تقدم لينياس بخطوات واثقة عبر المدينة الكئيبة ويتبعه الخادمات . كانت هذه المدينة الصغيرة هي أحد طوابق قلعة بنتوس وكان هذا الطابق هو الطابق الثامن الخاص بريفيريا نايتمير والذي تم تصميمه على شكل مدينة كئيبة تجلب القشعريرة.
لم يكن لينياس يمتلك أدنى فكرة او حتى معرفة بسيطة عن وجود هذه المدينة او الطوابق الأخرى او حتى القلعة نفسها. كان كل ما يتذكره هو أنه أراد مقراً قوياً يحمي عشيرته، لهذا شعر بعدم الارتياح والقلق من هذه الأشياء التي لا يعرفها.
ونظر إلى سقف الطابق الذي بدا كسماء الليل والبلورة الضخمة التي تشع أضواءها الحمراء كالقمر.
وقال متمتماً:
-"هذه القلعة ضخمة بشكل مخيف، ذلك السحر مرعب.. لن أعتاد على هذا أبداً ".وسمع همساً قادماً من خلفة وتوقف لينظر إلى الخادمات.
وقال :
-" هل هناك خطباً ما؟ ". ارتعدت الخادمات تلك اللحظة حتى سنوريا تجمدت في رعب. إلا أن لينياس فهم الحالة التي هن فيها ، وربما كان سيفكر بنفس الشيء إذا كان في مكانهم ولم يرغب في إخافتهن على كل حال. لذلك قال وهو يشير إلى عينيه :
-" عيناي تتوهجان في الظلام ، وكلما كان الظلام دامساً ازداد توهجها. هكذا فقط، ولست غاضباً او شيئاً من هذا القبيل " . وابتسم تلك
الابتسامة الجميلة التي جمدت سنوريا في مكانها سابقاً واستمر يقول : -" او كنتم تعتقدون أني سأتحول لشيء مخيف ".
كان الضوء خفيفاً ولا تُرى الأشياء جيداً ، إلا أن لينياس كان يستطيع الرؤية في الظلام وكأن الشمس تشرق فوق رأسه. لهذا استطاع رؤية خدودهن المتوردة. واستمر بالمشي وهو يقول:
-" إذن.. ماذا هناك ؟". تبعته الخادمات وأخذن ينظرن لبعضهن في قلق. وبعد الهمسات أخذت ساندرا نفس عميق وقالت:
-" أرجوا أن تسامح تجاوزي.. لكن ، لماذا صنعت هذا المكان ".
وما أدراني !. أراد لينياس أن يقول. إلا أنه لم يقل ذلك فقد كان الجميع عدا العشيرة الأصلية يعتقد اعتقاداً تاماً في أن لينياس صنع كل شيء بحركة سخيفة من أصابع يده.
وقد طلب من سيريوس والقادة أن يخبروا الجميع الحقيقة، إلا أنهم رفضوا تصديق ذلك تماماً ، بل أصبحوا غاضبين واتهموا سيريوس والقادة بأنهم يسخرون من سيدهم لينياس. وأصبحت القلعة في فوضى كبيرة من ذلك
حتى قام بالتدخل بنفسه ليخمد كل شيء. حتى أنه أخبرهم الحقيقة المريرة بنفسه ومع ذلك لم يصدقوه.
–" كيف يمكن أن يخسر السيد الكبير بهذه السخافة ! " .
هكذا قالوا جميعاً وكأنهم يصفعوه بوجهه. وقد أخبره سيريوس أن لا يفعل ذلك، لأنه لن يكون له اي فائدة تذكر. إلا أن لينياس أصر أن يفعل ذلك.
حماقة ، يبدو أن الصدق لم يعد ينفع بشيء. سواء كان في هذا العالم أو ذاك. وفي لحظة ظهرت إجابة معقولة سترضيهم.
وقال :
-" لماذا هذا السؤال ؟.. لابأس قولي ما تفكرين به بصراحة ".
-" ا...إنه يفتقر إلى أشياء كثيرة.. و يبعث بعدم الارتياح. لذا.. لماذا لا تقوم بتحويله إلى شيئاً أخر ؟" .
