قالت إنتوس:
-"هذا السحر يقوم بالتضحية بحياة الأشخاص ومستخدم السحر نفسه لتحقيق أمنية واحدة ، والذي ابتكرها البرفسور؟" .
-"ولكن ، لماذا تقولين لي ذلك؟أنا لم أنسى ذلك أبداً".
قالت إنتوس:
-"لكن ،هي أُمنية واحدة وأنت لم تخبرني ماهي الأُمنية ، ولكن ..هي أُمنيه واحدة فقط... ؟".
رفع لينياس يده ليوقفها عن الحديث وقال:
-"أنا أعرف ما يقلقك وما تريدين قوله ، لكن ، لا يوجد ما تحتاجين للقلق من أجله. حياتنا قد انتهت وقد تفشل وسنموت في كلا الحالتين، وأرجوا أن لا يكون البروفسور مخطئاً، ولكن ،ليس لدينا خيار، ولكن إنظري لهذا" . وأخرج لفيفة من ملابسه واستمر يقول:
-"لقد قمت بكتابة كل شيئاً أُريده في هذه اللفيفة ، لهذا سأطلب أُمنية واحدة.. وهو تحقيق المكتوب فيها. لا أدري هل يعتبر هذا إحتيال على السحر، ربما لن تنجح ولن نعرف ذلك حتى نجرب، هذا أملنا الوحيد.
لكن ، إن نجحت ، سيكون لنا خدماً وأتباع أقوياء وسنكون نحن أقوياء جداً ، بل سيكون.. هذا لايهم الآن ، لقد أضعنا الكثير من الوقت.. ".
وقام بنزع سيفه من غمده وأعطاه لإنتوس ، ووقف فوق الجوهرة ومد يديه أمامه ،وقال :
-"إفعليها ".
ولكن إنتوس كانت ترتجف كورقه و تبكي بكاءً مريراً حارقاً ، ولم تعد ترى أمامها من شدة دموعها المتدفقة.
كانت إنتوس تتمرن على هذا الموقف شهوراً وهي تمسك السيف متخيله المشهد والموقف الذي سيحدث أمامها ، إلا أن الواقع مختلف تماماً عن عمليات التفكير والتخيل، والتفكير في أنها الآن ستقوم بتمزيق سيدها الحبيب في هذه اللحظة مزق روحها تمزيقاً. سيدها القوي. سيدها الحنون. سيدها الذي عشقته ينظر إلى الأرض مكسوراً وكأنه يلوم نفسه على كل شيء وقال:
-"إنتوس.. لم يعد هناك متسع من الوقت.. وهذا.. ". وصرخت إنتوس مقاطعة:
-" لماذا؟، لماذا؟، لماذا؟،لماذا ؟!!".
-" هذه هو واجبي نحو عشيرتي.. هل تخالفين آخر أوامري يانتوس..". رفعت إنتوس رأسها وحدقت إليه والدموع تتساقط من ذقنها وبدت كأنها تنزف تحت ضوء القمر.
لقد كان هذا فعلاً هو آخر أوامر سيدها والذي لن تراه مرةً أخرى في حياتِها.
لذلك، شعرت أنه يجب عليها أن تخمد مشاعرها وأن تقوم بعملها الأخير على أكمل وجه، حينها قامت إنتوس بمسح دموعها وتراجعت خطوة إلى الخلف، وبوجه مستقيم يشع ولاءً واحتراماً لسيدها، وبقلب صلب كالفولاذ أمسكت السيف بقوة ورفعته فوق رأسها ولمع نصل السيف بضوء قرمزي مشؤم وكأن السيف يرحب بهذا الجنون.
وقالت بصوت مرتجف:
-"أتمنى أن نلتقي من جديد ". واعتصرت إنتوس عينيها وأطلقت صرخة متألمة من أعماق روحها، وبكل قوة من جسدها ضربت السيف على ذراعي سيدها.
وأحس لينياس بألم شديد يُعمي إذ سقطت ذراعيه على الأرض، وتدفقت الدماء الغزيرة. ولكنه تحمل الألم وقال:
-"أفعليها بسرعة!".
