كانت غرفة واسعة وجمالها يحبس الأنفاس، جدرانها بيضاء ناعمة مزخرفة بنقوش زرقاء بدت كعشرات الأنهار المتلألئة.
ثريا هائلة مصنوعة من الكريستال تتدلى في منتصفها وتشع أضواءها السحرية كالحلم. وكان هناك سرير ملكي أسفل تلك الأضواء.
ومع ذلك كانت الغرفة في فوضى عارمة وكأن ضربها إعصار.
زجاج متكسر في كل مكان، أخشاب وطاولات محطة، زجاجات عطور مهشمة، ريش طيور حمراء متناثرة في كل مكان، وسائد و ستائر قرمزية ممزقة. حتى السرير لم يكن في أحسن حال.
وكان هناك شخصاً فوق السرير.
كانت امرأة تدفن وجهها على وسادتها المتبقية، وبدا شعرها الحريري كنهر أسود فوق السرير إذ كان شعرها طويل بحيث يكاد يلامس كعبيها. وكانت ترتدي فستان أسود مطرز بخيوط الذهب، وعلى يديها قفازين من الدانتيل الأسود. ويبرز من مؤخرة رأسها قرنان ملتوية إلى الأعلى.
كانت من عرق رونيا.
تنهدت المرأة وكأن نار حارقة تتصاعد من صدرها، والقت نفسها على ظهرها.
كاشفتاً عن امرأة آية في الجمال. ذو بشرة بيضاء كالمرمر، و قزحيتان بنفسجيتان مشقوقتان رأسياً كالقطط، وشفتين رفيعتين بلون عينيها.
كان جمالها العذب يجعل الناظرين يلهثون في مزيج من الصدمة والدهشة والإعجاب. كانت المرأة تدعى إنتوس.
حملقت إنتوس بتعب إلى الثريا فوقها، و شعرت بكراهية نحوها إذ كانت تضيئ وتلمع وتتألق فوق رأسِها وكأنها تسخر من بؤسها.
أصبحت إنتوس تكره كل شيء وترغب بتحطيم وتمزيق كل شيء أمامها.
كل شيئاً أصبح مر وبلا طعم في عينيها المنهكتين من البكاء. حتى الحياة فقدت نكهتها وبدت بلا لون، كلون رمادي كئيب.
لم تتذكر كم مرة مزقت شعرها، وخدشت وجهها وعضت شفتيها حتى مزقتها إذ كانت تنتحب وتنوح من شدة البكاء الذي وصل صوته عنان السماء.
أو كم مرة حاولت خنق نفسها ، أو قتل نفسها.
إلا أنها في كل مرة تحاول فعل ذلك، تتذكر الأمل الذي يضيئ ما تبقى من روحِها، في أن سيدها ، روحِها ،حبيبها ، أنفاسها ، دمها ، عظامها ، سيعود في أي لحظة ولن تكون موجودة لتُنير عينيها برؤيته إن قتلت نفسها.
رفعت إنتوس يديها في الهواء وكأنها تتخيل وتتمنى أن يسقط ذلك الشخص في أحضانها. وبصوتاً ضعيف كنسمات الهواء قالت:
-" لماذا؟.. لماذا؟ .. ، لماذا لم تعد؟ لقد مر زمناً طويل.. طويل كالأبدية وأنت لم تعد بعد.. ماذا أفعل من أجلك؟.. أخبرني ياسيدي..
إهمس لي..". ولم تسمع سوى السكون.
واهتز سريرها من بكائها. ووضعت يديها على وجهها وارتفع صوت بكاءها.
-" لقد قتل نفسه من أجلنا !! . لا. لقد قتله البشر!!.. هم السبب.. جعلوه.. إني أكرههم!!.. سيدفعون الثمن!!.. سآكل قلوبهم.. سأرمل نسائهم!!.. هاااا !!!... ".
وانزلت ذراعيها ومالت على بطنها لتدفن وجهها في وسادتها لتكمل بكائها المخنوق. وفي لحظة صرخت ومزقت وسادتها وتطايرت ريشات حمراء جميلة من داخلها.
وعادت تنكمش على نفسها. لم تعد إنتوس ترغب بالخروج من غرفتها إلا لقضاء بعض المهام التفقدية ثم تعود سريعاً إلى غرفتها ولا تخرج منها لعدة أيام.
مرة واحدة فقط ظلت تهيم على الأرض بحثاً عن سيدها.. سنين طويلة بحثت مع عشيرتها عن سيدها .. بحثوا عنه.. بحثوا عن لمحة منه.. عن علامة منه.. عن أمل.. ولكن لم يكن هناك شيء.. تلاشى سيدهم ولم يعد له أثر.
حينها فارت دمائهم وغلت رؤوسهم واعتراهم غضباً جنوني. وأفرغوا فورة الجنون على هذه الأرض التي كانت سبب كل شيء. حطموا كل شيئاً أمامهم حتى استحال البلد إلى خراب من قوة العشيرة، فقد أصبحت عشيرة بنتوس هائلة القوة.
ولكن إنتوس لم يعد يهمها شيئاً بعد الآن فقد أصبحت خاوية كالجثة الميتة. جثة تحترق بشوق لسيدها.
-"ليتني لم أفعل. ليتني أخذت تلك الجوهرة اللعينة وهربت بها بعيداً. ليتني رميتها. ليتني أوقفته، حتى ولو قام سيدي بأخذ حياتي، كان يجب أن أفعلها. لكم أكره نفسي وضعفي.. ليتني لم أولد ..
ليت سيدي لم ينقذني وأصبحت ميتة.. آآه ما أشقاني.. لا. هذا عقابي..فقد قمت بمهاجمة سيدي ومزقت ذراعيه الحنوتان بذلك السيف اللعين!".
