-" يبدو أنك فيلسوف زمانك أيها السيد.. مع أني أرى أنك رجل مختل ومتوحش مثل عائلتك المجرمة".
-" عائلة مجرمة.. ". تمتم بتلك الكلمات متألماً ورفع عينيه إلى السماء وأخذ يتذكر موت عائلته. لا أحد يحتمل موت عائلته أمام ناظريه ولا أحد يتمنى رؤية هذا الشيء. ولكن من سوء حظه ذلك اليوم أنه شهد عمليه سرقة.
بدا المشهد وكأنه كوميديا ساخرة قدمتها الحياة. حدث الأمر سريعاً وكأنه حلم إذ اصطدم به شخصين كانوا قد خرجوا مسرعين من أحد المحلات وفي لحظة إنطلقت أعيرة نارية بشكل كثيف إذ كان ثلاثة من رجال الشرطة يطلقون النار على الرجلين الذين أصبحوا يسبحون في دمائمهم.
النظرة التي كانوا ينظرون بها إلى سالم لم تكن نظرة ألم أو خوف بل كانت نظرة حزن وخجل.. مد اللصوص أيديهم وأمسكوا بقدم سالم متضرعين وقال أحد الرجلين وهو يلفظ آخر أنفاسه:
-" اعتني بها جيداً حتى تموت". وأتضح أن الرجل الآخر كان امرأة وقالت آخر كلمة في حياتها:
-" لا تكرهني.. سالم...". للحظة لم يفهم سالم ما يحدث.. إذ توقف دماغه عن العمل وظل يحدق بوالديه الميتين بعينين خاويتين.. لم يعرف كم مر من الوقت فقد بدا الزمن وكأنه قد توقف. وضع أحد رجال الشرطة يده على كتف سالم وطلب منه الابتعاد من هنا. ولكن سالم لم يتذكر شيئاً بعد ذلك وقد وجد نفسه يحدق إلى البحر. حينها اعتقد أنه كان يحلم وعاد إلى البيت ليدرك أن ذلك كان حقيقة مريرة. وفي ذلك اليوم عرض المشهد على نشرات الأخبار والجرائد.
عصابة مسلحة تتكون من ثلاثة اشخاص تقتحم أحد شركات المجوهرات.. مخلفين ورائهم ثلاثة قتلى من رجال الشرطة.
وتحت العنوان صورة لرجل أجنبي ذو شعر أبيض كثيف وعينان ذهبية.. وتحت الصورة:
الرجل المتبقي من العصابة والذي قتل رجال الشرطة وفر هارباً بأموال العصابة. بحث سالم عن هذا الرجل ولم يجده مطلقاً.
-" سيد سالم ؟". تلك الكلمات سحبت سالم من ذكرياته والتفت إلى سلوى وقال:
-" صحيح.. لقد اقتحم أبي وأمي أحد الشركات.. وتم قتلهم كالكلاب لا أنكر ذلك.. ولكن الم يتساءل أحد عن سبب قيامهم بهذا الشيء؟.. لكل شيء سبب. كان من الأفضل أن يطلقوا النار عليهم في أماكن غير قاتلة". قالت سلوى بابتسامة كريهة:
-" هذه سخافات.. المجرم يبقى مجرم، فإن لم يفعلوا ذلك فقد يقتلهم المجرمون في تلك الحظة". وحدق إلى ألسنة النار المتراقصة وقال بصوت متعب دون أن يبعد عينيه عن المشهد العجيب:
-" لقد فعلوا ذلك لكي يحصلوا على المال وينقذوا ابنتهم.. بعد أن رفض المسؤولين مساعدتهم.. وكأنهم كانوا سيدفعون من جيوبهم.. ولكنها ماتت.. ماتت أختي بين يدي وأنا أركض بها من مشفى إلى آخر.. ولكنهم جميعاً رفضوا قبولها.. بل كانوا ينظرون إلينا وكأننا جيفة متعفنة". ورفع عينيه إلى السماء ليمنع دموعه من السقوط واستمر يقول:
-" المال.. هو ... هل تعرفين هذا الشعور؟.. إنه..".
قالت وقد رقت عينيها:
-" هذا هو الواقع الذي نعيشه". أنزل عينيه لتتساقط بعض الدموع على وجنتيه وقال بنبرات ساخطة:
-" لطالما كرهت هذا الواقع اللعين وكل ما فيه، هذه الحياة كلها مرض وغدر وخيانة وقتل وطحن وعصر وعجن.. هذه الحياة ليست سوى لعنة!". وتنهد وأكمل بهدوء:
-" الم ترغبي يوماً في أن تذهبي إلى دنيا الخيال؟.. أو ربما تطيري في السماء؟.. أو تحلقي على ظهر تنين ما؟. وتبحري فوق أنهار تطفو في السماء؟، وتراقبي الحيتان تسبح في الهواء؟..". وبجفاء قالت:
-" لا. أنا أختار الواقعية عن هذا الجنون. أعتقد أن عليك الاهتمام والتركيز على المكان الذي تعيش فيه ياسيد خيالي".
