“صحيح ما قاله سمو ولي العهد، فهذه مسألةٌ عائلية.”
توجهت أنظار الناس نحو هاوارد. كان غريبًا موافقته المفاجئة على كلام فريدريك.
تابع حديثه بابتسامةٍ هادئة تعلو شفتيه.
“ولهذا السبب، فإنني كجد داميان، لا أسعى إلا لمنع إعدام حفيدي.”
كان يلمّح بشكلٍ غير مباشر إلى أن له الحق في التدخل في هذه المسألة العائلية بصفته أحد أفراد الأسرة.
تجهم جبين فريدريك قليلًا. و نظر إلى هاورد بعينين يملؤهما الاستغراب، وكأنه لا يستطيع فهمه.
‘سمعت أنه قد قطع علاقته مع داميان منذ زمن، فلماذا يدافع عنه فجأة؟’
مهما كان سبب تغيّر موقفه، فإن تدخل عائلة الكونت رونْد كان حقًا أمرًا محرجًا.
كان يظن أنه سيتمكن من التخلص من داميان بسهولة لأنه لا يوجد أحدٌ يدعمه سوى أراسيلا، ولم يكن يتوقع أن يظهر هذا العدد الكبير من المزعجين.
“جلالة الإمبراطور، عائلة الكونت رونْد تربطنا بها قرابةٌ بعيدة. واللورد فاندرمير ينتمي إلى ذلك النَسَب أيضًا. صحيح أننا لم نتبادل الزيارات من قبل، لكن كيف لنا أن نغض الطرف عن مأساةٍ حلت بأحد أقاربنا؟”
سارعت الدوقة كيستون بمساندة كلام هاوارد، مؤكدةً على حقيقة أن الدم المشترك يجري في عروقهم، رغم أن صلةَ القرابة كانت بالكاد تُعد قرابة.
في تلك الأثناء، كان الدوق فاندرمير يراقب الموقف وهو يمسك مؤخرة عنقه من شدة الذهول.
لم يُبدِ الكونت روند أي اهتمام بداميان طوال حياته، والآن فجأة يتدخل؟
هذا بحد ذاته أمرٌ لا يُصدق، فكيف إذا وصل بهم الأمر إلى استنتاج أن داميان مرتبط بدم الإمبراطورية؟
كادت عبارة “كلامٍ فارغ” أن تفلت من فمه، لكنه لم يستطع التفوه بها لأن من تقف أمامه هي الدوقة كيستون، أميرة الإمبراطورية.
وبينما كان الصمت الثقيل يخيّم على القاعة، وكل من فيها يراقب رد فعل الآخرين بحذر، نطق الإمبراطور أخيرًا بعدما ظل يراقب بصمت طوال الوقت.
“كلام الدوقة صحيح.”
قال ذلك وهو يمرر يده على لحيته البيضاء.
“مما سمعت، لا يمكننا الجزم بشكل قاطع بأن داميان فاندرمير هو الجاني.”
في لحظة، تغيرت ملامح الحاضرين بين الفرح والحزن.
الدوق وفريدريك ازداد وجهيهما عبوسًا، بينما الثلاثة في الجهة الأخرى أشرقوا بالارتياح.
أما داميان، الذي كان واقفًا في مواجهةٍ مباشرة مع الإمبراطور، فقد بدا على وجهه تعبير معقدْ ومليء بالتناقضات.
ثبّت الإمبراطور نظره عليه وأضاف،
“لكن، حتى هذه اللحظة، يظل داميان فاندرمير هو المشتبه به الأكبر.”
في هذه المرة، ارتخت شفاه الدوق وفريدريك، بينما خيم الحزن على وجوه الثلاثة الآخرين.
ففي النهاية، ما قاله الإمبراطور يعني أنه لا يرى داميان بريئًا.
كان الجميع في حالة توترٍ وترقب شديدين لمعرفة ما سيكون عليه الحكم النهائي من الإمبراطور الذي منح دعمًا لكلا الطرفين في آنٍ واحد.
“لذلك، وكما قال الكونت، لا يمكن الحكم عليه بالإعدام، لكن في الوقت نفسه، لا يصح ألا يتلقى أي عقوبةٍ على الإطلاق.”
“جلالتك، إذًا……”
مرت عيناه الحمراوان المهيبتان على الجميع بنظرةٍ حادة، قبل أن يطرق برفق على مسند كرسيه، معلنًا حكمه.
“أرسِلوا داميان فاندرمير إلى الحدود الشمالية. إن عاد منها منتصرًا، فسنعد ذلك تكفيرًا عن ذنبه. أما إن لم يعد، فليُعتبر ذلك عقوبته.”
“……!”
أصبحت تعابير الناس مترددة. فالحدود الشمالية كانت منذ القدم منطقةٌ مليئة بالمشاكل بسبب تواتر هجمات الوحوش والغزوات الخارجية.
ومؤخرًا، بدأ الأقوام الأجنبية هناك بتنظيم صفوفهم عمدًا وشنّ هجمات منظمة، حتى أن الوضع بدأ يتحول إلى حربٍ شاملة.
