وقفت الملكة أمام باب إحدى الغرف وأخذت عدة أنفاس. وحينما شعرت أنها استعادت هدوءها فتحت الباب ودخلت الملكة إلى غرفة مؤثثة ببذخ تليق بأمير.
كان هناك أربع خادمات شابات تقمن بالعناية بفتى في الرابعة عشر من عمره يرقد فوق سرير كبير. إحداهن تمسح العرق عن جبينه وأخرى تمسح جسده بقطعة قماش مبلولة. أما الباقيات كن يقفاً في استعداد لطارئاً ما، وجميعهن ارتدين قفازات قطنية بيضاء.
كنَّ على وشك الانحناء لملكتهم إلا أن الملكة رفعت يدها لتمنعهم من ذلك.
وقالت إلى الرجل الوحيد في الغرفة :
-" كيف حاله الآن؟ ".
كان الرجل كبيراً في السن ذو لحية بيضاء طويلة تصل إلى بطنه، وكان شعر رأسه أبيض طويل متجعد بدا كشعر الخروف. وكان يرتدي عباءة حمراء وأضاءت عينيه وتجاعيد وجهه بالحكمة والمعرفة. إضافة إلى ذلك كانت لديه عصى خشبية سوداء بمقبض أحمر متوهج وكانت العصى تطفو في الهواء بجانبه.
قال وهو يحبس دموعه :
-" ليس هناك أي تقدم ، وحالته تسوء. أنا آسف ياصاحبة الجلالة.. خلال عمري الطويل وتجاربي الكثيرة لم أرى كهذا مرض، حتى سحري لا ينفع معه.. فلو كان ذلك الخيميائي الذي سمعت عنه على قيد الحياة لربما وجد علاجاً للأمير ".
كانت الملكة تعرف ذلك جيداً ، وقد سمعت عن ذلك الخيميائي مندو زمن طويل أيضاً ،ومع ذلك لم يجدوا هذا الشخص، وقد كانت تعلم أنه لا يوجد شيء يستطيعون فعله ، ومع ذلك كان عليها السؤال لتُريح قلبها.
-" لا تحتاج للإعتذار.. أنا أشكرك حقاً، فقد خدمتني جيداً لسنين طويلة، وقمت بعملك كمعالج القصر بكل أمانه وشرف، أرجوا أن تقبل شكري". وحنت الملكة رأسها ، فقد كان الرجل ذو مكانه عالية حتى بالنسبة لها.
ولكن ، انتفض الرجل العجوز واقفاً وقال :
-" ماذا تفعلين ياصاحبة الجلالة؟!.. أنا الذي فشلت في ايجاد علاج لولي العهد، أرجوك ارفعي رأسك ! ". وعضت الخادمات شفتيهن السفلية وهن ينظرن بألم إلى ملكتهم المكسورة. رفعت الملكة رأسها وبوجه ممزق بالحزن والألم قالت:
-" المعذرة، ولكن ، أريد أن أبقى مع أبني لوحدي".
-" مفهوم ". قال الرجل العجوز وخرجوا جميعاً مغلقين الباب خلفهم. جلست الملكة على المقعد الذي كان عليه العجوز ونظرت إلى ابنها الذي كان نائماً.
كان نسخة مصغرة عن أمه. وكانت ذيوله الستة مرمية فوق سريره وكأنها ستة ثعالب بيضاء نائمة بجانبه. كانت ذراعيه وساقيه وعنقه أسود كالقطران من هذا المرض الغريب. وفي تلك اللحظة أرتفع السواد ببطئ كالأفاعي الزاحفة ليغطي كتفيه وصدره. تقشعر جسد الملكة من ذلك وقالت متضرعة:
-" يا الله اعطني القوة واشفي أبني".
عندها فتح الفتى عيناه الزرقاء المتعبة من المرض ، وأمال رأسه لتتساقط خصلات شعره الفضي على عينيه وجبينه وقال:
-" أه ، أمي.. لماذا تبكين ؟". ابعدت الملكة الشعر عن عيني ابنها وقالت:
-" إنها دموع الفرح ، فقد قال المستشار مزحة جعلتني أبكي من شدة الضحك.. ". ولكن الأمير اعتقد في أنها كانت تبكي لشيء آخر وقال :
-" لو كان لي أخ آخر لكان هناك من يحل محلي". رفقاً بي يابني فأنا لم أعد أقوى على تحمل مثل هذه الكلمات. لم أعد قوية كما كنت.