-" هل الأحلام صارت جنون؟.. ربما أنا مجنون.. فإذا كانت رغبتي في مغادرة هذا العالم جنون.. فليكن، نعم، أنا مجنون". وانفجر سالم يضحك حتى دمعت عينيه وأشار إلى البحر:
-" لقد جاء الجنون إلى هنا". ولكنه لم يكن يضحك من ألسنة النار الزرقاء بل ما خرج منها إذ خرج هيكل عظمي تشتعل محاجر عينية بنيران، وكان يحمل سيفاً. وأخذ الهيكل العظمي يدور حول سلوى ويلتفت إلى سالم وكأنه يقول ما هذا الكائن.
وقام الهيكل العظمي بوضع وجهه أمام سلوى وكأنه يرغب بتقبيلها. ابتسم سالم ابتسامة مجنونة من هذا المشهد، واعتقدت سلوى بأنه مستمتع بحديثة عن الجنون وبدأ يسخر منها. لهذا احتقنت عينيها غيظاً. كيف يمكن أن يسخر منها هذا الكائن المقزز، فلو لم تكن في حاجة إلى هذا اللقاء الصحفي لبصقت في وجهه.
-" نصيحتي لك ياسيد أن تحصل على بعض الأصدقاء". كان الرجل يحملق إليها بشرود، كمن ينظر إليك وفي نفس الوقت لا يراك. وبدأت سلوى تشعر بحكة في أنفها، ثم شعرت بقشعريرة إذ مس شيئاً ناعم عنقها وأذنيها، وفكرت في أنها الريح تجعل شعرها يتراقص حولها. وتملكها ضيق من نظرة الرجل البلهاء. وقالت بصوت حاد مرتفع سحب سالم من شروده:
-" أنا أحدثك يا.. ياسيد سالم !".
-" أه.. نعم.. أصدقاء.. إنه. هذا. لا يوجد.. ألا ترين شيئاً حولك؟.. ".
-" أرجو أن تتمالك نفسك ياسيد سالم.. ففقدان العائلة شيئاً لا يحتمله أحد.. لماذا تنظر إلى البحر الآن؟..". قام سالم يفرك عينيه وهو يقول:
-" المعذرة، لا يبدو أني بخير.. هذا حقاً كثير.. على كل حال ليس لي أصدقاء، فالصداقة شيء وهمي بالنسبة لي.. فالصداقة كشجرة تتساقط أوراقها بكثرة. أما في حالتي فقد كانت شجرتي يابسة، حتى أنها كانت بلا أغصان". قالت وهي تزيح خصلات شعرها عن وجهها:
-" الحياة رائعة وجميلة ياسيد، حتى مع ما تدَّعيه.. يجب أن تحب الحياة وتستمر فيها".
ضيق سالم عينيه وهو يقول:
-" أنا أدَّعي.. كيف يمكن أن تقولي ذلك وكأن ما حدث لعائلتي كان خيال شخص مريض.. يالكِ من رائعة.. أنتِ حقاً.. حسناً، هذا ليس بشيء جديد على كل حال.. انظري لي، هل هذا منظر رجل في الثلاثين بل وكأني في الخمسين.. يالها من حياة رائعة تتحدثين عنها... هل انتهيت أيها الرجل عما تريد؟". قالت ممتقعة:
-" ياسيد هذه الوقاحة، نحن على الهواء !". تجاهلها سالم وكأن المرأة ليست سوى طفلة وقحة، والتفت إلى المصور الذي بدا مندهشاً وقال محدثاً أياه:
-" يال عجبها، تتحدث مع الناس بوقاحة ولا تحتمل وقاحة الناس.. ولكن أنا لا يهمني أحد ولم أُسيء لأحد". ونظر إلى المرأة بطرف عينيه واستمر يقول:
-" أنتِ قلتي لا تدعوني بامرأة". ونظر إلى الهيكل العظمي الذي عاد يقف بجانبه كجندي قادم من تحت القبور. وفكر: أي جنون هو هذا.. لابد أني في المستوى العاشر من البدنجان. وأخذ يتذكر أحد الأفلام العربية القديمة إذ كان الجميع في الفلم يصرخون: كوسة!. كوسة!. كوسة!. كوسة. وأخذ يضحك من هذا الخاطر.
-" فلتذهب إلى الجحيم.. فأنا صحفية مرموقة ويجب عليك أن تخاطبني بقولك يا سيدتي أيها الإنسان التافه".
-" هذا لن يتحقق أبداً يامرأة، فأنا لن أدعوا أحد بسيدي أو سيدتي، فنحن لسنا في زمن العبيد. إني أمقت هذه الكلمة.. هل أقدم لكِ عصير يهدئ أعصابك".