28 - المستوطنة الجزء الثالث

كانت مدينة صغيرة، بيوتها على شكل قصور صغيرة كئيبة بائسة، وتفصل في ما بينهم الطرقات الحجرية المستوية، وأعمدة النور المنتصبة بجانبي الطرقات والتي تشع ضوئها الكئيب المصفر.

وفي تلك الطرقات العديد من الهياكل العظمية التي كانت تسير بحركات أنيقة كالجنود المحترفين.

وفي وسط هذه المدينة قصراً أشد غرابة وبؤساً من المباني حوله إذ كانت أبراجه العالية ملتوية كقرون الماعز ، وكانت اسراب من الخفافيش تلتف حول الأبراج كدوامة سوداء مصدرة بذلك أصوات تجلب القشعريرة.

وكان العديد من التماثيل الكئيبة تتدلى من جدران القصر، بعضهم يقف مقلوباً على قدميه في الهواء في تحدي كامل للجاذبية.

وآخرين يجلسون القرفصاء في الهواء أمام الأبراج ، وأمام بوابة القصر الحمراء يقف أشخاصاً لا يُرى من ملامحهم سوى أعينهم الحمراء.

وفي داخل أحد غرف هذا القصر المخيف البائس. كان التناقض الصارخ. كان الجمال بعينه.

ثريات حمراء بلون الدم تشع بكل الألوان تتدلى من سقفها العالي الأسود. أرضية رخامية سوداء كالليل تحيطها جدران حمراء بستائر سوداء مرشوشة بجواهر تلمع كالنجوم.

وفي وسط هذه الغرفة العجيبة ، كانت امرأة آية في الجمال تجلس فوق عرشها الصغير المصنوع من عظام البشر. كان العديد من الخدم يلتفوا حولها . خادمة تمشط شعرها القرمزي بحنان. خادمتان تُلَمع أظفارها الطويلة الامعة.

خادمة تضع المساحيق لتزيد من جمالها الذي يحبس الأنفاس. خادمة تمسح العطور على ذراعيها البيضاء الشاحبة و على أذنيها وحاجبيها وساقاها المكشوفتان من الأمام .حتى أنها كانت تضع العطور بين أصابع قدميها. كانت الخادمات منكبات على هذا العمل بكل تركيز واهتمام وهم يتهامسون بكلمات غير مسموعة والابتسامات العريضة تزين وجوههن الجميلة.

قامت الخادمة التي تمشط شعرها بالهمس في اذن سيدتها وهي تبتسم ابتسامة جميلة. وقالت سيدتها :

-" سيدي لن يفعل ذلك مطلقاً". وأطلقت تنهيدة متعبة واستمرت تقول :

-" فقط لو كان سيدي متوحشاً كالرجال الآخرين ... ولكنة قاسياً كصخرة صماء. بل أشعر أنه ازداد جموداً.. ما هذا الجحيم ".

-" لا أعتقد أن السيد الكبير يوجد مثله من الرجال ، ايضاً.. لا أعتقد أن الرجال متوحشين ياسيدتي ". هكذا قال نائبها والذي كان يقف مستقيماً بجانبها كلوحاً من الفولاذ وهو يضع كفيه فوق مقبض عصاته البيضاء المصنوعة من العاج.

كان يدعى كلكامش دو إمبرادور. كان شاب وسيم ، شعره ذهبي طويل كالذهب المغزول. وكان يرتدي ملابس أرستقراطية في مزيج من الأسود والأحمر ولديه ربطة عنق مزركشة. بدا كرجل نبيل حسن الهندام حاد الذكاء.

انفجرت الخادمات بالضحكات على كلماته. قالت سيدتهم ريفيريا نايتمير وهي تضع ساق على أخرى :

-" أنت لا تفهم ، ولكن هن يفهمن ما أقصده ".

تنهد الرجل وقال :

-" حتى أنكِ لا تستطيعي وصف الأشياء جيداً.. وما الذي تفعلينه على كل حال؟ " .

ضيقت سيدته عيناها القرمزيتان وقالت :

-" كيف يمكن ألا تفهم هذا ؟، هل أنت رجل حقا؟ً " .

تدلى رأس الرجل في صدره وقال :

-" أشعر أن غبائك بدا يتغلغل في عقلي. لهذا سأقدم لك نصيحة قبل أن أفقد عقلي وأُصاب بالغباء بسببك ".

-" أنت هو الغبي ، لذلك قل ما لديك سريعاً ربما كان مفيداً.. لماذا تنظر إلي هكذا؟ ما بك ؟ ..قل ما لديك؟ " .