-" ما الذي تقوله يابُني؟، فلا يوجد أحد يمكن أن يحل محلك".
-" أمي أنا أقصد أمور الحكم، فلا بد أن يكون هناك ولي للعهد. لذا.. لماذا لا تتزوجين يا أمي؟ ". لقد ركضت خلف كل رجل.. ولم يقبل بأمك أحد يابني.. ربما قريباً ستراني معروضة للبيع في أحد البلدان.. عبدة تقوم بإرضاء الرجال.. عاهرة يابني.. امك ستصبح عاهرة.. الملكة دنيا فكتم بتراي آيرم ستصبح عاهرة.. وسيحرص الملوك والنبلاء على إذلالي.. وربما يجعلون كلابهم.. كانت ستجهش في البكاء من هذا المصير المحتوم إلا أنها بدلت كل جهدها لتضحك أمام ابنها.
وضحكت الملكة بعذوبة وهي تقول:
-" تريدني أن أتزوج؟ ، أنا ؟.. لابد أنك تمزح. فبعد أبيك ماتت كل الرجال في هذا العالم".
-" هل كنتِ تحبينه؟".
-" ما قصة أسئلتك هذا اليوم؟".
-" لا شيء ، أريد أن أعرف فقط. ولكن لا تكذبي علي ، قولي لي الحقيقة".
أطلقت الملكة ضحكة مجلجلة والدموع تتسرب من عينيها وقالت :
-" أنت!.. أنت مضحك هذا اليوم.. توقف عن ذلك.. ستجعلني أموت من الضحك ! ".
نظر ابنها إليها بجدية وقال :
-" أريد أن أعرف ".
ابتسمت الملكة وقالت :
-" أنت حقاً تشبه أباك ، فقد كان يتصف بالجدية والجرأة وهو في سنك وكأنه كان رجلاً في جسد فتى.
لا تنظر لي هكذا.. ستجعلني أضحك من جديد. طيب.. طيب، سوف أخبرك". وقامت تمسح دموعها بأحد ذيولها واستمرت تقول :
-"نعم ، لقد أحببت أبيك كثيراً.. فأنت تعلم أنه كان أبن عمي، وقد كنا لا نفترق ابداً.
وكنت أصبح مجنونة عندما أراه يتحدث مع الفتيات، بل كنت أجره من يديه كي ابعده عنهن، وكان والدك يضحك على ذلك وهو يلوح للفتيات ، وعندما نصبح وحدنا وأكون على وشك توبيخه يحدث العكس تماماً.
فقد كان يوبخني بشدة قائلاً أنهن من نبلاء البلاد ، لهذا عليه تحسين العلاقة معهن لدعمه في أمور الحكم حينما يصبح ملك.
لم أكن أفقه شيئاً من هذا وكنت أعتقد أنه يحب العبث معهن. وحينما أكون على وشك البكاء من توبيخه، يتوقف عن ذلك ويخبرني كلمات جميلة بتلك الابتسامة التي تجعلني أنسى كل شيء وأرمي نفسي في أحضانه. ولا تسألني عما كان يقول لي فلن أخبرك ابدا ً ".
ضحك الأمير وقال :
-" يبدو أنك وقعتي في شباكه".
-" أه ، ربما لا تصدق ذلك.. ولكن ، كان أباك ماهراً في التعامل مع النساء بشكل مخيف، فقد كان ببضع كلمات يجعلهن يفعلن له أي شيء ، ولا تفهم حديثي بشكل خاطئ أنا أتحدث عن أمور البلاد . فقد كان والدك رجلاً نزيهاً ومحترماً ".
-" أعلم ذلك يا صاحبة الجلالة ". عبست الملكة من تلك الكلمات ولكن الأمير صحح كلماته وقال:
-" أعلم ذلك يا أمي".
صفعت الملكة كفيها معاً مصدرة بذلك صوت كصفعة خفيفة وقالت بسعادة وابتسامة ماكره :
-" هل تعلم بماذا كنت أدعوه؟ ".