-" ماذا ! " . تجمد لينياس في مكانه وتبخرت الإجابه من عقله وأخد ينظر إليهن وكأنه ينظر إلى مجانين. ولكن تلك النظرة جمدت الدماء في عروقهن. وخفضت الخادمات رؤوسهن حتى كاد يلامسن أقدامهن وقالت ساندرا وهي ترتعد من شدة الخوف :
-" اغفر لخادمتك التي تجاوزت حدودها ! " .
-" اه ، أنه..لا . لم تفعلي شيئاً خاطئاً.. أرفعن رؤوسكن ولا داعي لمثل هذا الخوف.. وأنت أيضاً يا سنوريا". وتنهد متعباً واستمر يقول:
-" أرفعن رؤوسكن.. نعم هذا جيد. أنا كنت متفاجئاً من أنكن لم تعرفن سبب بناء هذا الطابق بهذا الشكل. فقد صنعتُ هذا الطابق لريفيريا وهي تحب هذه الأشياء..
أيضاً أنتن تُخبرونني دائماً أنكم مخلصون لي، فهل هذا صحيح؟ ".
واستحالت نظرات الخوف إلى نظرات حادة كنصل السيوف في لحظة. تعجب لينياس من هذا التغير السريع. وقالت ساندرا بصوت حاد كعينيها:
-" نعم، فكل أرواحنا فداك، ما عليك إلا أن تصدر الأمر وسننهي حياتنا فوراً !".
هذا جنون !!.. كل من في هذا المكان مجنون!!. صرخ لينياس في قلبه وقال :
-" ولاءك يرضيني. ولكن.. أنا لا أحب مثل هذه الحديث. وايضاً أن يخاف أتباعي المخلصون مني يجعلني غير سعيد.. فهل تفهمون ذلك ؟".
قالوا جميعاً :
-" مفهوم ياسيدي! ".
أكمل لينياس سيره وهو يفكر هل فهموا ذلك حقاً.. إن ولائهم غريب عجيب. ورفع يده في تحية إلى الهياكل العظمية التي كانت تقف بجانب الطريق دون أن تبدي أي حركة. وشعر بتعاسة حينما حدقوا إليه بأعينهم الخاوية دون أن يطلقوا أي كلمة.
أين ذلك الصوت المزعج. تلك الغرغرة الفظيعة.. هل أحدهم هو الذي قطع رأس ذلك المصور المسكين.. لا يبدون كذلك. في القديم كان الهياكل العظمية لا تتحدث مطلقاً أما الآن فلم يعد لينياس يعرف شيئاً إذ شعر أن العالم أصبح أغرب عما كان عليه.
ومن العدم وقف رجل أمام لينياس كان الرجل ذو شعر كالذهب المغزول ويرتدي ملابس كالنبلاء ويمسك عصاة بيضاء. وبحركة أنيقة ركع أمامه وقال :
-" سيدي ". وصمت الرجل دون أن يقول شيئاً.
وبدأ لينياس يشعر بالقلق. كان الرجل يقف خلف ريفيريا في غرفة العرش ولم يكن يعرف اسمه، لقد كان خجلاً جداً من أنه لا يعرف اسماء الخادمات فكيف يسأل قائداً أتباعه مثل هذا السؤال :
المعذرة ولكن من أنت؟. كان هذا سخيفاً، فهل سيضحكون من هذا السؤال أو ينظرون إليه بغضب او ربما احتقار. ولكن ما ذنبي أنا إنهم كثيرون.
وفكر بحل آخر وهو أنه لا يحتاج إلى اسمائم في هذا الوقت وقال :
-" أريد رؤية ريفيريا " .
أرتفع الرجل بكل أناقة وقال :
-" مفهوم ، هل أحضر عربتك الملكية ".
حدق لينياس إليه وهو يعتقد أن الرجل مخبول ولم يعرف شيئاً عما يتحدث به. لذلك قال :
-" أحب السير ، والمسافة قريبة ".
-" مفهوم ." قال كلكامش وتقدم بخطوات أنيقة واثقة وكأنه يتباهى بجسده الرشيق وخطواته القوية.
تبعه لينياس والخادمات بصمت.