وقد تم بالفعل هزيمة الجيش الذي أرسلته العائلة الإمبراطورية، ولهذا أصبحت مسألة تعيين المسؤول عن تلك المنطقة من أكثر المواضيع إثارةً للجدل في الاجتماعات الإمبراطورية الأخيرة.
العودة حيًا من هناك لن تكون سهلة. ولهذا السبب عبّر الإمبراطور عن احتمال موته بعبارة “إن لم يعد”.
“إن كان لدى أحدٍ اعتراض، فليتكلم الآن. بعد هذا، لن أقبل بكلام أحدٍ أياً من كان.”
أمام إعلان الإمبراطور الصارم، لم يجرؤ أحدٌ على فتح فمه. فمن يتجرأ على معارضة حاكم الإمبراطورية بعد أن اتخذ قراره؟
إذا نجح داميان هناك، فسينجو بحياته، وإن فشل، فمصيره الموت.
وبما أن الاحتمالين لا يزالان قائمين، لم يكن أمام كل طرفٍ سوى التعلق بالأمل في النتيجة التي يرجوها.
ابتسم الإمبراطور برضا وهو يرى الجميع قد سكنوا، وكأنهم قبلوا بحكمه، ثم وجه نظره نحو داميان وأصدر أوامره.
“على داميان فاندمير أن يُنهي جميع استعداداته ويغادر إلى الشمال خلال يومين.”
***
“لماذا ساعدتَني؟”
توقف هاوارد، الذي كان يسير ببطء في الردهة ويداه خلف ظهره، عند سماعه السؤال الخافت الذي جاء من خلفه.
ثم استدار ببطء.
فرأى داميان واقفًا وعلى وجهه عبوسٌ خفيف، وقد ازداد شبهه بوالده مع مرور السنوات.
كم هو غريب أنه لا يشبه والدته أبدًا. فالأثر الوحيد الذي تركته مونيكا فيه هو لون عينيه الذهبيتان، وهما نفس اللون الذي يملكه هاوارد أيضًا.
لو لم تكن تلك العيون موجودة، لكان النظر إليه وجهًا لوجه مؤلمًا بحق.
شعر هاوارد بنظرات داميان التي تطالبه بإجابة، فحرّك رأسه قليلًا إلى الجانب ورد بهدوءى
“……هل أنتَ منزعجٌ لأنني ساعدتكَ؟”
“أنا فقط لا أفهم. ألم نعش كالغرباء طوال هذا الوقت؟”
فالدوقة كيستون ولوكاس يمكن فهم موقفهما، فبينهم وبين آراسيلا علاقةٌ ما، لكن لماذا جاء هاوارد بنفسه اليوم ووقف إلى جانبه؟
كان هذا هو أكثر ما شغل بال داميان طوال الجلسة، أكثر من حكمه نفسه.
أن يأتي الشخص الذي يكرهه في هذا العالم أكثر من أي أحد……ليقدم له يد العون.
“زوجتكَ هي من جاءت إليّ.”
“……عذرًا؟”
“جاءتني متوسلة، تحمل إرثًا من مونيكا، وترجّتني أن أساعدكَ.”
نظر هاوارد إلى داميان الذي ارتسمت على وجهه علاماتُ الدهشة، وبدأ يشرح له بهدوء.
كان صوته خاليًا من أي كذب، ولم يكن هناك ما يدعو للشك، فهو لا يملك سببًا ليكذب في أمرٍ كهذا من الأساس.
شعر داميان بوخز مؤلمٍ في قلبه حين أدرك كم كانت أراسيلا تسعى بصدق لإنقاذه، أكثر مما تخيّل.
في النهاية، من أنقذه كانت أراسيلا، تلك التي أقسمت ألا تتخلى عنهُ أبدًا.
صحيح أنه لم ينجُ تمامًا بعد، فما زال عليه أن يقاتل بكل ما أوتي من قوة كي لا يموت في الشمال، لكن……على الأقل، مُنح فرصة.
“أنا مدينٌ لزوجتكَ ببعض الأمور، ففعلت ذلكَ أيضًا لرد الجميل.”
“……مدين؟”
ظهرت الحيرة على وجه داميان، الذي لم يكن يعلم أن أراسيلا قد ساعدت هاوارد في المعبد.
لم يتطرق هاوارد إلى التفاصيل، بل اكتفى بالنظر إليه بصمت.
ترددت في ذهنه كلمات أراسيلا التي كانت قد اخترقت قلبهُ من قبل بكل ألم.
“الذين ارتكبوا الذنب هم الكبار، فلماذا كرهتَ ذلك الطفل الصغير إلى هذا الحد؟”
“لماذا تركتَ داميان الصغير يعيش وحده في الجحيم؟ ولأجل من؟”
“قلتَ أعذارًا كثيرة، لكن في النهاية، أنتَ من تخلّى عن حفيدكَ الوحيد من أجل راحة نفسك، أليس كذلك؟”
لم يكن هناك ما يمكن الرد به، فكل كلمةٍ قالتها كانت صحيحة.
بعد أن رحلت أراسيلا في ذلك اليوم، جلس هاوارد يراجع ماضيه بندم.
