كانت الرياح الباردة ترفرف بشعر إنتوس الطويل وهي تسير حافية القدمين في شاطئ الطيور وبجانبها سيريوس الذي كان صامتاً صمتاً مميتاً.
كان الساحل مترامي الأطراف وكانت رماله كحبات الذهب المتلألئة. وكانت أمواج البحر الزرقاء تلاطم ساحلها الذهبي ناثرتاً سلطعونات البحر الزرقاء لمواجهه طيور النار البحري والتي كانت تتفرق هاربة من الشخصين الذين كانوا يسيرون بينهم.
قالت إنتوس وهي تحاول مداعبة أحد الطيور بأصابع قدميها :
-"هل أنت غاضب مني؟ ".
-" رد سيريوس وهو ينظر لأمواج البحر :
-" لا، لست غاضباً منك.. لماذا تخبريني ذلك؟ " .
قالت إنتوس :
-" مجرد سؤال فقط.. فأنت لم تنظر لي ولم تحدثني باي شيء مندو مجيئنا إلى هنا ".
-" إنتوس.. أنتِ تعلمين أني لا أحب الحديث كثيراً. ايضا أُحب أن أراقب البحر بصمت ".
-"مثل القائد اليس كذلك ؟".
توقف سيريوس في مكانه وقام بإدخال يديه في جيب سرواله ، وظل يحدق إلى البحر بكآبة.
ظلت إنتوس تحدق إلى البحر وهي تنتظر ما سيقوله.
استمر الصمت طويلاً ولم يكن يُسمع سوى أصوات الطيور وأصوات الأمواج التي تلمع تحت أشعة الشمس. ويبدو أن هذا الصمت لم يعجب البحر إذ لطمت الساحل موجة كبيرة ناثرتاً رذاذ الماء فوق أجسادهم لتكسر الصمت الكئيب.
قال سيريوس بصوت حزين:
-" لا يوجد أحد مثل القائد ، أنا.. لن أستطيع أن أفعل مثله أبداً. ما زلت لا أصدق مانحن فيه، وكأننا في قصص الأساطير القديمة. قلعة عظيمة". والتفت إلى الخلف وتبعته إنتوس وحدقوا إلى البعيد، إلى قلعتهم قلعة بنتوس.
كان شيئاً هائلاً يرتفع أمامهم كسلسلة جبلية عظيمة. كانت قلعة بلون الدم، وبدا ارتفاع سقفها وأبراجها وكأنها غرست في السماء إذ تجاوز ارتفاعها السحاب.
بدت مهيبة متألقة وكأنها فخورة بنفسها. وأكمل سيريوس يقول:
-" خدم وأتباع أقوياء. والقوة التي أصبحنا عليها.. لقد فكر بكل شيء بدقة لا يستوعبها عقل.. حتى المراكز والمناصب التي نحن فيها قد فكر فيها.. هذا هو القائد ، يفكر بنا قبل نفسه". وقام يمسح رداد ماء البحر من على وجهه. إلا أن إنتوس كانت تعتقد أنه يقوم بمسح دموعه.
قالت إنتوس السؤال العالق في حلقها :
-" لقد قلت شيئاً عن عودته.. " .
تنهد سيريوس بقوة ولسبباً ما شعر أنه يحتاج إلى تدخين سجارة وهو حتى لم يدخن في حياته مطلقاً. ليت إنجوس كان هنا كي آخذ منه واحدة.
وعاد يلتفت إلى البحر وهو يقول:
-" إنه سحر فريد.. ابتكره البرفسور.. وهو يقول أن هذه التعويذة السحرية لا يجب أن يسمع عنها أحد، فإذا تسربت المعلومات عنها فإنها تفقد قوتها.. أنتِ لا تريدين سماعها.. حسناً سوف أخبرك.. إنها..". صرخت إنتوس وهي تسد أذنيها:
-" لا أريد أن أسمع شيئاً !!. توقف عن هذا !!".
من الجيد أنها ساذجة فلو كانت ريفيريا لكان الوضع مختلفاً..
وابتسم سيريوس إذ أخذت إنتوس تغير مجرى الحديث وأشارت إلى الطيور:
-" ماذا كان اسم هذه الطيور؟".
-" إنها طيور النار البحري.. اليست جميلة حقاً؟ ".
كانت طيور النار البحري بحجم قبضة الرجل وكانت ذو لون ذهبي محمر من الرأس. وتبدو من بعيد وكأنها نار مشتعلة في الرمال. لهذا أُطلق عليها الاسم.
