ولكن سالم لم يتجاوب معها حتى وقفت أمامه بتحدي. عندها فقط أخبرها أن تتركه وشأنه، ولكن سلوى كانت خبيرة في مجالها وتعرف كيف تجعل فرائسها تتجاوب معها إذ قالت:
-" لقد اغتصبتهنَّ أليس كذلك؟.. كنَّ فتيات جميلات وأنت كلب أجرب وحيد.. وفي منزلك كل شيء ممكن اليس كذلك؟". قال سالم وهو يفرك عينيه:
-" استغفر االله العظيم.. الصبر يا رب". ومال إليها ليحدق مباشرة في عينيها الزرقاء التي بدت خائفة وقال:
-" اكثر من سبعين امرأة.. سبعين امرأة.. تخبريني أنني قمت باغتصاب سبعين امرأة؟.. هل تعتقدين أنني رجل خارق؟.. هل تفضليني هكذا؟..".
احتقنت عينيها وهي تقول:
-" أنتم الرجال مقرفون.. تحبون التباهي دائماً بأنكم فحول.. خرفان مريضة..!".
-" هل أنت مقرف؟".
-" أنا لا أتحدث عن خالد.. بل عنك أنت !".
-" لماذا أنا مقرف وهو لا هاه؟.. لابد لأنه وسيم".
-" دع خالد وشأنه ياسيد !".
-" بل دعوني وشأني أنا.. ". وأخذ ينظر إلى ساعته ليتأكد من الوقت. ثم عاد يلتفت إلى المرأة التي بدت منزعجة لسبب لا يعرفه. ربما لأنه تحدث مع خالد بهذا الشكل وقال:
-" دعيني أقدم لكِ نصيحة..". لوحت بيدها وكأنها تبعد ذبابة من على وجهها وقالت:
-" إعفني من نصائحك أيها الفحل !".
-" صحيح أنتِ لا تحتاجين لهذه النصيحة.. فأنتِ عانس على كل حال". وابتسم وهو يقول:
-" ما رأيك في أن تتزوجي أحد سكان ياجوج وماجوج..". والقى صفعة قوية في وجه الهيكل العظمي. ولكن قبل أن تصل الصفعة إلى وجهه قام الهيكل العظمي بفتح فمه وعض يد سالم في سرعة خاطفة. صرخ سالم متألماً وتدفقت الدماء من يده.
ولكن الصرخة التي أطلقتها سلوى بدت وكأنها ستوقظ الموتى في القبور. سقطت على ركبتيها وولولت:
-" لا !!!.. لا !! . أنا لا أحب هذه المزاح !!!.. أه. قلبي !! ". وبدأت تختنق وهي تضع يديها على صدرها.
سقطت الكاميرا من على كتف خالد وظل خالد يحدق إلى الهيكل العظمي بعينين متسعتين كصحنين وانفجر يضحك إذ شاهد ألسنة النيران الزرقاء الهائلة.
التفتت سلوى إلى خالد متسائلة، ولكن خالد اكتفى بمد يده إلى البحر. حركت سلوى رأسها إلى المكان الذي يشير إليه وشهقت ثم أخذت تضحك في مزيج من الضحك والبكاء الهستيري.
-" دعني !". صرخ سالم وهو يحاول تحرير نفسه وكانت دمائه تقطر في داخل فك الهيكل العظمي، ولكن دون جدوى، لم يتحرك الهيكل العظمي وكأنه جدار عملاق..
وفجاءة..
التفت إلى الأرض إذ تدحرجت كرة غريبة بجانب قدميه واتسعت عينيه في رعب إذ اتضح أنه رأس خالد. ونظر إلى خالد ليجد أنه كان يتراقص والدماء تتدفق من عنقه كنافورة إذ ظهر هيكل عظمي آخر وقط رأسه.
وانتحبت سلوى إذ أمسكها الهيكل العظمي من شعرها وكأنه يطلب من رفيقه الذي يعض سالم أن يقطع رأسها.
صرخ سالم وحاول أن يبعد الهيكل العظمي عنها. ولكنه كان بطيئ كالسلحفاة.
