سبحت الطيور كأسماك في زرقة السماء.
ركض الاطفال لاهثين خلف كرة تتدحرج على رمال شاطئ البحر. أخذ بعض الاطفال يصنعون المكائد إذ يحفرون الحفر ويقومون بتغطيتها بأوراق الجرائد ويخفوها بالرمال، ويفرون ضاحكين إذا تساقط الاشخاص في فخاخهم.
جلست العائلات والنساء مبعثرين على الرمال. أطفال تلعب. نساء وفتيات تتحدث وتثرثر. رجال وفتيان يلعبون بالشطرنج ويتحدون بعضهم في أن يفوز أحدهم على الآخر. آخرين يلعبون الكرة. فتيات تتسابق إلى عربة المثلجات.
كان شاطئ البحر جميلاً ويجلب السكينة والسلام إلى الروح.
وفي هذا البحر الأزرق المتلألئ تحت اشعة الشمس الذهبية وقف سالم محدقاً بجمود إلى أمواج البحر وكأنه شجرة زرعت في المكان، وقد مر على وقوفه ساعتين دون أن يتحرك من مكانه أو حتى يقوم بحركة طفيفة.
نظر إليه بعض الناس بقلق، وبعضهم بنظرات مستعلمة، وبعضهم تهامسوا وضحكوا من تصرفه.
ولكن سالم لم يهتم بتلك النظرات وظل يحدق إلى البحر بعينين جامدتين.
لم يكن سالم مميزاً بشيء من حيث مظهر أو وسامته أو حتى سمة الغنى التي تنقش على وجوه الأثرياء. كان مظهرة يعكس حياته البائسة والفقيرة.. كان مثل أي رجل تراه يمشي في الشوارع دون أن تلحظه.
ومع ذلك كان وجه الرجل جامداً وكأنه ضجر وتعب من هذه الحياة، وبدت عينيه السوداء خالية من الحياة وكأنها تنتمي إلى الموتى..
وحفرت حول تلك العيون تجاعيد عميقة تليق برجل عاش دهوراً طويلة.. وشعره الاسود يغزوه الشيب بكثرة.
كان يوحي إلى الناظرين بأنه في الخمسين من عمره، مع أنه في الحقيقة كان في الثلاثين من العمر. كان سالم يعيش وحيداً بعد أن قُتلت عائلة أمام ناظريه.. وقتل ذلك المشهد كل شيئاً جميلاً في حياته، وارتسم الجمود واللامبالاة في وجهه وروحه.
وقد كان يعمل طباخ في أحد المطاعم الحقيرة والتي كانت قريبة من منزله. ولكم تمنى أن يعمل في مجال تخصصه إذ تخرج من الجامعة وحصل على شهادة تجارة.
ولكن في هذا البلد، التمني والتفكير في مستقبل أفضل يقود صاحبه إلى الجنون أو ربما إلى القبر.
ولكن في هذه الأيام أدرك سالم أن الحياة لن تكف عن السخرية منه والبصق في وجهه.
ابتسم سالم وكأنه يبادل الحياة سخريتها، ظل يحدق إلى البحر طويلاً وكأنه لا يستطيع إبعاد عينيه عن ذلك المكان. ربما كانت هلوسة، أو ربما كان حلماً أو وهماً، أو ربما كان محض جنون خالص. لم يكن يعرف. والغريب في الأمر أن أحد لم ينتبه أو حتى يلتفت لذلك الشيء الذي يغزوا الأبصار ويشدها إليه.. لم يفهم سالم شيئاً.
كان البحر بأكمله يحترق أمام ناظريه.. البحر الأزرق الهائل استحالت مياهه إلى نيران زرقاء متراقصة.. وفي السماء ما إن تحلق الطيور فوق البحر حتى تحترق بتلك النيران وتتلاشى في الهواء.. ربما كان من حسن الحظ أنه لم يكن هناك أحد في داخل البحر..
كان شيئاً لا يستوعبه عقل إنسان. ومع ذلك لم يكن هذا المشهد بشيء جديد على سالم إذ كان يرى هذا الشيء مندو عشرة أيام متتالية، وحتى أنه يحلم به عندما ينام.
وعندما شاهد سالم هذا الشيء العجيب أدرك تماماً أنه قد بدأ يفقد عقله وأن لديه بضعة أيام قبل أن يصاب بالجنون.
