في أعماق المريخ، حيث لا يوجد صوت سوى همسات الرياح الغبارية، يقف دكتور مانهاتن وحيدًا، ينظر إلى الأرض من بعيد. كرة زرقاء صغيرة تتوهج في الظلام، مليئة بالحياة، مليئة بالأحلام، ومليئة بالخسارات التي لا تُحصى.

يرفع يده، يمرر أصابعه عبر الهواء، فتظهر أمامه صور متتابعة لماضٍ ومستقبلٍ يتداخلان في نسيج الزمن. يرى طفلة صغيرة تُمسك بيد والدها، تضحك ببراءة. يرى نفس الطفلة تكبر، تبكي وحيدة في غرفة معتمة. يرى نفس الطفلة، لكنها الآن امرأة مسنة، تجلس على كرسي متحرك، تنظر إلى الأفق بعينين منهكتين، تنتظر شخصًا لن يعود أبدًا.

تتغير الصورة… يرى مدينة تنبض بالحياة، أضواؤها تتلألأ في الليل، أصوات الضحكات تتلاشى بين ضجيج السيارات، قصص حب تبدأ وأخرى تنتهي. يرى نفس المدينة بعد قرن، أطلالًا صامتة مغطاة بالغبار، حيث لا يوجد سوى الصمت وأنقاض الزمن.

يهمس مانهاتن لنفسه:

"كم هو غريب... أن يكون الزمن حلقة لا تنكسر، ولكن الألم دائمًا متجدد."

في زاوية أخرى من رؤيته اللامحدودة، تظهر أمامه صورة أخرى... جيسكا.

لم يعرف أبدًا إن كانت احتمالًا لم يحدث أم ماضيًا تأخر في فهمه. يراها تقف عند شرفة منزلها، تُمسك برسالة لم تُرسل أبدًا. عيناها تبحثان في السماء عن شيء لا تعرف ما هو، لكن قلبها يشعر بوجوده. في لحظةٍ أخرى، يراها تجلس عند سريرها، تمسك بصورة باهتة لرجل أزرق، تبتسم رغم دموعها.

يرى نفسه واقفًا بجانبها ذات يوم، دون أن تدرك وجوده. يراها تُطفئ شمعة عيد ميلادها العشرين، ثم الثلاثين، ثم الأربعين. في كل مرة، كانت تنظر إلى النجوم للحظة قصيرة، وكأنها تتوقع أن يظهر أمامها. لكنه لم يفعل. لم يستطع. الزمن بالنسبة له كان مثل زجاج شفاف، يرى من خلاله كل شيء لكنه لا يستطيع لمسه.

في لحظة أخرى، يرى المدينة التي كانت تسير فيها ذات يوم. يرى الشارع الذي وقفت فيه عندما كانت طفلة، مشيرة نحوه، سائلة أمها عن الرجل الأزرق. يرى اللحظة التي وقفت فيها سيارة على بعد لحظات من دهسها.

هنا، يتوقف الزمن.

هو يعرف النهاية. يعرف كيف تتحرك عجلات السيارة، كيف يصرخ المارة، كيف تسقط جيسكا على الأرض، كيف تهرع أمها إليها، كيف يتجمّد المشهد للحظة قبل أن ينتهي كل شيء.

إنه يرى هذه اللحظة منذ الأزل. لكنه في كل مرة، يسأل نفسه نفس السؤال:

"هل هذا هو المصير؟ أم مجرد احتمال؟"

بإمكانه أن يتدخل. يستطيع أن يرفع يده، أن يوقف الوقت، أن يحرك جسدها خارج طريق الخطر. لكنه يعلم أنه إن فعل ذلك، فسيتغير كل شيء. هل هذا التغيير حقيقي، أم مجرد طريق آخر في متاهة من الاحتمالات؟

لو أنقذها، فهل يعني ذلك أنها ستعيش؟ أم أنها ستموت لاحقًا بطريقة أخرى؟

هو لا يرى الزمن كالبشر. البشر يعتقدون أنهم أحرار لأنهم لا يعرفون ما سيحدث. أما هو، فهو يرى الماضي والمستقبل كلوحة مرسومة بالكامل، كل تفصيلة فيها قد حدثت بالفعل.

السيارة تقترب. الصرخة في الهواء. قطرات المطر على الأسفلت.

ينظر إلى جيسكا، الصغيرة التي كانت، والمرأة التي ستكون، والذكرى التي ستبقى.

لا يتدخل.

اللحظة تحدث، ثم لا تحدث، ثم تحدث مرة أخرى.

هو يراها في كل الاحتمالات، لكنه يبقى هناك، في مكان خارج الزمن، حيث لا يوجد ماضٍ أو مستقبل، بل فقط إدراكٌ بارد لحتمية كل شيء.

هل شعر بالحزن؟

ربما. لكنه يعرف أن الحزن لا يغير شيئًا. يعرف أن الزمن ليس خطًا، بل بحرٌ يغمر كل شيء. البشر يعومون في سطحه، يتخبطون بين أمواجه، يبحثون عن معنى. أما هو، فقد غرق منذ زمن بعيد.

يُخفض يده، يُغمض عينيه، ويسمح للعالم بالمضي قدمًا، كما كان دائمًا.

"ربما..."

يهمس لنفسه، وصوته بالكاد مسموع وسط ضجيج الحياة التي تستمر بدونه.

"ربما الحزن هو الثمن الذي يدفعه البشر، مقابل امتلاكهم الأمل."

2025/03/22 · 4 مشاهدة · 557 كلمة
نادي الروايات - 2025