فُتحت أبواب القلعة ليمر لينياس عبر ممر حالك السواد. وتحت قدمية سجادة قرمزية ناعمة على طول الممر. وعلى جانبي الممر كانت العديد من النساء ينحنون على ركبهن ويضعن أيديهن اليمنى على قلوبهن بكل أناقة وأخذن يغمضن أعينهن وكأن كائناً مقدساً يمر من بينهن. توقف لينياس أمام ريفيريا التي كانت راكعة أمامه في وسط الممر وكانت تخفض رأسها الجميل بكل تبجيل.
-" ريفيريا أرغب في الحديث معك فهل هذا ممكن؟ ".
-" رغباتك هي أُمنياتي يا سيدي ". ونهضت وهي تقول:
-" من هنا ياسيدي " . وفتحت أحد الأبواب وأشارت بيدها الأخرى إلى داخل الغرفة. مر لينياس بجانبها ليدخل الغرفة وهو يشعر بأنفاسها الساخنة خلف رأسه.
جلس لينياس أمام طاولة بيضاء فاخرة كالعاج، تُحيطها ستة مقاعد واسعة بلون الطاولة. كانت جدران الغرفة حمراء داكنة، ويحيط الغرفة العديد من الأزهار من كل الألوان. كانت غرفة جميلة ذو رائحة عطرة. وفي داخل الغرفة بابان خشبيان.
-" جميلة ". تمتم لينياس بهذه الكلمات وهو يلقي نظرات متفحصة على الغرفة.
حينها دخلت ريفيريا تجر عربة فاخرة مليئة بأشياء غريبة، ولم يتعرف لينياس على اي وجبة منها. وخلف ريفيريا نائبها والعديد من النساء اللاتي وقفن بجانب الجدران وحدقن إلى سيدهم باهتمام.
وضعت ريفيريا فنجان شاي فوق الطاولة أمام سيدها وظلت تحدق به وكأنها تنتظر شيئاً ما.
-" هل هناك شيء ياريفيريا ؟".
-" لا . ليس هناك شيء ، ألا يعجبك الشاي.. هل تريد شيئاً آخر ؟..أو ربما تفضل عصير هيلموس؟".
لم تكن للينياس أي فكرة عن هذا وللحظة أخذه الفضول ليعرف ما هو هذا العصير ذو الاسم الغريب إلا أنه كان متأكداً في أنه سيكون شيئاً مقلقاً كالعصائر التي شاهدها سابقاً لذلك قال :
-" الشاي جيد. إذن.. هل ستظلون واقفين هكذا؟.. اجلسوا إذا سمحتم".
جلست ريفيريا مقابلة له على أحد المقاعد بينما ركع الجميع ، وخلفه الخادمات الخمس منتصبات.
تنهد لينياس من هذه المشهد. وفي الحقيقة أراد الحديث مع ريفيريا لوحدهم، ولكن، لم يعرف كيف يتصرف، هل يطلب منهم الخروج، ولكن ريفيريا هي التي أحضرت الأشخاص حوله فهل من الصواب أن يفعل ذلك. لم يعرف لهذا لم يطلب منهم شيئاً.
ألا يوجد رجال في هذا المكان.
والتفت إلى زاوية الغرفة ورأى شيئاً غريباً هناك وقال مشيراً إليه:
-" ما هذا ؟ ". التفتت ريفيريا خلفها لترتعد في مكانها وقالت بابتسامة حامضة على وجهها :
-" إنه كرسي من عظام ". ورمقت خادماتها بنظرة تذبل الزرع. اندلع العرق البارد في الخادمات.
-" مصنوع من عظام ". غمغم لينياس بهذه الكلمات وقد اعتقد أنه مصنوع من أغصان شجرة الشيطان ومع ذلك كان يعلم في أن ريفيريا تحب هذه الأشياء بشكل عجيب، فقد صنع لها بنفسه مثل هذه المقعد مندو زمن طويل جداً.
ولكن ريفيريا تمنت في أن لا يسألها سيدها عن نوع هذا العظام إذ كانت تخشى أن ينظر إليها باشمئزاز فقد كان سيدها بشراً قبل الآن. التفكير في هذه الأمور جعل العرق ينهمر في وجهها كالمطر. وأنتجت منديل من العدم لتمسح تعرقها.
قال لينياس مضيقاً عينيه:
-" هل أنت بخير ؟".
تلك الكلمات جعلت قلب ريفيريا يضرب كالطبول إذ كانت تعلم جيداً أن سيدها يفعل ذلك عندما يعلم أنها تخفي شيئاً.