ونهضت من سريرها.
وقامت بأخذ قطعة من المرآة المحطمة تحتها ، وحدقت في انعكاسها ، وأخذت تتلمس وجهها.
-"أه ، لقد صرت مخيفة .. يالي من بائسة ".
وحدقت بعينين خاويتين بشفرة المرآة، ولمعت شفرة المرآة بألوان قوس قزح وهي تقترب من حلقها. وفكرت للحظة في أن تغرسها في حلقها لترتاح من هذا الألم والعذاب.
إلا أنها رمتها على أشقائِها ليبكوا معاً بصوت الحطام.
وأخدت تدور حول الغرفة وهي لا تدري ما تفعل. وفكرت ب- سيلين وكيف تتحمل ذلك. لا. لقد كانت تعرف الفرق بين مشاعرها ومشاعر سيلين. إذ كانت سيلين هي الوحيدة التي اعتنى بها كأبنتة الحقيقية وقد وجدها في أطراف الغابة المظلمة بجانب جثة أمها. كانت طفلة هزيلة لم تتجاوز الثانية من العمر تسبح بدماء أمها القتيلة. لهذا قام سيدها برعاية الطفلة وأسماها سيلين. وقامت العشيرة برعايتها بكل حب.خصوصاً إنتوس.
التي اعتنت بها كأمها وهي تبدو بعمر الثالث عشر.
وقد أعلنت في العديد من المرات أنها ستكون أمها. وقد كانت كلماتها تجعل العشيرة الصغيرة تنفجر من الضحك إذ فهموا ماتصبوا إليه.
كانت طفلة صغيرة في ذلك الزمان.
إلا أنها لم تكن بعمر البشر وقد أنقذها سيدها مندو ثلاثين عام. أي قبل ثلاثين عام من قدوم سيلين إلى العشيرة.
فلو لم يكن لدى سيدها حاسة سمع قوية لكانت إنتوس ميتة في أحد الكهوف العفنة الموجودة في أعماق الغابة المظلمة. ولكن سيدها لينياس بنتوس سمع صوت تنفسها الضعيف تحت أكوام الجثث.
كانت تبدو كطفلة في الحادية عشر حينما أنقذها سيدها. كانت طفلة هزيلة يابسة كغصن شجرة وكانت مذعورة خائفة من كل شيء.
ومندو ذلك الحين لم تفارق سيدها أبداً إذ خشيت أن يتركها خلفه وتعود إلى الجحيم الذي كانت فيه. ولكن سيدها كان حنوناً وعطوفاً عليها إذ كان يجعلها تنام في أحضانه بل كان يمشط شعرها ويهدهدها حتى تنام لأنه كان يعرف كمية الرعب والخوف الذي تعانيه. كانت حياتها بشعة قاسية مندو ولادتها ولم يعاملها أحد بمثل هذا العطف والحنان.
ومرت السنين وبدأت تشعر بأشياء غريبة تزحف في صدرها ولم تكن تفهم أي شيئاً منها.
في كل مرة تقوم بالنظر إلى سيدها ينبض قلبها بعنف وكأنه سينفجر. ومع ذلك لم تكف عن التحديق إليه.
حدقت إلى عينيه الذهبيتان المتوهجتان تحت ضوء القمر. وداعبت شعره الكثيف الأبيض وهي تراقب هدوءه وصمته الغريب.
كان جميلاً. كان مهيباً. كان قوياً. كان حنوناً. وكأنه لاينتمي لهذا العالم القاسي. بل كانت موقنة في أن سيدها سقط من أحد القمرين.
والغريب في الأمر أنها لم تكن تمل من النظر إليه طوال الليل والنهار. بل كانت ستنظر اليه لساعات متواصلة دون أن تشعر باي تعب بل ستكون سعيدة بذلك دون سبب.
وعندما كان يغيب عنها سيدها تظل تتقلب في مكانها ولا تستطيع النوم مطلقاً إذ كانت تشعر أن صدرها يحترق.
حينها أحضر سيدها سيلين وكانت مشاعرها تزداد عنفاً وقوة مع كل وقت وعام.
حينها قامت بإخبار ريفيريا عما يعتمل في صدرها. ولكنها لم تفهم سبب ضحك ريفيريا وهي تقول لها: هل لديك موهبة في تحطيم الصخور. وبعد أن شبعت ريفيريا ضحكاً. أخبرتها حقيقة ما تشعربه. كانت تلك الكلمات كزر تشغيل يفجر مشاعرها في جوفها.
وأصبحت الفتاة الصغيرة تعشق سيدها عشقاً جارف لا يعرف الحدود. ومن تلك اللحظة شعرت أنها لم تعد فتاة صغيرة بل امرأة عاشقة. ومرت السنين وأصبحت إنتوس الفتاة الصغيرة امرأة فاتنة تأسر كل العيون.
-" إنه يؤلم!. يؤلم!. يؤلم!. نار حارقة في صدري!!. قلبي يغلي يتمزق!!..ااه !! .. جسدي يلتهب. يحترق. يصرخ مطالباً برؤية الحبيب!!".
وأخذت تنوح بشجن.
وحطمت بيديها كل شيء تراه. طاولات. ستائر. كراسي. ثم قفزت فوق السرير ومزقت الملاءة. وفي فورة جنونها أخذت بقايا كرسي محطم وقامت تحطم الثريا حتى تناثر الكريستال كالمطر. وطحنت أسنانها إذ قامت بحمل السرير الهائل فوق رأسها وكادت ترميه على الأرض محطمة إياه إلا أنها تجمدت حين شاهدت سيريوس يقف أمامها.