استلقى لينياس على سريره. وقد مر عشرة أيام على خروجه من القلعة حينما هاجمه الصيادون.
وقد عرف الآن أن القلعة تتكون من عشرين طابق ، وأن الطابق العاشر بأكمله والذي هو فيه الآن لاستخدامه الشخصي فقط.
كان هذا سخيفاً بالنسبة إليه فقد كانت القلعة هائلة الحجم وفي مقابل ذلك كانت طوابق القلعة واسعة وكأنها لا تنتهي. غرفة صغيرة كانت مناسبة له أما هذه الغرفة فكانت أشبه بشقة فاخرة وكانت الأبواب الداخلية تؤدي إلى غرف أخرى. غرفة الحمام وغرفة للملابس وغرفة مكتب وغرفة تحتوي على اشياء غريبة من صنع البرفسور مثل الجرع السحرية.
ولكنه في الحقيقة شعر بالملل والضجر من كل ذلك. وحتى عندما يتحدث مع أحد يبدأ الشخص بالتصبب عرقاً دون أي سبب.
وحرك عينيه إلى زاوية الغرفة ليحدق إلى سنوريا التي كانت تقف دون أي حركة حتى أنه اعتقد أنها لا تتنفس. ولكن سنوريا اثبتت أنها صداع حقيقي إذ كانت ترفض أن تترك لينياس وشأنه. كان يطلب منها أن تخرج وفي الحقيقة كانت تخرج ولكن لثانية فقط ثم تعود إلى الزاوية وتحدق إليه بعينين لا تطرف. ويعود يطلب منها أن تتركه ولكنها تعود في لحظة خاطفة. في احد المرات ضاق ذرعاً منها وأخبرها أنه سيغير ملابسه ويظل عارياً طوال اليوم وقد اعتقد أنها ستحمر وترتبك وتفر هاربة لتتركه وشأنه ولكنه تفاجئ عندما لم تتغير ملامحها إذ كانت تحدق به مثل الآن كتمثال، فقط عينيها بدت حيه. يكاد لينياس يقسم في أنها تفعل هذا لكي تخيفه.
لهذا اختار أن يتجاهل وجودها.
ومع ذلك لم يستطع أن يشعر بأدنى راحة. كيف يمكن أن يظل الرجل مسترخي وهناك فتاة تحدق به دون أن تطرف. وعاد ينظر إليها وهو يتذكر بعض أفلام الرعب وخيل إليه أنها ستتحول إلى مخلوق مخيف وتنقض عليه.
-" أليس هناك شيئاً تفعلينه؟.. عمل ما مثلاً؟..".
-" أنا أعمل الآن..".
-" صحيح أنتِ تعملين، ولكن هذا عمل مضجر ومرهق.. لماذا لا تعملين شيئاً أهم من ذلك؟".
-" لا يوجد أهم من هذا العمل، إنه أعظم شرف".
-" ولكن لا احتاج إلى حراسة.. ربما في الخارج ولكن هنا من سيهاجمني؟".
-" لا أحد يعلم لهذا على سنوريا أن تظل على اهبة الاستعداد".
-"أنا أعطيكِ إجازة ياصغيرتي إذهبي والعبي قليلاً".
-" سنوريا تعمل مدى الحياة".
-" لا تحبين حديث الفتيات.. هناك سيلين إنها في مثل سنك.. إذهبي واعملوا حفلة شاي أو شيئاً ما".
-" سنوريا لا تشرب ياسيدي". غمغم لينياس :
-" لا تشربين.. الأكل أفضل من الشرب إذهبي واعملي حفلة ".
-" إنها أمور مزعجة ياسيدي".
-" أي أمور ؟".
-" الأكل والشرب". حدق لينياس إليها وقد أدهشته هذه الإجابة وقال:
-" الأكل والشرب أمور مزعجة.. هذه إجابة غريبة حقاً.. لماذا هي مزعجة؟.. ربما لأنك تحبين اشياء معينة".
