كان لينياس يسمع الأصوات أسفله وقال :
-" أريد أن اذهب وأخبرهم أن يعودوا لما كانوا يفعلوه.. لكن بصراحة ، أشعر بالخجل مماقد يفعله لي هؤلاء المساكين.
لذلك.. هيكروس، هل تستطيع إخبارهم إذا سمحت.. ايضاً أخبرهم أنه سيتم تقديم الماء النقي إليهم بعد قليل.. اوه.. والأسماك. نعم، سيتم إعطائهم الأسماك.. الكثير منها.. أخبرهم ذلك، وأنا سأنتظرك هنا " .
قال هيكروس بابتسامة :
-" مفهوم ". وانحدر سريعاً إلى أسفل وكأنه يسقط بفعل الجاذبية.
التفت لينياس إلى إنتوس والتي كانت ماتزال تنظر إليه بتلك النظرات المشعة وقال :
-" ماذا هناك؟..".
قالت :
-" مم. لا. لا شيء. ولكن، إذا سمحت لي، لماذا أخبرتهم تلك الكلمات؟".
قال لينياس :
-" ما قلته كان الحقيقة التي يعرفونها.. أيضاً قلت لهم ذلك ليشعروا بالانتماء لهذا البلد، وليعلموا أنهم لم يعودا عبيداً بعد الآن".
قالت :
-" لا . أنا أعلم ماكنت تقصده تماماً، ولكن ، لا أعرف لما فعلت ذلك. بصراحة كان يجب عليك ألا تخبرهم شيئاً بنفسك أو تنزل لنفس مستواهم. فعلى الحاكم أن يضل فوق الجميع، وما عليهم سوى خفض رؤوسهم بامتنان. بالإضافة إلى أن هذا المكان قذر ولا أحتمل فكرة أن تسير في هذا المكان".
ضحك لينياس من أعماق قلبه. وحدقت إنتوس إليه بعينين غارقة بالعشق إذ بدا جميلاً أماما ناظريها. واعترتها رغبة جامحة في أن تحتضنه بقوة حتى تحطم عظامه.
عندها قال لينياس :
-" ما قلتيه غريباً حقاً فقد كنا نعيش في الغابة ولم تكن حياة الغابة مختلفة كثيراً عن ذلك. ولكن القائد الذي لا يمشي على نفس الأرض الذي يمشي عليها شعبه ليس إلا قذارة.
إني أكره هؤلاء.. من يدَّعون أنهم قادة. فكيف يستطيع القائد معرفة ما يعانيه شعبه وهو يعيش فوق السحاب. لهذا.. يجب أن أعيش في المكان الذي يعيش فيه شعبي. هذا هو واجب القائد يا إنتوس. أو ربما تفضلين أن أتحدث معك من قمة القلعة وأنتِ تنظرين لي من الأرض؟".
قالت :
-" سيكون هذا ظالم جداً ولن أستطيع تحمله أبداً . لذا.. أرجو أن لا تفعل ذلك " .
تنهد لينياس وقال بكآبة :
-" مجرد تشبيه.. كانت مزحة، ولا داعي أن تنظري لي هكذا " .
قالت :
-" أه . لقد كنت أعلم أنك تمزح فأنا أعلم أنك لست بهذه القسوة، ولكنك تبدو جميلاً أكثر من السابق هذا اليوم ".
ابتسم وهو يقول :
-" حقاً.. شكراً على مديحك.. ربما بسبب هذه الملابس.. ولكني لست بأجمل منك".
قالت وقد توردت وجنتيها :
-" لا.. أنا لست بجمالك ووسامتك أبداً ".
قال :
-" الآن هذا شيء مضحك تقوليه عني.. فلا يمكن أن أكون أجمل منك. يكفي أن تسألي أي أحد وسيخبرك أني بشع مقارنتاً بك ".
