بدت المستوطنة كالأحياء الفقيرة في الجحيم.
بيوتاً من أخشاب فوضوية الصنع أبوابها من قماش مهترئ قد فقد لونه الأصلي مندو مدة، تعطي الشعور أنها ستسقط بلمسة. بيوتاً حجرية نصفها مفقود وتستعد للسقوط في أي لحظة. خيام من جلود الحيوانات، بيوت فيها أربعة أعمدة مغروسة في الارض على شكل مربع وفوقها العديد من الأغصان.
برك ماء سوداء كرية الرائحة في كل مكان. بعوض وحشرات من كل الأشكال تطوف في المكان كالسحاب . الأرض رطبة وموحلة كالمستنقعات.
ولكن حتى مع ذلك كانت مكتظة بالسكان السعداء. العديد من الأطفال يركضون في كل مكان وهم يضحكون. رجال ونساء يقفون ويتحدثون حول نار كبيرة تلتهمها الأخشاب.
شباب يجلسون في حلقات حول النار ويتحدثون باهتمام في مواضيع مختلفة.
نساء يحتضنون أطفالهن ويتهامسن ويضحكن بسعادة. أشخاص يشعلون النار في مكان أخر، بعضهم يرمي الحطب في ذلك النار، وأخرين يلتهمون فاكهة ما ويحدقوا إلى النار.
كان الشيء المشترك في ما بينهم هو أنهم ليسوا بشراً قط، إضافة إلى السعادة التي أشعتها أعينهم بشكل لا يصدق وايضاً بشاعتهم التي لا تراها إلا في الكوابيس.
جميعهم مشوهين بشدة في وجوههم. أسنان محطمة. شفاه مقطوعة وجوهاً محروقة. أذان مقطعة. بعضهم يفقد أحد عينه. أنوف محروقة مسلوخة. بعضهم يفتقد ذراعيه. كان المشهد مروعاً. وكان أكثرهم من عرق رونيا.
تقدم لينياس وهيكروس في المكان وهم يغطون أنوفهم من شدة الرائحة الكريهة التي قلبت بطونهم. وللحظة كان لينياس على وشك الصراخ إذ شاهد بعض الأشخاص يشربون من ماء البرك الأسود. وغمغم يقول:
-" هذا فظيع.. كيف يمكن أن يعيشوا بهذا الشكل ". والتفت إلى فتى بعمر الثانية عشر من العمر وكان يحاول أن يشرب من تلك البركة.
وقبل أن يشرب الفتى من الماء أمسكه لينياس من ذراعه الهزيلة.
وقال :
-" لا تشرب من هذا يافتى" .
النظرة التي القاها الفتى جعلت لينياس مندهشاً. لم تكن تلك نظرة طفل. بل كانت نظرة تشع كراهية خالصة. كان الطفل ذو شعر أحمر، ومع ذلك كان وجهه مخيفاً إذ بدا كعجينة لزجة وكأن أحد ما قام بصب ماء مغلي على وجه الفتى حتى اختفت ملامح وجهه.
صفع الفتى يد لينياس وصرخ غاضباً :
-" لا تلمسني ! " . وتلك الصرخة جعلتهم محط الأنظار إذ خيم الصمت وحدقوا إلى مكان الصوت. وبفضل النيران المتراقصة شاهد الفتى بعينه المتبقية الشخص أمامه بوضوح. وشعر الفتى بالخوف من مظهر لينياس وملابسه الفاخرة. وحرك عينه قليلاً لتتسع بعد ذلك من الدهشةإذ كان رجلاً ضخماً لم يرى مثله سابقاً يقف بجانب الرجل.
ارتفع الفتى على قدميه وقال بصوت صاخب يفتقر إلى أسنانه :
-" ماذا تريد مني؟!.. أنا لم أعد عبداً بعد الآن!.. أنا حر الآن ! ".
قال لينياس بصوت لطيف قدر الإمكان لكي لا يخيف الفتى:
-" لا يوجد لدي شك في ما تقوله أيها الفتى.. لقد طلبت منك أن لا تشرب من هذا الماء القذر فقط، إنه لا يبدو جيداً ".
-" وماذا تريد مني أن أفعل أيها الرجل العجوز ؟! أن أموت من العطش؟!".
لم يشعر لينياس بشيء من الإهانة أو الإنزعاج من تلك الكلمات بل شعر أنها الحقيقة فقد عاش لينياس عمراً مديداً مئات ومئات السنين. ولم يكن الأمر بالنسبة إلى الفتى فحسب ، بل كان يشعر أن كل الحاضرين هنا أطفالاً وفتيان بالنسبة إليه أما حياته كسالم فكان مختلفاً تماماً.
