمرين ضوئهما ليصبغا العالم بلونه الأحمر وكأنهما يرحبان بالموت القريب.

زمجرت الرياح الباردة كذئاب جائعة. وتدافع السحاب في السماء وكأنها تفر هاربة من المكان. نعقت مئات الغربان وهي تحوم فوق المدينة بصوتاً مشئوم وكأنها تعلن بداية الجنون.

وفي هذه المدينة وهذا المكان وهذا الزمان. طار شخصان في السماء بفضل سحر الطيران، وحلقوا فوق المباني والقصور والطرقات. وبعد الوصول إلى منطقة سكنية انحدر الشخصين من السماء ببطء حتى لامست اقدامهم أرضية الطرقات الحجرية وأكملوا سيرهم على الأقدام،

في شوارع هذه المدينة التي كرهوها بشدة حتى العظام ، كانوا يسيرون جنباً إلى جنب بخطوات هادئة، ساكنة كشبحان، كانوا يرتدون عباءة سوداء تخفي اجسادهم ووجوههم.

ربما كانوا محظوظين أو ربما كان ذلك من سوء حظ مملكة فيرنا إذ لم يعترض طريقهم أحد.

ربما كانوا نائمين في هذا الوقت المتأخر من الليل.

أو ربما كانوا يختبئون في منازلهم بسبب هذه الليلة التي تنذر بالشؤم. لم يعلم أحد شيئاً.

ولكن هذه التساؤلات لم تكن تعني شيئاً إلى الشخص الذي كان يسير في المقدمة، أي شخص يعترض طريقه سيصبح جثة تسبح في دمائها، وقد بدا تعطشه للقتل جلياً تحت غطاء الرأس إذ توهجت عيناه بلون الذهب المصهور،

تلك العيون كانت تنذر بالويل. ومع ذلك لم يرغب الرجل في جذب الانتباه. وقد كانت لديه مهمة لابد أن ينفذها في هذه اللحظات.

توقف الرجل في أحد الشوارع الضيقة وقال وهو يشير إلى الارض بأصبعه بصوت هامس :

- "إنه هنا ، هذا هو المكان".

كان يشير إلى نجمة ذو عشرة رؤوس تم رسمها بشكل فوضوي تحت قدميه.

وجثى الرجل على ركبتيه وقام بمداعبة رسم النجمة بأطراف أصابعه والدموع تتساقط من عينيه ، و قال :

-" إنجوس فعلها ،على الرغم أنه كان معترضاً على هذه الخطة، إلا أنه فعلها عندما أمرته بذلك، دون أن يعترض ، دون.. دون أن يقول شيئاً ، وحتى دون أن يرمش بعينيه ، وقبلَ أوامري بوجه مستقيم وكأنه كان ذاهباً إلى المجد....".

وبكى الرجل بحرقة وانهمرت دموعاً غزيرة من عينيه وتساقطت على الأرض وبدت الدموع وكأنها دماء في ضوء القمر. واستمر الرجل يقول :

-"أنا قتلته.. أنا أرسلته إلى موته.. كيف استطعت أن أفعل ذلك.. جعلته يهاجم هذه المملكة اللعينة لوحده، لقد كان أقوانا جميعاً.. ياله من رجل.. قوياً حقاً، لقد رأيت قتاله بعينيَ هاتين.. كان يضحك.. هل تصدقين ذلك يا إنتوس؟ يقاتل جيشاً من عدة آلاف بيديه العاريتين وهو يضحك؟.. ولكن، لا أدري حقاً لما كان يضحك.

هل كان يضحك على مصيره الذي القيته عليه؟ أو كان يضحك علي أنا وعلى ضعفي اللعين؟.. ولكنه مات.. لقد ماتوا جميعاً، ولم يبقى أحد إلا نحن فقط، ولكن.. إنجوس أنجز واجبه، وحان الوقت الذي أنجز فيه واجبي ! ".

وصمت. ثم ارتعد وارتجف الرجل وشعر أن جسده يغلي ودمائه تفور وانتفض واقفاً وهو يقول :

- "سوف أُعيدهم جميعاً ، فل نقوم بهذا !".

وانتزع العباءة التي كانت تخفي مظهره كاشفاً عن رجل شاب، ذو شعر أبيض كثيف يتدلى أسفل ظهره، وبدا شعره الكثيف وكأن ذئباً ملقى فوق رأسه، وكان لديه عينان ذهبيتان مشقوقتان رأسياً كعيون القطط.

وحدق بتلك العينان إلى الشخص بجانبه والذي رمى العباءة في نفس اللحظة.

كانت فتاة جميلة تبدو بعمر الثامنة عشر ، ذو عينين بنفسجيتين، وشعر أسود قصير يصل إلى كتفيها وكان لديها زوج من القرون تبرز من مؤخرة رأسها. كانت من عرق رونيا، وكانت تبكي وترتجف مثل الرجل وهي تقول :

-"سيدي.. لينياس بنتوس، أرجوك لا تفعل ذلك، سأقوم أنا بهذا.." . ونظرت إلى لينياس نظرات متوسلة في أن يعيد النظر.