وللحظة لعنت خادماتها في قلبها لصنعهن لها هذا الكرسي والتي كانت تحبه بجنون. ولم تعرف بماذا تجيب وضحكت باضطراب وهي تقول :
-" لا . أنا بخير ، ولكن ، لم أشرب الدماء مندو سنين ".
كانت كذبة فلم تكن ريفيريا تحتاج إلى شرب الدماء بعد الآن ولكنها لم تجد غير هذا لتصرف سيدها عن هذا المقعد اللعين.
نظر لينياس إلى الخاتم الذهبي الذي ترتديه ريفيريا في إبهامها الأيسر ، وقد كان يعلم أن هذا الخاتم المسحور يلغي ويقمع أحتياجها إلى الدماء. ولم تكن لديه فكرة عن سبب قولها هذا.
ولكنه يعلم أنها تخفي شيئاً ما. وفي الحقيقة لم يهتم كثيراً بذلك.
لذلك قال متجاهلاً حديثها :
-" ريفيريا ألا تشعرين بالملل؟". تلك الكلمات جعلت عيون ريفيريا ونائبها تلتمعان.
واستمر لينياس يقول :
-" في الحقيقة ياريفيريا أنا أشعر بالملل الشديد ولا أعرف ما أفعل، وقد أتيت للقائك من أجل ذلك ، فهل لديك فكرة ما ؟".
ابتلعت ريفيريا لعابها وقالت وهي تعصر كفيها :
-" هناك العديد من الأشياء ".
ونظرت لسيدها باهتمام شديد وكأن عينيها تطلق أشعة سينية لتقرأ افكاره.
قال لينياس :
-"هل تحاولين التحكم في عقلي ياريفيريا ".
أجابت ريفيريا بابتسامة :
-" لا . لم أفكر بذلك أبداً" . وظلت ريفيريا صامته.
قال لينياس :
-" إذن؟..".
-" أه ، المعذرة كنت.. أتذكر شيئاً. ولكن، لا أعتقد أن ما أقترحه عليك سيعجبك.. لذا.. هل أستمر بالحديث ام أصمت؟" .
أشار لينياس إليها أن تستمر
وقالت :
-" الغزو سيذهب عنك هذا الشعور " .
-" ريفيريا هل أنتي جادة في ما تقولين ؟".
ردت ريفيريا بعدم الارتياح وهي تداعب شحمة أذنها :
-" أنا جادة تماماً ، لهذا قلت أنه لن يعجبك ".
تنهد لينياس وقال :
-" أقوم بالغزو فقط لأني أشعر بالملل. اي جنون هو هذا؟.. كنت أعتقد أنك ستتحدثين بأشياء مضحكة ولكن هذا..".
ورفع فنجان الشاي وظل يحدق إلى البخار المتصاعد منه لبعض الوقت ثم قال :
-" أنا لم أرى الشاي أبداً هنا إلا الآن . ولكني كنت أعرف الشاي مندو ثلاثين عام ، وكل هذا كان قبل عشرة أيام ".
ابتسمت ريفيريا من هذا وكانت تعتقد أنها مزحة ما.
-" ماذا ألا تصدقيني؟.. لقد أخبرتك ".
-" لا . ليس هذا أبداً ياسيدي ، ولكن لم أفهم شيئاً مطلقا،ً هل هذه أحجية ما ؟".
-" إنها أحجية عجيبة ولم أعرف حلها مطلقاً. ومع ذلك فهي حقيقة مطلقة. لقد كنت شاباً ذو ثلاثين عام.. أو ربما عجوز". ووضع فنجان الشاي في مكانه دون أن يشرب منه واستمر يقول:
-"هل لديك معلومات عن تلك المرأة العملاقة التي أخبرتك عنها؟".
-" للأسف فإن تلك القصة عجيبة وعصية على الفهم حتى بالنسبة إلي، وعندما احاول استيعابها أشعر أن تصوري عن العالم يتلاشى.. ولكن البرفسور ربما..".