امالت إنتوس جسدها سريعاً وامسكت إحداها بيديها وقالت بسعادة :
-" إنها جميلة ~ ".
كان الطائر يقدم احتجاجه بزقزقة جميلة كالألحان. وقام بعض أصبع إنتوس بمنقاره الأزرق الصغير، إلا أنها لم تشعر بأي ألم. واستمرت تقول:
-" يالك من ظريف ".
وقامت بإلقائه في الهواء وسقط الطائر سريعاً في الرمال وعبست إنتوس من ذلك .
قال سيريوس :
-"إنها طيور لا تطير ".
-" آه ، هكذا ، لم أكن أعرف . لكن... اليست اعدادها كثيرة؟ ، بالكاد أستطيع أن أجد مكان لقدمي كي أمشي ".
-" هذا كله بسبب نافوريس، الذي أخبر إلفآم في أنها طيور نادرة جداً ولا تعيش إلا على هذا الساحل، ومن تلك اللحظة وهو يعتني بها حتى صارت بهذه الكثرة ".
قالت إنتوس :
-" إنه يحب الأشياء النادرة حقاً " .
-" هذا صحيح. ولكن ، أعتقد أنه يحاول اشغال نفسه بتربيتهم ".
قالت إنتوس متسائلة وهي تزيح خصلات شعرها عن عينيها:
- " نافوريس.. ذلك المخلوق الغريب الذي سمحنا له في أن يعيش على هذا الساحل؟ ".
-" نعم إنه هو. ولكنه ليس غريباً لهذه الدرجة " .
أمسكت إنتوس حافة فستانها الأسود وقالت وقد فقدت الإهتمام بنافوريس في لحظة خاطفة:
-" الرياح قوية هذا اليوم. ولكن.. لا فرق بين الرياح او السكون. كلها أصبحت واحدة اليس كذلك ؟".
سيريوس ظل صامتاً واستمرت إنتوس تقول:
-" أين سيلين؟".
-" أنها مع إنجوس، أعتقد أنهم خلفنا ".
-" هل مازالوا يتفقدوا البحر ؟".
اجاب سيريوس وهو ينظر إلى السلطعونات بجانب قدميه :
-" نعم ، لقد اختفت الأسماك من البحر لسببا ما. لهذا يقومون بمحاولة معرفة السبب. ولكن ، أنا أعرف أن إنجوس على وشك الإنفجار من عدم الاحتمال. كل القادة هكذا.
يقومون بعمل أي شيء كي يشغلوا أنفسهم ،حتى أن بلاندر قامت بالصراخ في وجهي مندو بضعة أيام، وقالت أنها لا تتحمل الجلوس دون أن تعمل شيئاً وذهبت إلى الشمال مع نائباتها.. للحراسة على حد قولها.
قالت إنتوس :
-" الشمال ، إنها تذهب إلى هناك كثيراً على ما اتذكر ؟ ".
-" هذا صحيح ، وعندما تعود تقول بغضب أن الرجال تبخرت من هذا العالم ".
لاح على إنتوس الارتباك وقالت :
-" لا..إنها لا تعني هذا. أعتقد أنها تريد قتال شخصاً قوياً، هذا كل شيء، فهي تحب هذه الأمور ".
ابتسم سيريوس وهو يقول :
-" لهذا طلبت منها أن تقاتلني في اي وقت تريد..حتى أني لن استخدم السحر ".
قالت إنتوس بعينين متسعتين :
-" هل أنت غاضب منها لهذه الدرجة ؟".
-" إنه مجرد تمرين.. فإذا كانت تحب أن يتم تهشيم رأسها فسوف أقوم بذلك.. ايضاً لماذا تخبريني دائماً في أني غاضب؟ هل يبدو وجهي هكذا؟ ".
ارادت إنتوس أن تقول إن عيناك تبدو غاضبة دائماً بشكل مخيف ولكنها قالت:
-" لا . لا يوجد شيء من هذا القبيل .. ". وارتفع صراخ امرأة من خلفهم:
-" ابتعدوا عني سوف اسحقكم..". كانت ريفيريا تصرخ على طيور النار البحري التي تعيق حركة قدميها وأكملت:
-" ما هذا الجنون.. من أين يخرجون؟.. من داخل الرمال.. ". وأخذت تقترب من سيريوس وهي تحمل كرسي بدا مصنوع من العظام.