ومع ذلك كان منظر تلك النيران يشده ويجذبه.. بل كان يشعر بنوع غريب من الحنين. ولكن هذا اليوم بدا مختلفاً عن الأيام السابقة إذ ارتفعت ألسنة النيران حتى كادت تلعق السماء.. ومن تلك الزرقة المتراقصة يشعر في أن أحد يراقبه.
وفي لحظة قصيرة شاهد شيئاً يتحرك.. وأخذ يفرك عينيه.. ومع ذلك لم يتغير المشهد بل أصبح يشاهد بوضوح شيئاً هائلاً يقترب إليه وأخذ ينظر بحدة إلى ذلك الشيء.
-" المعذرة يا سيد سالم". التفت سالم وقد كره أن يقاطعه أحد الآن ووجد أنها كانت امرأة في نهاية العشرينيات من عمرها، ذو عينين زرقاء تتقد ذكاء، وكان شعرها الاشقر يتراقص على كتفيها، وكانت تمسك بإحدى يديها ميكرفون. وبجانبها رجل وسيم حسن الهندام يحمل كاميرا عليها شعار المحطة الخاصة بهم وبدا الرجل بنفس سنها.
وشعر سالم بالضيق من هذا وقال بصبر نافذ:
-" لقد مرت عشر سنوات.. ألا يوجد غيري في هذه المدينة الفاضلة؟". ازاحت المرأة خصلات شعرها عن عينيها وهي تقول:
-" ما رأيك بالمال؟.. كم تريد لقاء هذا؟..".
-" تغريني بالمال.. ليس كل البشر عبداً للمال يا أنسة".
-" لست أنسة..".
-" سيدة ؟..".
-" لست سيدة ".
-" هل امرأة مناسب؟".
-" لا تدعوني بهذا إذا سمحت..".
-" ويقولون عني مجنون.. إذن ما الذي تريده أيها الرجل المحترم؟".
-" ارجو أن تتعامل معي باحترام أيها السيد!". تنهد سالم وأخذ يحك جبينه بأصبعين وهو يقول:
-" لقد قرأت كلمات في مكان ما وهي تقول: هل أنا مجنون أم الآخرون. اعتقد أني أفهم تماماً ما كان يشعر به ذلك الشخص". ابتسم حامل الكاميرا وهو يقول:
-" أعتقد أن صاحب تلك الكلمات هو أينشتاين". تجاهل سالم تلك الكلمات وأخذ يمشي بعيداً عنهم وهو ينظر إلى البحر المحترق. طلبت المرأة من صاحب الكاميرا أن يبدأ التصوير ولحقوا بسالم. قالت المرأة وهي تحاول اللحاق بخطوات سالم الواسعة:
-" سيد سالم.. هل صحيح أنه كان لديك أخت صغرى؟". اجاب سالم دون أن يتوقف:
-" كل البلاد تعرف هذا الشيء.. ما الذي تريديه؟..".
-" كيف ماتت؟". ذلك السؤال أوقف سالم في مكانه وحدجها سالم بنظرة مهلكة. تراجعت المرأة إلى الخلف خائفة وهي تجزم أن عيون الرجل أمامها توهجت للحظة بلون الذهب. قال سالم ببرودة تكاد تجمد اذنيها:
-" أنتم حقاً تشعروني بالغثيان.. أنتِ تعرفين، وكل هذا البلد يعرف كيف ماتت.. ومع ذلك تسألوني دائماً هذا السؤال. هل تعتقدون أني سوف أبكي وأنتحب وأقوم بتمزيق شعري كالنساء.. اليس كذلك؟..كل هذا من أجل أن تصيروا متميزين بهذه المهنة.. البشر يجعلوني أشعر بالإشمئزاز.. نعم، نعم. أنا بشر.. أعرف ما تريدين قوله. ليكن في علمك أني أشعر بالقرف من نفسي".
ظلت المرأة صامتة وهي تضع الميكرفون أمامه. ومع ذلك حدقت إليه باشمئزاز.
-" أحب هذه النظرة الجميلة.. ولكن أنا من يجب عليه أن يشعر بالاشمئزاز منك.. هل الكاميرا تعمل ايتها..؟".