-" البرفسور.. لم أشاهد البرفسور بهذا الهياج من قبل.. وقد أخبرني أشياء جنونية حتى أني لم أعد أفهم منه شيئاً. قال أشياء عن الخرفان.. وعن قلاع وقصور تطفو في السماء، وقلعة هائلة على شكل امرأة، ومدن تحت الأرض مصنوعة من الذهب يحكمها هيكل عظمي، وعرش فوق السحاب، وأشياء جنونية.. لماذا لم يخبرني عنها سابقاً". وتنهد لينياس واستمر يقول وهو يحدق إلى الأشخاص في الغرفة:
-" هذا جنون خالص". تفحصت ريفيريا وجه لينياس لتبحث عن امارات القلق أو الإنزعاج ولم تجد منها شيء وقالت وقد فهمت مايعنيه:
-" أنا أفهم ماتعنيه.. هل ترغب مني أن اتأكد من هذه الاشياء بنفسي؟ مع أني شاهدتها سابقاً وليس فيها مايبهج، وعلى وجه الخصوص العرش الموجود فوق السحاب.. صاحبته امرأة مزعجة حقاً". وشعرت بالضيق من هذا الشيء، وفكرت ريفيريا في أنه كان من الأفضل أن تقتل تلك المرأة حين سنحت لها الفرصة، فلاشك أنها ستكون شوكة في الحلق مستقبلاً.
-" لا. لا أحب التدخل في ما لا يعنينا. أما عن الغزو فأنا أكرهه واشمئز منه. فلا تطلبي مني أن أكون كمملكة فيرنا القذرة.. الحروب لا تجلب الورود. ايضاً لا أريد أن يتم ابادتنا مرة أخرى ".
أطلق الجميع شخيراً من هذه الكلمات حتى الخادمات خلفه.
نظر لينياس إليهم بارتباك ولم يفهم لما فعلوا ذلك. وعاد ينظر إلى ريفيريا التي كانت تقوم بالسعال.
-" إسمح لي بالحديث ياسيدي". هكذا قال نائب ريفيريا الذي كان راكعاً بجانب كرسيها.
رمق لينياس ريفيريا بنظرة ذات مغزى وفهمت ريفيريا في الحال ما كان سيدها يريد وقالت :
-" كلكامش دو امبرادور. إذا أردت الحديث إلى السيد الكبير فقم برفع رأسك".
-" المعذرة ". قال ورفع رأسه وحدق بعيناه الفيروزيتان الحادتان كالنسر إلى سيده. وطلب منه لينياس أن يستمر بالحديث.
-" أن تواضع سيدي بلاحدود، ولكن، التواضع والصدق والرحمة والشفقة والمحبة لم يعد لها أي وجود ".
قال لينياس :
-" هذا صحيح.. هذا العالم وذاك مريض. لا . لقد مات فيه كل شيء ".
قال كلكامش :
-" إنه كما تقول ياسيدي ، لهذا عليك سحقه تحت الأقدام ".
-" سحقه ...؟ " .
-" نعم ياسيدي " .
-" عن ماذا تتحدث بالضبط؟ ".
-" أتحدث عن العالم ياسيدي ".
-" العالم؟.. تقصد بقولك في أن علي سحق العالم؟".
-" نعم ياسيدي".
-" هل أنت جاد فيما تقول؟".
-" كل الجدية ياسيدي".
إذن هناك شخصاً آخر يضاف إلى بقية المجانين. تمتم لينياس بهذه الكلمات ورمق ريفيريا بنظرات جليدية إذ اعتقد أنها السبب في هذا الحديث.
اضطربت ريفيريا وقامت بالعبث بفنجان الشاي.ورفعت عينيها لتتجسس على سيدها ولكنه كان يرمقها بنظرات جليدية. لم تحتمل ريفيريا تلك النظرات التي تبدو وكأنها تعرف أفكارها. وانفجرت بالضحك كالمجنونة ورفعت فنجان الشاي أمامها.
-" كوكوكوكو ! ، أنه شاي لذيذ ! ..اليس كذلك؟..اليس كذلك ؟.أه.. يالها من رائحة !. ياله من لون !". وللحظة نست نفسها وشربت الشاي دفعة واحدة.
وفي لحظة، انكمش وجهها وأخضر من شدة الغثيان. فلم تكن ريفيريا تحتمل شرب الكثير من الأشياء وكان الشاي واحداً منها ، فلو لم تكن تحتفظ به لرفاقها عندما يأتون لزيارتها لرمته باشمئزاز.