قالت :
-" هذا مستحيل! .أنت أجمل رجلاً في كل الأرض!. لذا أرجو أن لا تقل ذلك مرة أخرى. إن هذا يؤلمني هنا". ووضعت يدها فوق صدرها الأيسر.
-" أنت تبالغين دائماً يا إنتوس.. لقد كانت الحقيقة. لذا.. لا تخبريني بما هو واضح ".
قالت وقد أحمر وجهها كتفاحة :
-" هل حقاً أنا جميلة؟.. هل تراني جميلة لهذه الدرجة؟ ".
تنهد لينياس في قلبه وهو يتساءل ما الذي تريد أن تصل إليه. فقد كانت تأتي بمواضيع غريبة عجيبة في كل مرة.
قال :
-" الم أقل لك لا تسأليني أشياء واضحة ".
-" هذا.. يعني ؟" .
قال :
-" نعم . إنه كما قلت ".
قالت :
-" إذن.. من الأجمل أنا أو تلك البشعة ؟". شعر لينياس أنه داس على لغم إذ كان يعلم من تعني بالبشعة ونظر إليها وهو يفكر هل كل ذلك من أجل أن تصل لهذا السؤال؟.
ولكن، لم يستطع أن يقول شيئاً عن هذا. فإذا قال أنتِ أجمل. فقد كان يعلم أن ما سيقوله سيذهب رأساً إلى ريفيريا والتي ستصبح مجنونة فور سماعها تلك الكلمات وستصدع رأسه بهذا. وإذا قال ريفيريا أجمل. قد تنفجر بالبكاء وربما تمزق شعرها. لا . كان واثقاً في أن إنتوس ستفعل ذلك فقد كانت تفقد عقلها من هذه الأشياء. وتمتم يقول :اليس لديهن شيئاً أفضل يقمن بها.. النساء لديهن شيئاً ما في رؤوسهن.
قالت :
-" هل قلت شيئاً ما ياسيدي؟". تلك اللحظة لمعت فكرة في رأسه وفكر أن يستغل آخر كلمة تحدثت بها وبالطبع سترفض أن تفعل ذلك وسيذهب الحديث في اتجاه آخر تماماً ولن يضطر للإجابة عن السؤال. وابتسم في قلبه.
وقال :
-" لا . لم أقل شيئاً.. لذا.. يا إنتوس لا أريدك أن تدعوني سيدي بعد الآن.. إنها تزعجني".
في تلك اللحظة ابتسمت إنتوس ابتسامة شيطانية وحدقت إليه بعينين ماكرتين وقالت :
-" لا تتهرب من الإجابة عن سؤالي ياسيدي ".
جُمد لينياس في الهواء. وشعر أنه تعرض لركلة بين ساقيه.
النساء وحوش!! . وعلى هذا الخاطر قام ينظر إلى أسفل ليكسب بعض الوقت حتى يعود هيكروس.
ولكن إنتوس استمرت تقول :
-" يبدو أني كنت محقة في كلامي.. أيضاً أنا لن أتوقف عن دعوتك بسيدي حتى ولو أمرت بقطع رأسي وأنت تعلم إجابتي جيداً.. ياسيدي وروحي وقلبي.. أهمم ! " . قامت إنتوس بالسعال وحدقت إلى سيدها وكأنها تلتهمه بتلك العيون وتمنت في أن يقول سيدها شيئاً على كلماتها الأخيرة المتعمدة. ولكن ، كان سيدها ينظر إلى أسفل وكأنه لم يسمع شيئاً. واستمرت تقول وقد شعرت بخيبة أمل :
-" إذن ماهي إجابتك ياسيدي؟" .
قام بحشد أكبر مجاملة يستطيع حشدها وقال:
-" بصراحة ، كلكن جميلات. وكل واحدة جميلة بشكل مختلف.. كزهرتين متألقتين. فكل زهرة لديها جمالها ورائحتها الخاصة. ولا يمكن أن أحكم او أُفرق بينكن. لذلك ، لا أريدك أن تسألي مثل هذا السؤال. ولكي لا تسأليني مرة أخرى أو تسبب كلماتي بعض الإنزعاج للأخريات أقول أن كل نساء قلعة بنتوس جميلات. هل هذا مفهوم ؟" .