-" سلوى.. اسمي سلوى.. والكاميرا تعمل". تنهد سالم وقال:
-" حسناً. لننتهي من هذا.. أنا أعرف أنكِ لن تتركيني وشأني حتى تنتهي من هذا.. فأنتنَّ لديكن ألسنه لا تتوقف مطلقاً.. هل صحيح أنكن تستطعن الحديث لشهر كامل دون توقف؟". وبابتسامة حامضة قالت:
-" لنعد إلى الموضوع إذا سمحت". تنهد وقال:
-" لقد كانت مريضة في القلب.. وبما أنه لم يكن لدينا المال، ولم يكن لدينا أقرباء خنازير.. اوه! ، اقصد مهمين". قهقه سالم وقد شعر بلذة خالصة وهو يشتمهم أمام الكاميرا. واستمر يقول:
-" لذلك لم نستطع الحصول على قلب صناعي.. لهذا ماتت المسكينة وارتاحت من هذه الدنيا الحقيرة". قالت سلوى دون أي تعاطف وهي ترفع حاجبها بارتياب:
-" ولكن.. لماذا لم تعرض مشكلتك على المسؤولين؟..". قال سالم بكآبة :
-" لا بد أنكِ تمزحين.. هل تعلمين صعوبة الوصول إلى المسؤولين.. وكأنهم يعيشون فوق السحاب.. ولكن بعد عدة أشهر تمكنا من مقابلة حاكمنا المبجل.. لقد توسلنا إليه.. أمي مثل كل الأمهات الفقيرات الذين لا يعرفن ما يفعلنه في هذه الظروف سوى البكاء من قسوة الحياة.. البكاء على أبنتها.. ولكن أبي كان رجلاً صلباً ذو كبرياء شديد. وعندما رأيته يتوسل حتى كاد يقبل قدم الحاكم ارتجفت، فقد هزني ذلك المشهد". ورفع عينيه إلى السماء ليحدق إلى الطيور التي كانت تحترق ووتتبخر في لحظة خاطفة. وقال:
-" كيف تذل الحياة رجالاً.. كنت شاب صغيراً في ذلك الزمان. ولكن ما قاله الحاكم جعلني ارغب في قتله ذلك الوقت.. وقد كنت على وشك فعلها حقاً، لولا أن أطبقت علي أصابع أبي.. كادت يدي تتحطم من قوة يديه. وقد بدا أبي حينها كمن يقبض على الجمر وهو يحاول أن يظل هادئاً.. حاكم البلاد..".
قالت سلوى مقاطعة وكأنها ملكة تتحدث مع أحد العبيد:
-" أنا لن اسمح لك في أن تتطاول وتزيف الحقائق المعروفة. ولكن من حقك القانوني أن تتحدث عما تريد.. لذلك سوف أسمح لك أن تتحدث بما تريده.. أخبرني ماذا قال لكم حاكمنا العظيم؟".
-" العظيم هو رب العالمين.. عن ماذا تتحدثين يامرأة؟.. القوانين لا تعمل سوى على البسطاء.. الأشخاص في القمة ليسوا سوى بعوض يمتص كل شيء. إنهم يتاجرون بالبشر". قالت وقد بدا عليها الذعر :
-" يا سيد هذا الكلام..".
-" لست خائفاً من أحد. ولن يمنعني أحد عما أريد قوله، ولا تعتقدي أنكِ تستطيعي فعل ذلك يامرأة.. لقد ضجرت ومللت من هذا الحياة التي لا يحكمها سوى المال. إن كنت غنياً لتحول الناس إلى سجاد تحت قدمي ولتبسموا جميعا من رؤيتي.
وإن كنت فقيراً لسحقوني تحت أقدامهم ونظروا إلي وكأني شيئاً مقزز.. إننا نأكل بعضنا البعض وكأننا حيوانات مفترسة. ونتقاتل على المال وكأننا نتقاتل على عبوة أكسجين في غرفة سامة.. ولا نرى أننا أصبحنا عبيد للمال.
القوي يسحق الضعيف دون رحمة .. هذه هي حقيقتنا والتي نخفيها بملابسنا الجميلة وأحديثنا المثقفة.. كلها أقنعة. البشرية قد انتهت وأصبحنا في عالم الغابات المتوحشة. حياة حقيرة.. ".