-" صياد النساء " . هكذا قال الأمير وهو يضحك واستمر يقول:
-" لقد أخبرتيني عن ذلك العديد من المرات ".
مطت الملكة شفتيها وقالت :
-" حقاً ، أنا لا أتذكر " .
-" لهذا عليك الزواج، حتى و إن لم تُحبي ذلك.. يجب أن لا تبقي وحيدة ". وأبعد عينيه عن أمه واستمر يقول :
-" على الأقل من أجل مملكة آيرم يجب أن يكون هناك ولي للعهد ".
تمزق وجه الملكة بالحزن وغرقت عينيها بالدموع وقالت بصوت مزقه الألم:
-" أنت هو ولي العهد.. فقريباً ستصبح ملكاً وستعيد المملكة إلى مجدها السابق.. وسوف أشاهد ابنائك يلعبون في كل مكان". وبصوت مرتعش قال الأمير:
-" هذا مستحيل.. فأنا قريباً سأموت " . تلك الكلمات حطمت أساساتها وقلاعها وحصونها وحطمت ما تبقى من روح الملكة وأغرقتها في أعماق اليأس. انفجرت الملكة بالبكاء واخذت تصرخ وتنوح :
-" لاااا!!!!. أنت ستعيش !! . ستعيش طويلاً جداً !!! " .واحتضنت أبنها ومرغت صدره بدموعها وهي تصرخ. عندها صرخ الأمير بوجه يعتريه الخوف الشديد :
-" لا تلمسيني !! . قد يكون معدياً !! " .
-" هذا لا يهمني !!!. إذا كنت ستموت فسوف أموت معك !!!.. لم أعد أرغب في هذه الحياة بعد الآن !!! . نعم ، سنلتقي بأبيك.. ونعيش في سلام وسعادة في تلك الحياة الأبدية الجميلة!!! ".
-" ابتعدي عني يا أمي !! " . صرخ الأمير وهو يحاول التحرك ، ولكن عبثاً .كانت ذراعيه وساقيه يابسة كالحجر.
حينها دخل الأشخاص من السابق وأمسكوا الملكة لينتزعوها من فوق أبنها والدموع تتساقط من أعينهم إذ سمعوا كل شيء. ولكن الملكة أخذت تتخبط وتتلوى بين أيديهم.
-" لاااا !!!. إتركوني !!!! ،أريد أن أموت مع أبني !!!. دعوني !! .. هل ستتركني أيضاً !!! .. أبيك ثم أختك والآن أنت !!!. ستتركونني في هذا العالم المتوحش لوحدي ، لا ، أريد أن أذهب معكم !!! ". عندها القى الرجل العجوز عليها تعويذة وسقطت الملكة في أحضانه نائمة.
-" سنأخذها إلى غرفتها يا أميري " . قال الرجل العجوز.
قال الأمير دون اي عاطفة :
-" أرجوك أبذل جهدك للعناية بها، إنها ملكتنا وآخر شخص من سلالة آيرم المالكة، فأن سقطت فقد انتهت المملكة إلى الأبد".
-" هذا بتأكيد ما سأفعله لا تقلق يا أميري العزيز ". وخرجوا وهم يحملون الملكة والدموع تتساقط من أعينهم.
وعندما خرجوا من الغرفة انفجر الأمير بالبكاء. سيموت قريباً ويترك أمه الحبيبة تعاني من كل شيء وتذكر تلك اللحظة وصية أبيه.
كان أبيه على فراش الموت وحدجه بنظرات حادة تخترق الروح وقال له آخر كلماته :
-" إني اترك أمك والمملكة بين يديك، أعتني بهم. وكن ملكا عظيماً كآيرم ! ".
ارتفع صوت بكاءه وبدأ جسده يرتعش فسيموت دون الوفاء بوعده لأبيه. أمتلئ وجه الأمير بالدموع الغزيرة وعض شفتيه حتى مزقها وتدفقت خيوط الدماء عبر دقنه إلى صدره وقد مرت بعنقه الأسود.
كان الظل يحدق إليه بعينيه الحمراء وتلاشى سريعاً عبر الجدار.