قالت وقد انحنت بكل سعادة :
-" مفهوم ".
أراد لينياس أن يعرف سبب تلك السعادة المرتسمة في وجهها . ولكنه كان يعلم أن ذلك سيسبب له صداع لذلك قال :
-" ما سبب قدومك إلي " .
رفعت إنتوس رأسها وظلت ترمش بعيناها وكأنها لا تفهم ما يعنيه. واستمر لينياس يقول :
-" قلتي مندو برهه في أنكِ ترغبين في الحديث معي ".
قالت :
-" اوه !. هذا صحيح. لقد نسيت، أرجوا تغفر لي ذلك ".
عندها أرتفع هيكروس إليهم وقال بتجهم :
-" من الجيد أنك لم تذهب أيها القائد فقد كان المكان في فوضى من شدة البكاء.. على كل حال لقد أخبرتهم، وهم ينقلون إليك الثناء والشكر لكل شيء قدمته لهم".
قال لينياس :
-" شكراً لك ياهيكروس.. وفي الحقيقة لم أُقدم لهم شيء فقد كانت تعويذة سحرية وستعود القوة السحرية التي فقدتها سريعاً، لذلك لم أخسر شيئاً او أقدم شيئاً ". وعاد يلتفت إلى إنتوس واستمر يقول:
-" ماذا هناك يا إنتوس؟". قالت :
-" نعم، لقد قامت سنوريا بالذهاب هي وأتباعها إلى الحدود التي تفصل بيننا وبين مملكة آيرم".
قال لينياس منزعجاً :
-" لماذا؟.. لماذا ذهبت إلى هناك؟. لا. من أعطاها الإذن بالذهاب؟".
قالت بقلق:
-" لم يعطيها أحد.. لقد ذهبت من تلقاء نفسها. أما عن سبب ذهابها فقد ذهبت بعدما سمعت أن جيشاً يخيم هناك.. و..".
قاطعها لينياس غاضباً :
-" هكذا إذن.. فقد كنت اتساءل عن عدم وجودها مندو الأمس.. ولكن، ذلك المكان قد يكون خطيراً عليها.. إنهم في حالة حرب. تلك الطفلة الحمقاء!.. متى عادت؟. أين هي الآن؟..".
-" لقد عادت بعد خروجك من القلعة، وهي الآن في السجن ".
-" ماذا!. هل لدينا سجن؟!.. آ. لا.. ليس، أقصد لماذا سُجنت؟..".
قالت:
-" لقد فعل سيريوس ذلك. ايضاً.. هناك شيئاً مهم".
أحس لينياس بضيق من تلك الكلمات، لسبباً ما استشعر شيئاً سيئاً وقال بوجه يوحي بما اعتمل في صدره:
-" شيئاً مُهماً غير ذلك؟ ".
اجابت إنتوس بصوت مرتعش:
-" لقد اشتبكت هي وأتباعها مع بعض الأشخاص الأقوياء.. وقد.. لقد تم قتلهم". وارتجفت إنتوس كورقة في مهب الريح إذ هبت عاصفة جليدية او هذا ما خُيل ل-إنتوس. البرد الذي تسرب ونخر في عظامها جعل إنتوس ترتعد دون توقف.
لم يكن هذا برداً من الطقس او السحر أو نوع من أنواع التخيل. بل كان الخوف في أنقى صوره ينخر في عظامها.
كان سيدها أمامها، ولكن ، لأول مرة في حياتها أرادت أن تهرب منه بكل قوتها إذ بدا سيدها الآن مخيفاً. مرعباً .غاضباً بشكل لا يصدق. فلم ترى تلك الهيئة إلا مرة واحدة حينما ارتكب سيدها مجزرة في ذلك الزمان جعلها ترتعد مثل الآن.