انفجر الدماء من حلقها كنافورة في وجه سالم. كانت سلوى تتراقص تحت قبضة الهيكل العظمي، وكان سالم يصرخ وهو يحجب الدماء عن وجهه بيد واحدة. ومع ذلك كان تدفق الدماء غزيراً وقد غرق وجهه وشرب كميات هائلة من الدماء الساخنة مع صراخة.
واعترته نوبة ضحك جنونية وتهالك على ركبتيه خائر القوى وأخذ يتقيئ الدماء، ولو لم يكن الهيكل العظمي يطبق على يده في فمه لسقط سالم على وجهه.
فتح الهيكل العظمي يديه لتسقط سلوى على الرمال كدمية قطعت أوتارُها.
ودوى صوت قوي بدا كصوت غرغرة عجيبة. واطلق الهيكل العظمي يد سالم، وبدأ الهيكل العظمي يتحدث بصوت غرغرة بشع وكأنه يرد على صوت الغرغرة القادم من البحر.
حينها أخذوا الجثتين وركضوا إلى البحر المحترق وكان خالد وسلوى يتأرجحون خلف الهياكل العظمية كخرق بالية وتلاشوا في زرقة النار.
بدا كل شيء مرعباً كالكوابيس المتجسدة. ولكن الأشد رعباً أن كل من في الشاطئ لم يعر المشهد أي اهتمام ولم يلتفت إليهم أحد.
وحبس سالم أنفاسه إذ استحال كل شيء إلى زرقة متلألئة واختفت كل أنواع الحياة ولم يبقى في هذا العالم المزرق سوى سالم.
ومن نيران المحترقة فوق البحر ظهرت امرأة. ووقفت أمام سالم.
كانت امرأة هائلة يكاد طول قامتها يتجاوز خمسة أمتار.
شيطان أو مارد لم يكن يعلم حقيقتها ولكنه أدرك حتى نخاعه في أن من يقف أمامه مخلوق خرافي لم يسمع به أحد مطلقاً.
كانت المرأة أو المخلوق الخرافي ذو عينين متوهجة بلون ألسنة النار خلفها وشفتين زرقاء لامعة، وحتى شعرها أزرق.
ولكن شعرها الأزرق كان هائلاً وكان يتموج في كل مكان وما لا يقبل الشك هو أن شعرها صُنع من النيران خلفها أو ربما كان العكس صحيحاً.
ومع ذلك لم يفهم نوع الملابس التي ترتديها إذ كانت تلمع بكل الألوان وكانت تتغير باستمرار وكأن ملابسها كانت على قيد الحياة. ركعت المرأة على ركبة واحدة وكأنها في حضور الملك.
ومع ذلك كانت هائلة الحجم. كان سالم يرفع رأسه ليحدق إلى وجهها وكانت المرأة تنزل رأسها لتحدق به..
كانت جميلة جمالاً خارقاً حتى جمال القمر والنجوم المتلألئة يتضاءل أمامها. وكان سالم يحدق إلى وجهها الجميل في مزيج من الذهول والخوف وشعر أن هذا الجمال يمتص روحه عن آخرها. حينها ابتسمت المرأة بعذوبة تُشفي الأمراض وتوهج شعرها بزرقة عجيبة وقالت بصوت يلائم مظهرها الخلاب:
-" لقد حان الوقت.. تذكر من أنت".
-".. من أنت؟ِ.. شيطان أو مارد؟.. ".
-" أنا ما يريده سيدي أن أكون".
-" هل هو ابليس الرجيم؟". لاح على الجمال الارتباك وقالت:
-" لا أعرف هذا الشخص.. هل هو أحد الخدم؟". تفصد جبين سالم الدموي بالعرق إذ شعر برعب غريب من هذا الإجابة.
-" لا تعرفين ابليس.. أحد الخدم؟.. ومن هذا الذي عضني؟.. هل هو أحد كفار قريش؟".
فكر سالم بالهرب ولكن لم يكن يعتقد أنه يستطيع الفرار من هذا الشيء، وإلى أين سيذهب. وبدل كل جهده ليسطر على خوفه.
-" لقد حان الوقت..".