كانت ريفيريا هي الشخص الأقرب إلى لينياس والشخص الأول في العشيرة وهي من أطلقت اسم بنتوس على العشيرة والشخص الأكثر قوة في العشيرة بعد إنجوس. متعتها الوحيدة هي مضايقة إنتوس والشجار معها.
كانت ريفيريا فارعة الطول رشيقة الجسد بدت كدمية منحوتة من العاج إذ كانت بشرتها شاحبة كشمعة بيضاء، وكان شعرها القرمزي الطويل يرفرف خلفها كنار مشتعلة.
ولو شاهد أحد غيرهم لون عينيها لأطلق صرخة أو ربما شهقة إذ كانت عينيها بلون الدم حتى بياض عينيها كان قرمزي، مع أن قزحيتها كانت أشد حمرة. وكانت ترتدي فستان أسود يكشف عن ساقيها العاجيتين من الامام وينسدل على كعبيها من الخلف.
وكانت ذراعيها مكشوفتين من ناحية المرفقين كانت مصاصة دماء تدعى ريفيريا نايتمير.
تهالكت ريفيريا على كرسيها وحدقت إلى إنتوس التي كانت تبتسم ابتسامة عريضة. غمغمت ريفيريا بكآبة:
-" لست في مزاج لرؤية أسنانك.. ". ولكن تلك الكلمات جعلت ابتسامة إنتوس تتسع.
-" مابك.. ؟".
-" القائد سيعود .. سيدي لينياس سيعود ". اعترت ريفيريا كآبة فظيعة من كلمات إنتوس وتمتمت وهي تحدق إلى أمواج البحر :
-" لماذا فعل بي ذلك؟..".
-" من أجل أن يحميكِ فعل ذلك.. لا أرى سوى ذلك".
-" سيريوس أنت تمزح اليس كذلك؟ .. إذن ماذا عن هذا التيس الذي أخذه معه.. ما زلت لا أصدق ما حدث.. وكأنه حلم..". ردت إنتوس بلهجة منزعجة:
-" لأن هذا التيس كان مطيعاً.. وأنتِ لن تطيعي سيدي أبداً". وانكمشت أنتوس إذ وقفت أمامها ريفيريا في لحظة خاطفة وبدت إنتوس كفأر يقف أمام وحش مفترس.
-" هل تخبريني.. أنني لا أخضع للقائد يامرأة.. ". قالت إنتوس:
-" ليس هذا .. ربما كنتِ ستوقفينه لوكنتِ مكاني.. لهذا ..".
-" وهل أنتِ سعيدة بهذه الطاعة؟!". أجهشت إنتوس بالبكاء من تلك الكلمات. قامت ريفيريا تمسح دموع إنتوس كأم حنون وقالت مواسية:
-" ما قمتي به لم يكن خاطئاً.. تلك كانت إرادة القائد. فلو كنت مكانك لفعلت ذلك دون تردد.. ولحققت رغباته.. ندمي الوحيد أني لم أمت معه، هذا كل شيء". وضحكت ريفيريا واستمرت تقول:
-" أنا لا أعرف سبب ما فعله حقاً.. لماذا طلب مني أحضر له شيئاً عجيباً وفي نفس الوقت يفعل فعلته. ولكني احترقت ياعزيزتي.. تلك نار لعينة.. أي نار تلك، ما زلت أتذكر الألم إلى الأن". قال سيريوس وهو يحك جبينه:
-" إنها مروعة.. جسدك يذوب أمام عينيك.. هذا البرفسور سيحرق العالم يوماً.. لا شك بذلك.. ممم. ما هذا؟". دوى صوت عشرات الأجراس من القلعة. قالت إنتوس بريبة :
-" هل هذا احتفال ما؟.. لم أكن أعلم أن لدينا أجراس". رد سيريوس بقلق:
-" هذا ليس صوت أجراس عادية.. قد اخبرني إلفآم عن ذلك ولكني نسيت.. لا أتذكر". شهقت ريفيريا وقالت:
-" إني أتذكر.. قال.. قال.. ". صرخ سيريوس نافذ الصبر:
-" ماذا قال هذا المخلوق العجيب؟!!". رفعت عينيها إلى القلعة وقالت:
-" لقد قال أن العرش سيطلق ترحيباً عند عودة السيد الكبير!". وأخذوا يضحكون حتى دمعت أعينهم وكأن تلك الكلمات كانت نكته مضحكة وفي لحظة خنقوا ضحكاتهم وحدقوا إلى بعضهم ببلاهة. وفي لحظة ركضت إنتوس إلى القلعة كالسهم وتبعها البقية.