للحظة فكر نائبها كلكامش أن يغرس عصاته في قلبها ويرتاح من هذا الألم. إلا أنه أخذ عدة أنفاس ليستعيد هدوءه وقال :

-" أولاً.. ضعي عليك العطور بشكل معقول إنها قوية وخانقة ، ولا أعتقد أن أي شخص لديه أنف سيتحملها. ثانياً.. وهو الأهم . إذا أردتِ أن تنالي أعجاب السيد ، عليك أن تقومي بإنجازات عظيمة ".

-" هذا ما أفعله الآن ~، ألا ترى ذلك ~ ".

-" لقد فهمت الآن لماذا قام أتباعكِ السابقون باغتيالك".

قالت :

-" حقاً؟.. لماذا أيها الأحمق؟".

قال :

-"إنه بسبب غبائك ".

-"هاه~ . أنت أحمق ~ ، ليس لهذا ، لقد كانوا يغارون من جمالي ~ ". وضحكت هي وخادماتها ضحكات جميلة.

إلا أن نائبها لم يبتسم وقال ببرود .

-" قومي بتحريك مؤخرتك وافعلي شيئاً ما. وإلا أقسم أن أقوم بغرس عصاتي في قلبك".

-" ماذا !.. أنت.. هل أنت جاد ! ؟" .

-" نعم ، أنا جاد ، سأفعلها قبل أن أموت من الغباء ".

صرخت ريفيريا وقالت :

-" ها ! ، وماذا تريدني أن أفعل؟ ، أن أقول سيدي اعطيني شيئاً أفعله أريد أن أُقدم إنجازات. هذه سخافات ! ، أنت تعرف أن كل شخص ينام على بطنه من مشدة الملل ولا يعرفون ما يفعلون. ولكن ، سيدي قد عاد وستتغير الأمور قريباً ، علينا فقط الصبر هذا كل شيء! ".

-" ألا يكفي ما فعلتيه في غرفة العرش، فقد كان القادة الكبار مستائين من غبائك ، فقد خربتي ما كانوا يخططون له مندو زمن ، وربما كنا سنفعل شيئاً آخر غير الوقوف هنا دون أن نفعل شيئاً . حقاً.. يجب أن تُعدمي لغبائك ".

-" يالك من رجل أحمق ، هل يوجد أهم من ذلك الذي فعلته لقد كنتُ جادة جداً ".

-" طيب ، ربما ، لا ادري ، لا أعرف . ولكن ، أنا لا افهم لما تقوم امرأة بمضايقة الفتاة التي قامت بتربيتها بنفسها ، هل تعلمين أن ما تفعليه سيجعل الفتاة المسكينة تفقد عقلها ".

-" أنا أحب مضايقتها ، أيضاً لا دخل لهذا بذاك ، فهل يجب أن أدع إنتوس تخطف مني سيدي لأني اعتنيت بها وهي فتاة صغيرة. هذه سخافات. إنتوس الآن امرأة ، هذا يعني أنها مُنافِسة، بل إنها منافسة مخيفة ، إنها تكاد تصبح أجملُ مني ، هل تفهم الآن ما أفعله ، إنها الحرب بين النساء أيها الرجل الأحمق ~ ".

ضيق نائبها عينيه ودق عصاته في الأرض بقوة وقال :

-"هل أنتِ جادة في ما تقولين؟ " .

انفجرت ريفيريا ضاحكة هي والنساء حولها حتى دمعت أعينهن. وقالت ريفيريا وهي مازالت تضحك :

-" أنا لا أمزح أيها الغبي ~ " . وقالت محدثة النساء حولها وهي تشير إلى نائبها :

-" هذا هو أحد الخرفان الذي يتحدث عنه البرفسور ، إنه لا يفهم شيئاً ".

وضحكن دون توقف كالمجانين. غمغم كلكامش:

-" النساء حمير". وأخذ ينظر إلى وجوههن الضاحكة. كان يعلم أن ريفيريا تغيرت كثيراً عن ماكنت عليه إذ كانت حزينة دائماً. كثيرة النظر إلى الأرض وكأنها تلوم نفسها عن شيئاً ما، ولا تتحدث إلا نادراً جداً ، بل كانت تنفجر بالبكاء فجأة دون سبب ولا تتوقف عن البكاء إلا عندما يقوم كالكامش بأحضار أحد القادة الكبار.