ارتعدت إنتوس رداً على ذلك وقامت برمي السيف من يديها، وأخذت ترسم دائرة حول سيدها من دمائه المتدفقة وكانت تكتب أحرفاً ورموز غريبة في داخل الدائرة وخارجها.
مرت لحظات وبدا لينياس شاحباً. متعباً. ومرت العديد من الأفكار والذكريات في رأسه وهو يرمق إنتوس أسفله بحزن شديد. وفي تلك اللحظة أضاءت البيوت وأنارت المصابيح.
عرف لينياس أن ذلك كان بسبب الأصوات التي كان يصنعها هو رفيقته.
-"إنتوس بسرعة! ".
إلا أن الناس خرجت من منازلها رجالاً وشيوخاً ونساء وفتيان وأخذوا يحدقون إلى الشارع بعيون متسعة.
رجل يقف أمامهم بيدين مقطوعتين والدماء تتدفق منهما بغزاره ، وامرأة تدور حول الرجل وتكتب شيئاً في الأرض وهي تصدر أنّات متألمة وكأنها تخرج من أعماق القبور.
لم يعرفوا ما الذي يحدث أمامهم ولم ولن يفهموه أبداً.
إلا أنهم جميعاً عرفوا شيئاً واحداً وهو أنهم ليسوا من البشر.
بدأ الأمر برجل واحد وهو يصرخ :
-"شياطين !! ،إنهم شياطين!!". واندلع الصراخ والنباح والنهيق كالعاصفة.
-" شياطين !!". "ملاعين !!". "حقراء". "أيها الحراس !!". "يجب قتلهم !!". "الأنجاس". الأوغاد". " كيف دخلوا البلاد !!". " زنادقة". " إقتلوا الشياطين !!...". ومع ذلك لم يتقدم أحد خطوة واحدة.
كانت إنتوس تقوم بالكتابة غير عابئة بالأشخاص حولها ، وهي تركز كل حواسها في كتابة الرموز المعقدة، وطبعاً إذا اقتربوا من سيدها ستقتلهم دون رحمة و دون اي شفقة.
حرك لينياس عينيه متفحصاً الناس حوله وقام يرد على صراخهم بصوت متعب:
-"لسنا شياطين.. ولكننا سنصبح كذلك من أجلكم هذه الليلة.. ". وأنزل عينيه الذهبيتين ليحدق إلى ذراعيه المرميتين على الأرض وكانت أصابعه تمسك اللفيفة بأحكام وكأنها على قيد الحياة.
حينها تجمع الناس بكثافة حولهم ، وبدأ لينياس يشعر بالقلق من كمية الناس المتدفقة وأدرك أن كل شيء سينتهي ويفشل.
إلا أن إنتوس أرتفعت في تلك اللحظة من على الأرض وركعت على ركبة واحدة بكل احترام أمام سيدها إذ أرادت أن تكون نهايتها على هذا الموقف المحترم وقالت :
-"لقد انتهيت وكل شيء ينتظر إرادتك ".
أراد لينياس أن يقول: ليس هذا الوقت ملائماً لهذه الاشياء ،إلا أنه ربما يكون هذا هو اللقاء الأخير. لذلك قال وهو يكاد يسقط على الأرض:
-"واجباتك كاملة ، وإن لي الشرف والفخر أن تكوني أحد أتباعي المخلصين".
إنتوس لم تقل كلمة واحدة ووضعت يدها اليمنى فوق صدرها الأيسر وحدقت إلى سيدها بعيون العشق والاحترام.