وضعت كفيها حول فمها وانتفخ خديها وكأنها ستنفجر بالتقيؤ.
حدق لينياس إليها بجمود وقال :
-" هل ستتقيئين.. سترمينها علي ؟".هزت ريفيريا رأسها بالنفي.
-" أنتِ تحصدين ما زرعتي ياريفيريا " .
هزت رأسها بالإيجاب.
-" إذن أنتِ تعترفين بهذا ؟". هزت رأسها بالإيجاب مرة أخرى.
كان لينياس على وشك الضحك من هذا المشهد إلا أنه خشي أن يقلل ذلك من احترام أتباعها لها. لهذا بذل كل جهده ليمنع نفسه من الضحك وقال وهو يرى الدموع تتسرب من عينيها :
-" لماذا ما تزالين هنا؟.. أنتِ تريدين أن ترميها فوقي صحيح؟ ".
هزت رأسها رافضة بقوة وتطايرت دموعها الحمراء حولها .
-" لا تخبريني أنكِ تطلبين الإذن بالذهاب؟ ! ".
هزت ريفيريا رأسها بالإيجاب.
-" ياالله ، ماهذه السخافات؟!.. إذهبي أيتها الحمقاء! ". انطلقت ريفيريا كالسهم لتفتح أحد الأبواب في داخل الغرفة وأغلقته خلفها. وانطلق صوت تقيئ شديد.
عاد لينياس يلتفت إلى كلكامش الذي كان يريد إجابة لحديثه السابق.لذلك استمر لينياس في الحديث متجاهلاً الصوت الذي تلقيه ريفيريا كأنه زئير:
-" كلكامش لنعد لما كنا نتحدث عنه. إن حديثك عن العالم صحيح. أنا أتفق معك في أن العالم جعلني أشعر بالغثيان طوال حياتي..ولكن ذلك من أفعال الأشخاص الذين يعيشون فيه، فالعالم في حقيقته جنة، ولكن هذا فقط إذا أحب الأشخاص بعضهم كحبهم لأنفسهم ".
-" إنه كما تقول ياسيدي. لكن اسمح لي في أن أقول إن هذا مستحيل، فسكان العالم بهائم ".
-" بهائم؟ ... مم.. إنه يبدوا قاسياً بعض الشيء حين تقول ذلك.حسناً، أعتقد أنك محق. ولكن ليس جميعهم هكذا.. ايضاً اولسنا نحن ايضاً جزء من العالم؟.. هذا يعني أننا متشابهون؟ " .
-" بتاتاً ياسيدي. فلا يمكن أن نشبه هؤلاء القردة ".
قال لينياس متلعثماً :
-" قردة.. أه ..إنه.. ربما .. لماذا تعتقد هذا؟ ".
-" لإن هؤلاء الديدان لن تتوقف عن التلوي بشكل مقزز إلا عندما تسحق تحت الأقدام ".
تفرس لينياس وجه كلكامش معتقداً أن الرجل أمامه كان يمزح. ولكن عبثاً. فقد كان جاداً تماماً وكأنه يتحدث عن حقيقة مطلقة.
إذن.. هل هم بهائم او قردة او ديدان. كما توقعت هذا الرجل يعاني من مشكلة في رأسه مثل البقية. وتنهد في قلبه وقد فهم ما يريد الرجل قوله. وقال محدثاً اياه :
-" لهذا قلت أن علي سحق العالم. لإنهم ديدان مقززة اليس كذلك ؟".
-" إنه كما تقول ياسيدي ". لقد سمع لينياس هذه الأشياء من العديد من الأشخاص. لهذا قال الكلمات التي كانت جاهزة في رأسه والتي قالها لمن قبله :
-" هذه الأشياء تحتاج إلى العديد من الإستعدادات. فقط الأحمق من يقفز على ظهر تنين دون أن يستعد لذلك".
تلك الكلمات جعلت كلكامش يبتسم ابتسامة جميلة من أعماق قلبه.شعر لينياس بالارتياح أن هذه الكلمات جعلته يشعر بالرضى. وفكر وهو ينظر لتلك الأسنان المرصوصة كالألئ.