لذلك قال بابتسامة دافئة:
-" هذا صحيح، فأنا رجل عجوز نسي كم عام لديه. ولكن ، أيها الفتى الا يوجد ماء نظيف في هذا المكان.. لماذا أنت خائف؟.. لماذا تتراجع إلى الخلف؟".
-" لست خائفاً!".
-" إذن أجب عن السؤال".
قال الفتى :
-" أنا لا أعرف سوى هذا الماء ، اسأل هؤلاء ربما يعرفون؟! ". التفت لينياس إلى الأشخاص حوله. كان ذلك يتطلب شجاعة هائلة فلن يجرؤ أحد بالنظر إلى وجوههم المشوهة والمقززة إلا وخفض عينيه وهو يشعر بالغثيان وربما فقد الوعي سريعاً من ذلك. ولكن لينياس لن يجعلهم يشعرون أنهم أقل من اي شخص آخر ، ولن يسيئ إليهم اكثر مما هم فيه. لذلك نظر إليهم وكأنه ينظر إلى أشخاص طبيعيون تماماً .وقال:
-" الا يوجد ماء نظيف هنا ؟" .
هز الجميع رؤوسهم بالنفي.
-" هممم ، وماذا عن الطعام؟.. لا. ماذا عن الأمراض؟.. ماذا تفعلون حينما تمرضون؟.. أنتم تمرضون بلاشك".
أجاب أحد الرجال :
-" لا . لا نمرض إلا نادراً ، وهناك بعض الأشخاص الذين يستطيعون استخدام سحر الشفاء، وأنا أحدهم، أما الطعام ..فنحن نقوم بجلب بعض الفواكه واصطياد الحيوانات من الغابة. ايضاً كنا نقوم بصيد الأسماك، ولكن الآن اصبح مستحيلاً.. وفي كل مرة يقوم السيد إنجوس بجلب لنا بعض المساعدة.. نحن شاكرين له حقاً فقد أنقذ العديد منا وأحضرهم إلى هنا للعيش".
كان لينياس يعرف ما كان يفعله إنجوس لهم لهذا لم يتحدث عن ذلك وقال :
-" الأسماك؟.. ممم. ولكن ، إعذرني على السؤال أيها السيد ، اليست الغابة خطيرة عليكم؟ ".
-" أه ، شكراً على مديحك أيها السيد. ولكن أنا لست سيداً أبداً.. أنا.. هو.. مجرد ..". ونظر الرجل إلى الأرض مكسوراً ولم يعد قادراً على الأستمرار بالحديث.
قال لينياس وقد فهم ما بعقل الرجل :
-" انظر إلى هذا الفتى " . وأشار إلى الفتى السابق الذي كان ينصت للحديث واستمر يقول :
-" هل سمعت ماذا قال؟.. لقد قال إنه حر. وأنتم جميعاً مثلة الآن. لذلك لا تفكر بالماضي وماكنت قبل الآن، فأنت رجل حر وسيتم دعوتك بالسيد، مثلك مثل اي شخص في هذا العالم".
نظر الرجل إلى لينياس بنظرات عاطفية وترقرقت الدموع في عينيه وقال بصوت دافئ :
-" شكراً جزيلا أيها السيد المحترم، فأنا لم أسمع مثل هذه الكلمات الجميلة في حياتي ".
-" أنا لم أقل سوى الحقيقة أيها السيد. فأنت لا تقِل عن أحداً بشيء، ماذا عن سؤالي إذا سمحت؟ " .
قال الرجل :
-" أه ، المعذرة.. نحن نذهب برفقة الصيادين لحمايتنا من الوحوش " .
قال لينياس :
لكن، اليست تلك منظمة بشرية تقوم بإبادة الوحوش؟ " .
اجابت امرأة بجانبه وقد شعرت بالدفئ من هذا الرجل الذي يتحدث معهم بكل لطف :
-" هذا صحيح. ولكننا قمنا بصنع منظمة لإنفسنا.. فهم ليسو بأفضل منا بشيء " .
رفع لينياس اصبعه أمام وجهه وبابتسمة لطيفة قال :
-" لقد اعجبني ما قلتيه أيتها السيدة فنحن لسنا أقل منهم بشيء . يالك من سيدة رائعة " .
انزلت المرأة عينيها وقد شعرت بالخجل الشديد من دعوتها بالسيدة لأول مرة في حياتها وخصوصاً أن يقال لها ذلك من رجلاً جميل كالرجل أمامها.
وللحظة سُمعت الهمهمة والهمس :
-" نحن؟". "نحن؟ " "ماذا يقصد بذلك؟".
قال لينياس :
-" أنا أعيش في هذه الأرض الآن. لهذا نحن تعنينا جميعاً.. أنا وأنتم " . صمت الجميع وبدا أنهم قد فهموا لذلك قال :
-" أين هؤلاء الصيادين ، أريد لقائهم إن أمكن " .