-" حان الوقت.. هل ستقتلينني؟.. أو سأكون أضحية لطقوس عجيبة؟.. هل سيكون ذلك مؤلماً؟.. هل شعر الشخصين قبلي بالألم؟".
-" الألم رفيق الكائنات الحية". تساقطت دموع سالم من تلك الكلمات وقد فهم من كلماتها أنه سيعاني بشكل مروع.
ولكنه أرتجف حينما قامت تمسح دموعه بأصبعها الضخمة بكل حنان، والذي حير سالم أكثر هو دموعها المتساقطة إذ بدت حزينة وهي تحدق إليه وكانت دموعها المتلألئة بلون المحيط تنزلق من عينيها وتتدحرج على وجنتيها العاجيتين وتسقط على الأرض وتتبخر بألوان قوس قزح ما إن تلامس الارض.
-" تذكر من أنت.. أنت خلقت لتكون ملك عظيماً..". أمسك سالم اصبعها الكبير متجاهلاً كلماتها وتفرس فيه وأخذ يعبث بأصابعها جميعاً وكأنه طفل يشاهد لعبة غريبة. ثم رفع عينيه إليها وقال بصوت مرتجف:
-" أنتِ لست حقيقية.. هذا حلم أو وهم أو ربما هلوسة اليس كذلك؟..".
-" الحلم والأوهام وجهان لعملة واحدة.. عملة عنوانها الحياة ".
-" وما الذي تريده مني هذه الحياة فقد تعبت منها؟".
-" الحياة لا ترغب ولكن من عليها يرغب.. إذاً من تكون؟".
-" سالم.. أنا سالم.. من البشر". ابتسمت المرأة لتتلألئ أسنانها تحت ضوء شعرها وقالت:
-" لا.. لست كذلك.. من أنت؟". رد سالم حانقاً من هذه الابتسامة فلا ينقصه سوى الأوهام لتسخر منه:
-" سالم.. اسمي سالم ملحي.. أبي اسمه ملحي وقد اسماه جدي بهذا لأنه يحب الملح بشكل غريب.. ومن حينها امتلحت حياتنا حتى البيت نفسه أكله الملح.. وأنتِ أكملتِ على الباقي هذا اليوم، ما الذي تريدوه مني ؟!".
حنت المرأة رأسها بخضوع وهي تضع يدها اليمنى على صدرها الأيسر وقالت:
-" أمنياتك هي سبب حياتي.. ولكن اغفر لخادمتك المخلصة تجاوزها.. لماذا تسأل مثل هذا السؤال؟.. فأنت لن تكون موجوداً في هذا العالم بعد الآن". ووجد سالم نفسه هادئاً بشكل غريب. ربما ضاق ذرعاً من هذه الحياة البائسة أو ربما شعر بالسلام من هذا التهديد الذي سينهي حياته أو ربما كانت شجاعة او ربما بعض من الكبرياء، أو ربما فقد عقله. في الحقيقة لم يكن يعلم شيئاً ولكنه القى سؤاله بثقة وثبات غريبين:
-" إذا لم تكوني نوع من الهلوسة فلماذا ترغبين في قتلي؟".
-" لن اقتل سيدي أبداً.. سيدي هو سبب حياتي".
-" إذاً أنا سيدك كما تقولين؟". هزت رأسها موافقة وهي تقول:
-" هذا لا يقبل الشك".
-" لا. أنت مخطئة أنا لم اشاهدك أبداً أي جنون هو هذا؟".
-" هذا لا يقبل الشك".
-" هناك شيئاً خاطئ لديك.. ربما تبحثين عن مارد وليس عن رجل معفن مثلي ؟". قربت رأسها الجميل إليه وحدقت بعينيها الكبيرتان إلى عيني سالم الذي شعر بالانتعاش من رائحتها التي بدت كحديقة من الزهور وقالت وكأنها تتحدث عن حقيقة مطلقة:
-" أنت رجل عظيم.. أنت تجسيد عن نفسك في عالم آخر.. ربما كان خطئاً أو ربما كانت أمنية تمنيتها في قرارة نفسك ذلك اليوم.. ولكنك انزلقت من عالمك لتولد في هذا العالم الممل والمضجر.. والمؤلم أنه تم إخضاع سيدي بقوانين البشر.. ".