اغمض لينياس عينيه ثم فتحها ببطئ ونظر إلى إنتوس. وظلوا يحدقون إلى أعين بعضهم بصمت وكأنهم يتحدثون مئات الكلمات من خلال تلك العيون المتألمة ، الحزينة ، الباكية. عندها أشاح وجهه عنها وقال:
-" الوداع ". وهبت رياح قوية باردة جرفت دموعه وبعثرتها في الهواء وتساقطت بعض دموعه على وجهه إنتوس. كانت دموع سيدها الباردة كسيوف غرست في قلبها. حينها أيقنت إنتوس أن كل شيء قد تلاشى. وأنها لن ترى سيدها بعد الآن. اطلقت إنتوس صرخة جعلت البشر يتجمدون في رعب إذ غرست أظفارها في وجهها ومزقت وجهها واستحالت دموعها إلى دماء جارية.
كيف يمكن أن تأخذوا سيدي مني. أرادت أن تقول تلك الكلمات ولكن صراخها منع تلك الكلمات من الخروج من حنجرتها. واشتعل قلبها حقداً على البشر وتمنت أن يحترقوا جميعاً ولايبقى منهم أحد.
والتفت لينياس إلى الناس حوله وقال:
-"و الآن فلتموتوا عليكم اللعنة!.. ".
وقام بالدوس على الجوهرة السوداء بقدم واللفيفة بالقدم الأخرى ، وقام بتفعيل السحر المخزون في داخلها.
في تلك اللحظة أشرقت الشمس. او هذا ما أعتقده الناس في تلك اللحظة إذ انفجرت نيران زرقاء هائلة من تحت قدميه وارتفعت إلى السماء في لحظة خاطفة وتضخمت حتى أصبحت مثل أعصار هائل أبتلع الدنيا بأكملها في ثوان.
كان لينياس يقف في وسط هذا العالم الأزرق، المشرق، المتوهج، والدموع تجري وتتناثر من عينيه بغزارة إذ كان لا يسمع ولا يرى شيئاً إلا نحيب الألم والصراخ من الشخص الذي كان راكعاً أمامه.
كانت إنتوس تتخبط وتتلوى من شدة الألم وكان جسدها بأكمله يذوب كالزبدة في فرن، كانت النيران الزرقاء تذيب جلدها ولحمها وعظامها وتبخر دمائها بسرعات مخيفة.
حتى أصبح جسدها بأكمله سائلاً كالماء في عشر ثوان. وتبخر جسدها المائي في الهواء في تلك اللحظة.
اعتصر لينياس عيناه متألماً من هذا المشهد، وأطلق صرخة شديدة تصم الأذان وترددت أصدائها في المكان.
وارتفعت الصرخات التي تقشعر لها الأبدان من كل مكان.
مئات الأصوات، آلاف الأصوات تندلع من القريب والبعيد، ومن الشرق والغرب ومن الشمال والجنوب وكأنها أصوات المعذبين في الجحيم. اشخاص تركض وتتبخر في لحظة، وبعضهم تساقط من النوافذ والشرفات، وتراقص بعضهم على الطرقات، وآخرين اصطدموا ببعضهم وتناثروا كالغبار في لحظة. كان المشهد وكأنه الجحيم.
وتوقفت كل الأصوات في لحظة ولم يعد يُسمع حتى صوت الرياح.
كانت مملكة فيرنا صغيرة بالنسبة إلى الممالك حولها ومع ذلك كانت كثيفة السكان.
ويبلغ عدد سُكانها عشرةُ ملايين.
وإذا أضفنا حيواناتهم وعبيدِهم سيصل عددهم إلى حوالي خمسة عشر مليون شخص.
كلهم تبخروا في الهواء في ستين ثانية دون أثر.
ولم يعد أحد على قيد الحياة في هذه المملكة. حتى الحيوانات البرية بل حتى الحشرات والأشجار والنباتات وكل شيئاً على قيد الحياة مات وتبخر من هذه المملكة،
والتي كانت مندو لحظات تعد من أعظم الممالك وأغناها.
وقد مسحت وتلاشت عن بكرة أبيها في دقيقة واحدة وكأنها وميض من الذكريات.
عدا شخصاً واحداً كان يقف دون ذراعين في هذه الأرض القاحلة التي انعدمت فيها الحياة.
وتمتم هذا الشخص بكلمات متعبة غير مسموعة والتهمته النيران الزرقاء في لحظة وتلاشى في الهواء.