-" إنهم هناك ". قال الفتى وهو يشير إلى الأمام بين المباني المتهدمة والعشش.
قال لينياس وهو لايريد إزعاج البالغين أكثر من ذلك :
-" أيها الفتى هل تستطيع أخذي إلى هناك".
قال الفتى محدقاً بكراهية إلى لينياس:
-" ليس لي رغبة في ذلك".
-" ممم.. ربما يكون أول عمل لك في حياتك. ألا تريد ذلك؟".
ضيق الفتى عينه الإرجوانية وقال :
-" ماذا تقصد بعمل ؟".
رد لينياس يقول :
-" سأكافئك بما تريد أيها الفتى".
قال الفتى منزعجاً :
-" ما أريده لا يمكن أن تعطيني أياه ".
أبتسم لينياس وقال :
-" حقاً . إذن لماذا لا تقوم بتجربتي ايها الفتى. قد أحقق أحلامك، ولكن اجعل مكافئتك واقعية ".
-" إذن..لا أريد شيئاً ".
-"اخبره بما تريد أيها الفتى فالفرصة لا تأتي إلا مرة واحدة فأحسن استغلالها ! ". هكذا قال هيكروس بعيناه الخضراء المتوهجة المحدقة بالفتى . ارتجف الفتى خائفاً واندلع العرق في وجهه كالنهر من تلك العيون.
قال لينياس بعدم الارتياح :
-" لا داعي للخوف أيها الفتى ، قل ما لديك " .
أغمض هيكروس عيناه ليصبح كالتمثال عند سماعة تلك الكلمات.
-" إذن ماذا تريد أيها الفتى ؟" .
بدا الفتى يستعيد هدوءه وقال :
-" أريد أن.. أكون فارساً " . حدق الجميع إليه بذهول وكأن عقولهم تجمدت مما تفوه به الفتى، حتى لينياس كان مثلهم. ولكن ، سبب تفاجؤ لينياس لم يكن مثلهم إذ كان لا يفهم مثل هذا الشيء وقال :
-" الألقاب والمناصب لا تملي البطون.. خصوصاً في هذه الأرض حالياً يافتى " .
غمغم الفتى :
-" إذن ، لن تستطيع. ألم اقل لك أنك لن تستطيع اعطائي ما أريد".
ماخطب هذا الفتى؟.. لماذا يحدق بي هكذا؟.. هل هذه نظرة الشعب إلى الحكام الفاسدين؟.. لابد أنه يعرفني إذن. ما الذي أوقعت نفسي به..وتنهد وقال :
-" ليس هذا ما قصدته، كنت .. لاتهتم ، ليكن ما تريد أيها الفتى. من الآن وصاعداً أنت فارس. هل هذا جيد ؟".
رد الفتى بغضب :
-" هل تسخر مني أيها العجوز؟!!".
-" لقد حيرتني أيها الفتى. الم تطلب أن تكون فارساً، وها أنا ذا اعطيك لقب فارس " .
-" هناك إجرءات وأفعال لهذه الأشياء، أيضاً من تعتقد نفسك لتعطيني لقب فارس؟!!".
-" لقد بدأت أشعر بالتعب منك أيها الفتى. إذن.. هل تعرف ماهي الإجراءات المطلوبة لهذا ؟".
-"وما أدراني بهذا ! " . هذا الفتى صداع حقيقي، لابد أنه صديق سنوريا المفضل.
لو كانت ريفيريا هنا لكانت أخبرته عن هذه الأشياء فلم يكن لينياس يعرف شيئاً عن هذه الأشياء حتى في العشيرة لم يفعلوا او يهتموا بهذه الأمور.
ربما تكون مثل تلك الافلام التي شاهدتها. وعاد يلتفت إلى الفتى وقال:
-" لقد أعطيتك ما تريد وأنت لن تفي بوعدك هل هذا ما يفعله الفارس". واستمر يقول محدثاً الأشخاص حوله :
-" حياتكم ستتغير كثيراً من الآن وصاعداً ، للأحسن طبعاً. هذا وعد مني " .
وسار مبتعداً وهو يعلم أن الفتى سيلحق به فلم يكن لديه شيء آخر يفعله. وحتى لو لم يلحق به لقام بالسؤال عن المكان من أي شخص آخر
نظر الجميع إلى لينياس بشكل غريب إذ لم يفهموا شيئاً مما قال. فقد كانت حياتهم رائعة في هذه الأرض على غرار البؤس والعبودية التي عاشوها سابقاً. وللحظة حدق الفتى إلى ظهر الشخصين وقام بالركض إليهم وهو يصرخ قائلاً :
-" انتظر أيها الرجل سأرشدك إلى المكان".