هذه الابتسامة ستكسر قلوب الفتيات دون شك. لهذا... لماذا لا يستخدم تلك الابتسامة لجعل مملكة آيرم تساعدنا قليلاً. الملكة الشابة هي التي تقود البلاد . ربما ستنظر إليه وتراه رجلاً أنيقاً وسيماً وسيجعلها تشعر بالإرتياح منا بدلاً من هؤلاء الحمقى الذين يقتلون اي شخص يدخل إلى هنا.
هممم. ولكن هذا.. لا. ربما إلفآم سيكون خياراً جيداً جداً. ماهذه الأفكار السخيفة.. هل يجب أن افكر بهذا الشكل.. أو هل أحتاج إلى المساعدة. ربما لا. فكل شيء ممكن عن طريق السحر .. أيضاً إنهم في حالة حرب.
-" سيدي.. هل هناك خطب ما ؟". تلاشت أفكاره بسبب ذلك الصوت الرقيق.
-" اه ، ريفيريا ..كنت أفكر ببعض الأشياء السخيفة. كيف حالك الآن؟ ".
أجابت ريفيريا بخجل :
-" أنا بخير تماماً.. هل تسمح في أن تخبرني إجابتك عن السؤال الذي أعطيتك إياه ".
-" سؤال؟.. اي سؤال ياريفيريا ؟ ".
-" إنه السؤال الذي قلته لك في غرفة العرش ".
-"أه ، هذا هو ما كنت أتحدث عنه مع كلكامش. نحتاج لدراسة هذا الأمر أولاً قبل كل شيء..".
وفي تلك اللحظة سرت شحنات كهربائية في عروق ريفيريا لتجعلها ترتجف دون توقف، وحدقت إلى سيدها بعينين متوهجتين وكأنها وحش جائع يحدق بقطعة لحم طازجة.
-" ريفيريا.. هل أنت بخير ؟". قال لينياس تلك الكلمات وهو يستشعر شيئاً غريباً منها.
-" لم أكن بخير في كل حياتي اللعينة كالآن ! .. إذن أنت تقول أنك وافقت على أقتراحي ياسيدي ؟".
قال لينياس :
-" أنا لم أوافق ، قلت أحتاج إلى إلاستعداد لهذا جيداً ".
-" لكن، هذا يعني أنك تفكر فيه ياسيدي ؟".
-" هذا صحيح ". لم يستطع أن ينكر في أنه كان يفكر في هذه الأمور.وفي لحظة أسرع من رمشة عين نهضت ريفيريا ووقفت أمام لينياس وأمالت جسدها لتحدق إلى وجهه مباشرة بعيناها القرمزيتان التي كانت تلمع كالجواهر.
كانت قريبة جداً بحيث تكاد تُلصق وجهها بوجهه.
تراجع لينياس إلى ظهر مقعده ليبتعد عن وجهها ويعطي نفسه بعض المساحة. إلا أن ريفيريا ضيقت المسافة كالسابق وكأنها قطعة حديد تنجذب إلى مغناطيس.
اندلع العرق في عموده الفقري إذ اعتقد أن ريفيريا قد أصابها أحد نوبات أهتياج الدم والتي كانت تصيب مصاصي الدماء ولكن ذلك يجعلهم يفقدون السيطرة على أنفسهم. وفي تلك اللحظة زحفت البرودة في عظامه.
لقد نسي أنه محاطاً بمجموعة كاملة من نخبة مصاصي الدماء. ماذا سيحدث إن كانوا مثلها ؟..سيكون ذلك كارثياً. وفكر لينياس بحلول سريعة ولكن المشكلة كانت الخادمات التي تقف خلفة. سنوريا تستطيع أن تدافع عن نفسها.. لا. ريفيريا سوف تمزقها كالورقة.
أنا سأوقفها.. ولكن ماذا عن الخادمات فلا يمكن أن أتركهن لمصيرهن.كان وجه لينياس هادئاً تماماً إلا أن روحه كانت في فوضى عارمة.
وبطرف عينيه نظر إلى أتباع ريفيريا.
كانوا يبدون مرتبكين مما يحدث وكان كلكامش يبدو أكثرهم ارتباكاً إذ بدا شارد العقل.
حينها شعر بالارتياح وضحك في قلبه على حماقته. للحظة أعتقد أن ريفيريا قد أصبحت مختلفة عن السابق. فلم تكن ريفيريا مجرد مصاصة دماء عادية فقد كانت تتحكم باهتياجها وكأنه لا شيء بالنسبة إليها. الآن أصبح متأكد في أن ما كان يفكر فيه لا يمكن أن يكون صحيحاً.