-" لا ليس كذلك.. ولكن بعد الأكل تخرج أشياء مقرفة من كل مكان.. إنها مقززة.. سيدي هل قلت شيئاً خاطئاً؟". كان لينياس يرتج من شدة الضحك:
-" أه.. ليس.. هئ هئ هئ هئ.. هذا.. هئ هئ. لا . لم .. لم تفعلي شيئاً. أه. إذن.. أنتِ لا تحتاجين إلى الطعام والشراب.. هذا حقاً رائع.. بفضلك أشعر بالانتعاش الآن". واعتدل جالساً على سريره وأشار إلى أحد المقاعد وقال:
-" احضريه.. هذا المقعد". وبحركات أنيقة أخذت الكرسي ووضعته بجانب السرير وظلت واقفة بجانب الكرسي كالجندي المحترف.
-" اجلسي ياصغيرتي.. ". ركعت سنوريا على ركبة واحدة بجانب الكرسي.
-" لا.. اجلسي.. اجلسي على المقعد.. ".
-" أرجو أن تغفر رفضي لذلك ياسيدي". انتم تقتلوني بهذه التصرفات المضحكة.
-" أنا أريد أن أتحدث معك.. لهذا اجلسي".
-" ولكن هذه هي الطريقة المناسبة لتلقي كلماتك العظيمة.. فالجلوس مع السيد الكبير على نفس المستوى شيء لا يغتفر أبداً". وبصبر نافذ قال لينياس:
-" اجلسي.. لن أعيد كلماتي مرة أخرى". ورمقها بنظرة مهلكة. اعترت سنوريا رجفة وجلست طائعة على المقعد وانزلت عينيها إلى الأرض بقلق.
-" هل تتذكري حياتك قبل الآن ياصغيرتي؟.. أعني كيف أتيتي إلى قلعة بنتوس.. هل تفهمين ما أعني؟". ودون أن ترفع عينيها قالت بصوت يوحي بالذعر:
-" لا أعلم ماتريده مني ياسيدي.. ولكن لقد ولدت هنا".
-" تقصدين أنك فتحت عينيك ووجدتي نفسك هنا، صحيح".
-" لا. لقد ولدت هنا بفضل قوة سيدي، وتمت رعايتي منذو طفولتي حتى صرت شابة.. لقد أحاطني سيدي بعطفة ورحمته واعطاني منصباً عظيماً". ونفخت صدرها بفخر واستمرت تقول :
-"أنا.. أنا عبدة سيدي المخلصة.. ". هل تمزحين معي؟.. كيف ولدتي هنا؟ لقد اخبرني الجميع أنهم عادوا إلى الحياة ووجدوا الأتباع كما هم الآن..إذن، لماذا تقول أنها ولدت هنا؟.. جميعهم يعطوني نفس الإجابة. لا. قالت بفضل قوة سيدي، إذن، هي تعلم الحقيقة. ولكن لابد أنها ذكريات مزيفة زرعت في عقولهم.. مممم. لحظة، لحظة، ماذا قالت الآن؟.. عبدة..
-" أنتِ لست عبدة لأي أحد هل تفهمين؟". رمقته بنظرات شاردة وكأن تلك الكلمات كانت لغز عجيب بالنسبة إليها. ولكن لينياس لم يهتم بهذه النظرات ونهض من على السرير وأخذ ورقة فارغة من فوق الطاولة ثم قام يكتب عليها بريشة طائر غريبة وأعطاها إلى سنوريا كي تقراءها. ولكن سنوريا لم تستطع قرأءة تلك الكلمات.
-" لا تستطيعين قراءتها إذن.. لاشك في ذلك فهذه هي اللغة العربية. لغة غريبة في هذا العالم.. ماذا هناك؟..".
-" أنا لا أستطيع قرأءتها.. ولكني أعرفها جيداً". وفي دهشة قال لينياس:
-" تعرفيها؟".