ولكنها لم تستطع إبعاد عينيها عنه فقد كان ذلك وقح ولا يغتفر بالنسبة إليها ، لذلك ظلت إنتوس تنظر إلى سيدها والعرق الغزير ينهمر من وجهها ليتساقط عبر دقنها. بدا لينياس مختلفاً تماماً عن مظهره الطبيعي إذ بدا شعره الأبيض كعباءة هائلة وقد تضاعف شعره عدة مرات وانتصبت شعيرات رأسه مثل الإبر وكان وجهه المخيف الغاضب يكشر عن أنيابه الطويلة التي استحالت إلى أنياب وحوش ضارية،واستطالت أظفار يديه حتى أصبحت بطول عشرين سنتيمتر وكانت حادة كموس الحلاقة.
لم تعد تلك مجرد أظافر بل أصبحت أسلحة حادة تمزق كل شيئاً تلمسه.
وبدت عينيه الذهبيتين المتوهجتين وكأن في داخلها غابة محترقة مستعرة والتي كانت في نفس اللحظة لا تحمل أي عاطفة وكأنه يحدق بشخص سيتم تمزيقه بلا رحمة.
وكان ذلك الوجه وتلك العينان تحدق مباشرة بإنتوس دون أن تقول كلمة واحدة. كان هذا لا يرحم بالنسبة إليها إذ لم تستطع إنتوس السيطرة على ارتعاشها وقد ابتلت ملابسها الداخلية من شدة العرق البارد الذي أفرزه جسدها. كان العرق يجري فوق ظهرها وبطنها وذراعيها وساقيها كنهر يجري بلا توقف.
فلو نظر سيدها إلى أسفل فستانها لوجد العرق يتساقط من داخل فستانها كالمطر ولعرف كمية الخوف والرعب الذي يسببه لها. لم تخشى إنتوس شيئاً في حياتها سوى هذه النظرة وهذا المظهر.
كان هيكروس يحدق إلى وجه إنتوس الشاحب كالجثة، وعيناها الغارقة بالخوف وشعر بالتعاطف معها. ولكنه كان يعرف أن هذا هو الوجه الحقيقي للقائد.
ولم يكن غاضباً عليها بل كان غضبه في مكان آخر.
وقد كان هيكروس يبدو هادئ،
ولكن ، لم يكن هذا هوا الحال إذ كان الغضب يحترق في صدره مما قالته إنتوس فقد كانت مسؤولية العشيرة فوق كتفيه مثل كل القادة المؤسسين للعشيرة. وقد كان سيتصرف بنفسه مثل كل مرة. لكن الآن أصبح القائد موجوداً ، لذا ، كان عليه أن يظل صامتاً ويترك كل شيء للقائد. وبعد صمت قال لينياس بصوت حاد كموس الحلاقة :
-" لماذا؟! لم تخبريني سريعا!ً.. بذلك؟".
لم تستطع إنتوس تجميع الكلمات في عقلها فقد كان عقلها متجمداً ولا تعرف كيف تجيب لذلك خفضت رأسها بقوة حتى كاد وجهها يلامس ركبتيها المرتعشة وتطاير العرق من وجهها بسبب تأرجح رأسها السريع وقالت :
-" يرجى المغفرة فقد نسيت ! ". لم يقل سيدها شيئاً وكأنه يفكر بشيء ما. وظل الصمت المميت لعدة ثوان، ولكن ذلك الصمت كان كالدهر بالنسبة إليها وأخذت تحدق لركبتيها التي كادت تدخل بعينيها من شدة انحنائها. وللحظة فكرت هل سيكرهها لنقلها تلك الأخبار وغرق قلبها في بطنها.
-" لنذهب! " . قال لينياس واختفوا جميعاً تلك اللحظة.