إذن هذا شيئاً آخر.. إنها تريد الحرب كنائبها. أراد أن يعتدل على مقعده، ولكن ريفيريا لم تعطه مجال لذلك فقد كانت تكاد تلتصق بوجهه.
-" ريفيريا ابتعدي قليلاً. أنتِ قريبة ".
قالت ريفيريا وكأنها لم تسمع شيئاً :
-" هل سيكون هناك الكثير؟ .. اه ، بالطبع سيكون هناك الكثير.. ولكن هل سأكون الأولى؟.. لا. أرجو منك أن تجعلني الأولى؟".
-" ريفيريا ؟..".
-" وماذا عن إنتوس هل ستكون الثانية او الثالثة او ربما السادسة؟ ".
-" لا أعرف عما تتحدثين به؟ ولكن ستصبحين الأولى حينما يحدث ذلك. فهل هذا يرضيك؟.. ابتعدي ".
انتصبت ريفيريا واقفة وقالت :
-" كل الرضى ياسيدي ! . كل الرضى ! " . وقهقهت بسعادة وقالت :
-" مسكينة إنتوس ستموت غيظاً.. لا، لقد أختارني سيدي بنفسه. لقد سحقتها سحقاً.. إنه انتصار كامل. عادل. واحتضنت نفسها وأخذت تتمايل كزهرة جميلة هزتها الرياح وحدقت إلى السقف بعينين فاضت سعادة وحب.
-" هل ترغب إنتوس في أن تقوم بهذه الأشياء ؟".
تلك الكلمات سحبت ريفيريا من أحلامها. وعادت تلتفت إلى لينياس وقالت بابتسامة جميلة كشفت عن أنيابها الحادة :
-" نعم ياسيدي، فقد كنا نتصارع على هذا مندو مئات السنين. ولكن أنا التي كسبت الحرب في النهاية، أه. سأكون الأولى ! ".
لم يهتم لينياس بما كانت تتحدث عنه. وفكر بإنتوس وأنها ستقود جيشاً للحرب وأسقط الفكرة سريعاً من رأسه. فلن يضع إنتوس بهذه الخطورة وهذا الموقف.
حتى مجر التفكير في أن ريفيريا ستخوض حرباً كان مؤلمة بالنسبة إليه. ولكن كان عليه أن يعترف في أن ريفيريا كانت قوية وكانت معتادة على هذه الأشياء. ولكن، لينياس لن يسمح بحرب أو غزو أبداً. طبعاً كان هذا محض أفكار وتخيلات ليرضيهم بها.
وقال وقد تملكه التعب من أفكارهم المجنونة :
-" مبارك لك ياريفيريا ".
ركعت ريفيريا أمام سيدها وقالت بصوت رقيق حلو كله بهجة :
-" سأُشرفك ياسيدي!، ولن أجعلك تندم على ذلك أبداً، سأكون المرأة التي تريدها أن تكون، لا !.سأكون خادمتك المخلصة أكثر من الآن!".
أغمض لينياس عينيه ليخفي الغضب الذي شعر به من تلك الكلمات.وللحظة أراد الصراخ عليها من هذا الهراء الذي قالته. إلا أنه لن يفعلها أمام الأشخاص في هذه الغرفة، فقد كانوا مجانين أكثر منها ، لذلك قرر أن يفعلها عندما يكون معها لوحده.
وأخذ نفساً عميقاً وفتح عينيه ليجد ريفيريا تذرف الدموع الغزيرة من الفرحة التي هي فيها.
ونظر إلى الأشخاص حوله.
كانوا يحدقون إلى ريفيريا فاغري الأفواه حتى الخادمات خلفه لم يكنَّ استثناء حتى سنوريا بدت وكأن دماغها قد توقف عن العمل. عدا كلكامش الذي كان ينظر إلى ريفيريا بشكل غريب بدا وكأن روحه صعدت إلى السماء.
وفكر لينياس في أنها أصبحت مجنونة كإنتوس، فمن يبكي من الفرحة لخوض حرب.
وعلى هذا الخاطر تنهد من التعب.