-" نعم. إنها لغة السحر القديم". وشعر بالضيق من هذه الإجابة فقد كان مهتماً بما ستقوله ولكن إتضح أنها كانت تمزح أو هذا ما كان يعتقده. واعترته رغبة بالخروج من هنا والقيام ببعض الجولات. وقبل أن يقوم بفتح الباب أسرعت سنوريا وفتحت الباب قبل سيدها لتجد خمس فتيات كنَّ يقفنَّ خلف الباب. بدا جمالهن وملابسهن الجميلة كالأميرات في القصص.
إلا أن لينياس لم يندهش من مظهرهن وقد خاض حديث طويل معهن حتى جف حلقه.
إذ كن يصررن على دخول غرفته استعداداً لخدمته. وقد رفض لينياس ذلك، وطلب منهن أن يدعوه لوحده إلا أنهن رفضن رفضاً قاطعاً ، وبعد صراع طويل أصدر اليهن أمراً بوجه لا يقبل النقاش والجدل أن يدعوه لوحده. خرجت الفتيات بطاعة وبكل احترام ذلك الوقت.
كان لينياس يعرف أنهن الخدم وبنفس العرق التي تنتمي إليه رئيستهم إليفيا ، هذا فقط كل ما يعرفه حتى أسمائهم لا يتذكرها.
فقد كان يعلم فقط اسم قائدة الخدم لهذا اليوم وهي تدعى ساندرا . فلا يمكن لأي شخص أن يتذكر كل الأشخاص والمعلومات دفعة واحدة ، وقد نسي العديد من الاسماء. لهذا لم يعرف لينياس كيف يستجيب وهم ينظرون إليه بإعجاب شديد.
رفع لينياس يده وقال :
-" مرحباً ". هذا كل ما ستطاع أن يفعله . إلا أن تلك الكلمة جعلت أعينهم تضيء كالمصابيح ، وأمسكن بأصابعهن الصغيرة الناعمة حافة فساتينهن البيضاء وانحنوا كا أميرات في حفلة راقصة. وقالوا بوقت واحد:
-" كل الشرف والفخر لنا ياسيدي " .
-" الم أقل لكم أن تفعلن شيئاً آخر غير الوقوف هنا؟ " .
قالت ساندرا وهي على نفس وضعية الترحيب ، والتي كان لديها شعر ذهبي متجعد على الطريقة الفرنسية :
-" أسمح لنا أن نرفض ياسيدي، فنحن خدمك لهذا اليوم، ولا يوجد شرف يضاهي هذ العمل".
-" اي شرف هو هذا؟.. من تعتقدون أنني أكون؟ ". وبدا يشعر بالتعب من هذه الأفعال واستمر يقول :
-" أفعلن ما تردن " وسار مبتعداً .
-" شكري الجزيل " . قالت. ورفعن رؤوسهن وتبعوا سيدهن بكل أناقة.
قالت ساندرا وهي تسير خلفه :
-" هل تسمح لي بالحديث يا سيدي".
-" لكم أكره هذه الكلمات ".
-" سيدي ؟ ".
-" لا ، لا شيء كنت أفكر ببعض الأمور " .
-" أه ، يرجى أن تغفر لخادمتك المخلصة مقاطعة أفكارك و- ".
قال لينياس مقاطعاً حديثها:
-" ماهو السؤال؟ "
-"ن.. نعم ، إلى أين أنت ذاهب ياسيدي؟ " .
-" لا أدري أعتقد أني سأذهب للقاء ريفيريا. أو ربما توصين لي بمكان ما؟".
لم ترد ساندرا عن الكلمات الأخيرة وقالت :
-" لكن، اليس من الأفضل أن تدعوها إليك ، هذه هي الأداب المناسبة".
قال لينياس باقتضاب:
-" لا فرق في ذلك ". وأغلق بذلك الحديث وساروا صامتين ولا يُسمع سوى قرعُ أحذيتهم في الممر.