وبوجه ممزق بالألم قال لينياس :

-" سيدي؟ ، عن أي سيد تتحدثين عنه؟ ، لم يبقى إلا أنا وأنتِ ، ولكن.. لا بد أن أفعل ذلك. هذا هو واجب القائد". فتحت إنتوس فمها راغبة أن تعترض على هذه الكلمات إلا أن سيدها قاطعها قائلاً :

-"اسمعيني جيداً يا إنتوس.. أنتِ تعلمين أن عشيرتنا لم تكن تربطها رابطة الدم .

قد كنا أشخاص من مختلف الاعراق هاربين من الموت، وقد أقمنا عشيرة صغيرة لأنفسنا.. لقد أحببنا بعضنا البعض وأقسمنا أن تكون عشيرتنا هي العشيرة التي ننتمي إليها بغض النظر عن أعراقنا المختلفة، وأن يكون ولائنا أولاً وآخِراً لعشيرتنا ،وقد نصبوني حاكماً عليهم ، وأنا لم أكن أرغب في ذلك مطلقاً.

كنا نرغب أن نعيش في سلام ، إلا أن هؤلاء ! ، هذه المملكة اللعينة !، مملكة فيرنا الحقيرة!، قامت بدهسنا تحت الأقدام وسحقتنا سحقاً، قتلت عشيرتنا وكأننا حشرات يجب أن يتم سحقها ، ليس لسبب إلا أننا لسنا بشر.

هؤلاء البشر الحقراء، إني أكرههم، والعنهم وأشمئز منهم اشمئزازاً شديداً ! ". واحترق وجهه بكراهية شديدة وتوهجت عيناه كجمرتين واستمر يقول :

-" لقد كانت عشيرتنا عشيرة صغيرة تعيش في الغابة المظلمة في سلام، ولكن ، فيرنا... قامت بغزونا لأنها قوية. وقامت بقتلنا بعد تعذيبنا بأبشع الطرق.

لقد رأيت كل ذلك يحدث أمام عيني، و مازلت أتذكر أصوات الصراخ والدماء تتطاير في كل مكان.. لقد قتلتهم وانتقمت منهم.. ولكن القتل لا يعيد الموتى إلى حياة.. كانت عشيرتنا قوية ، لكنها لم تستطع الصمود في وجه جيش مملكة فيرنا المنظم والمزود بالأسلحة المسحورة.

وقد تركنا أرضنا ، إلا أنهم طاردونا سنيناً طويلة حتى لم يبقى منا... ".

ونظر إلى إنتوس بذلك الوجه الغاضب وقال :

-" وأنتِ تخبريني أن لا أفعل ذلك.. هل جننتِ يا إنتوس ؟!!"

قالت إنتوس والدموع تجري من عينيها:

-"أنا لن أُسامح البشر أبداً وإني أكرههم كرهاً شديداً حارقاً ، وأرغب في موتهم و إحراق هذا البلد عن بكرة أبيه ، لكن، موتك في سبيل ذلك شيئاً لايطاق أبداً ! . لماذا لا نقوم بإحيائهم ونهرب بعيداً ؟!".

-" ما زلتي تعودين لهذا الحديث، هذا دليل على غبائكِ الشديد يا إنتوس ، اولاً ، سحر إعادة الموتى لم يعد له وجود، وقد سمعت من البروفسور أنه يحتاج إلى أشياء جنونية لكي يعمل".

ضحكت إنتوس والدموع لم تتوقف عن الجريان من عينيها وقالت:

-" ياله من اسم غريب ".

إبتسم لينياس وهو يقول:

-" آه ، هذا صحيح، لقد أحب هذا الاسم ،وطلب منا أن ندعوه بهذا الاسم دائماً ،حتى أنه صرخَ في وجهي عندما دعوته باسمه الحقيقي".

وقام ينظر إلى القمرين الدمويين المتوهجين وأخذ يتذكر تلك الأوقات المسالمة، وللحظة خيل إليه أن القمرين الدمويين هما عيون ريفيريا التي كانت تحدق به من السماء غاضبة لخداعها.

وحدَّث نفسه: لقد أرسلتها إلى مكان بعيد.. لعلها تجد السلام والسعادة مع سيريوس. وتموج شعر لينياس بفضل الرياح، وعاد يلتفت إلى الفتاة التي رفضت أن تتركه حتى في الموت. ووضع يديه على كتفيها وقال :

-"حتى ولو أعدناهم إلى الحياة فسوف يتم قتلهم كما في السابق، لهذا نحتاج للقوة ، بل للقوة الوحشية الهائلة !. أكره أن أعترف بذلك ، إلا أن مملكة فيرنا قوية وهائلة في كل شيء ، ولكنها ستنتهي هذه الليلة وتصبح غباراً. سيكون هذا انتقامنا ، ومن أرواحهم سنولد من جديد مثل طائر الفينكس الذي يتحدث عنه البرفسور".

وأخرج من ثيابه جوهرة سوداء كسماء الليل ووضعها فوق النجمة المنقوشة على الأرض وقال :

-"هذا المكان هو منتصف مملكة فيرنا اللعينة".

2021/06/28 · 416 مشاهدة · 1108 كلمة
نادي الروايات - 2025