عندها فقط تتوقف عن البكاء بعد أن يهمس أحدهم إليها بشيء ما. أما الآن فهي سعيدة كثيرة المزاح والابتسامة لا تغادر فمها أبداً وكأنها عادت إلى قيد الحياة. طبعاً كان يعلم أن سبب سعادتها هو عودة السيد الكبير ،ولم تكن هي فحسب بل حتى هو وكل شخص في قلعة بنتوس كان سعيداً جداً بذلك.

قال كلكامش :

-" بالمناسبة ، كيف تمكنت مجموعة من القردة في التسلل إلى أرضنا وقامت تهاجم السيد الكبير ؟".

-" ممم ، لا أدري ، على ما أتذكر كانوا يطلقون على أنفسهم صيادون ربما كانوا يمتلكون بعض المهارات ، يالهم من بائسين ".

-" مهارات، هل أنتِ جادة فيما تقولين؟. أيضاً لماذا تركتيهم يذهبون؟".

-" كلكامش لا تقم بتخريب مزاجي السعيد، فقد كنتُ أرغب بتمزيقهم ، ولكن، سيدي طلب أن ندعهم يذهبون، حتى أني فكرت أن أُلاحقهم بعد أن يعود سيدي إلى قلعته، ولكن لم أستطع أن أخون كلماته، هل فهمت".

-" هذا غريب حقاً".

-" ماهو الغريب أيها الأحمق؟".

-" اليس ذلك المكان يخضع لمراقبة شديدة؟.. أتباع السيد سيريوس منتشرون في كل شبر من ذلك المكان.. إذن كيف تسلل هؤلاء البشر؟.. لو لم أكن أثق بأتباعه لقلت أنهم مهملون". ارتعشت ريفيريا من تلك الكلمات. لطالما كان نائبها ذكياً ولكن سيريوس كان مرعباً في كل شيء وعلى وجه الخصوص عقله الخبيث.

وغرقت ريفيريا في تفكير عميق: لابد أنه فعل ذلك لتسريع الأمور. خطة بديلة.. ولكن متى علم بقدوم البشر إلى هنا.. لا. بل كيف علم أنهم سيكونون في ذلك المكان.. وكيف علم أن القائد سيذهب إلى هناك.. لقد كنت موجودة مع القائد وهو الذي قال أنه يريد تفقد ذلك المكان.. سيريوس لم يقل شيئاً.. كيف خطط لذلك.. كيف علم أن القائد سيختار ذلك المكان دون غيره.. وفي هذا التوقيت.. سيريوس يالك من وحش..

وأفاقت ريفيريا من تفكيرها بسبب خبطة إذ قام كلكامش بضربها بعصاته على رأسها. وحدقت إليه وهي تقول:

-" ماذا؟.. ".

-" لقد اعتقدت أن دماغك توقف عن العمل أخيراً ".

-"كنت أفكر.. ".

-" اوه.. ريفيريا تفكر.. سوف تهب العاصفة وتتساقط النجوم.. ".

وارتعد كل الحاضرين إذ شعروا بشخص يدخل نطاقهم. كان لذلك الشخص قوة سحرية استثنائية.

قفزت ريفيريا عن عرشها العظمي وقالت بفزع :

-" أنه سيدي ! ، اخفوا هذا المقعد سريعاً.. أسرعن أيتها الحمقاوات".

قالت خادمتها التي كانت تسرح شعرها :

-" .لماذا ؟" وحدقت الخادمات إليها بارتباك. واستمرت الخادمة تقول:

-" إنه العرش الذي صنعناه بأنفسنا من عظام الغزاة. ألا يجب أن يكون هذا مدعاة فخر لنا ؟ ".

قالت ريفيريا :

-" أيتها الحمقاء ستجلبين مصيبة على رؤوسنا جميعاً بهذا الحديث !، خبئيه ! ".

قامت النساء بحملة خارج الغرفة سريعاً. وعضت ريفيريا ظفر إبهامها وغمغمت :

-" لماذا أتى القائد بنفسه إلى هنا؟.. لقد كان يستريح. كان عليه فقط أن يطلبني وسأذهب إليه راكضة. ولكن.ربما.. لا. أتمنى فقط ألا يكون شيئاً مزعجاً قمت بفعله.

والتفتت إلى نائبها فلم تجده وأدركت في أنه ذهب لكي يستقبل سيده وقامت ريفيريا بالخروج من غرفتها سريعاً لتستعد لقدومه وقلبها يرقص بالعديد من المشاعر المختلطة.

2021/06/28 · 95 مشاهدة · 1460 كلمة
نادي الروايات - 2025