وأدرك أن كل الكراهية التي صبّها على داميان لم تكن سوى أنانية، أراد بها أن يريح قلبه هو فقط. واعترف بذلك.
لكن، ويا للخجل، لا يزال رجلاً بائسًا وضعيفًا، ولا يعرف الآن ما الذي يجب أن يقوله لداميان الواقف أمامه.
"……داميان."
“نعم.”
جاء الرد سريعًا على نداء اسم حفيده الذي لم ينطقه منذ زمنٍ طويل، فشعر هاوارد بوخز مؤلمٍ في قلبه لا يعرف سببه.
حين التقى داميان الصغير لأول مرة في جنازة مونيكا، ناداه فورًا بـ”جدي” وتعلّق به. لكن هاوارد، الذي لم يكن قادرًا على تقبّل موت ابنته، أبعد الطفل عنه.
أدار ظهره له وأطلق كلماتٍ قاسية، متجاهلًا تلك النظرة البائسة التي أرسلها إليه الصغير برجاء.
وإن كان هذا الألم لم يؤلمه إلا الآن، فلا شك أنه إنسانٌ خالٍ من الضمير.
قبض هاوارد يده بشدة، وتحدث بصوتٍ منخفض مليءٍ بالكتمان،
“عُد حيًا، لا بد لكَ بأن تعود.”
“……..”
“وحين تعود……دعنا نلتقي نحن الثلاثة، أنتَ وزوجتكَ وأنا. فلدي ما أود قولهُ لكَ.”
تغيّرت ملامح داميان بشكل طفيف. فلم يتخيّل يومًا أن يسمع مثل هذه الكلمات من جده لأمه.
لم يشعر بسعادة، ولا بحزن. فلم يكن يحمل أي ضغينةٍ تجاه هاوارد الذي تجاهل الطفل الذي كان يتعرض للإساءة.
فهو الآخر كان قد قطع صلته به منذ البداية، ولهذا لم يعتبره داميان يومًا جدًا له.
لكن، ماذا لو كان قد اعتبره كذلك؟
'……لربما كان ذلك سيجعل الأمر أكثر بؤسًا.'
شعر داميان فجأة بطعمٍ مرير في فمه، فانخفض رأسه بصمتٍ واستدار مبتعدًا.
و لسبب ما، لم يرغب في مواجهته أكثر من ذلك.
أما هاوارد، فلم يحاول منعه، بل تركه يرحل بصمت، لكنه ظل يلاحقه بنظراتهِ لفترةٍ طويلة.
شعر داميان بتلك النظرات تخترق ظهره، لكنه لم يلتفت أبدًا.
كان صدره مضطربًا، وكأن مشاعر الطفولة التي كان يجب أن يشعر بها في وقتها، تنهال عليه الآن دفعةً واحدة.
***
انطلق تجهيز داميان للرحيل بسرعة.
و فرسان الصقر الأحمر حافظوا على ولائهم، وقرر جميع الأعضاء الذهاب معه إلى الشمال، قائلين أنهم سيتبعونه حتى لو كان الطريق إلى الجحيم.
وفي يوم الرحيل، وبعد أن أُطلق سراحه من السجن، كان إيزيك هو من سلّمه سيفه ودرعه.
“شكرًا لكَ، إيزيك. أحسنتَ الاحتفاظ بها.”
“لا، سيدي. في الحقيقة، لم أكن أنا من أحضرها……كانت السيدة هي من أعطتني إياها، وطلبت أن أوصلها إليكَ.”
عند سماع ذلك، توقفت يد داميان المرتجفة للحظة وهو يرتدي الدرع.
استشعر من خلال هذا الفعل مدى عناية أراسيلا التي احتفظت بأغراضه الثمينة طوال غيابه، وأرسلتها إليه في الوقت المناسب.
بينما هو نفسه، لم يكن قد قال لها سوى كلماتٍ قاسية في آخر لقاءٍ جمع بينهما.
لذلك شعر داميان بثقل في قلبه، وبعد أن أتمّ ارتداء ملابسه ببطء، سأل بصوتٍ خافت،
“……هل زوجتي بخير؟”
“أليس من الأفضل أن تراها بنفسكَ وتحكم، يا سيدي؟ لكن، إن أردت رأيي……لم تكن تبدو في حالٍ سيئة.”
ابتسم إيزيك بخفة وهو يقول ذلك، فشعر داميان براحة خفية في داخله.
على الأقل، يبدو أنها تعيش بشكلٍ لا بأس به في أعين الآخرين.
وهو في طريقه للخروج، شعر بأسفٍ عميق. فلو كان لديه المزيد من الوقت، لكان استطاع رؤية أراسيلا قبل الرحيل.
ففي الواقع، كان من المفترض أن يُفرج عنه مبكرًا استعدادًا للتحرك، بأمرٍ من الإمبراطور.
لكن فريدريك تمسّك به حتى النهاية بوقاحة، مانعًا خروجه. بحجة أن هناك أمرًا أخيرًا يجب التحقيق فيه، فأصرّ على احتجازه.
لذلك بدأ يقلق إن كان الاستعداد للرحيل قد تم على الوجه الصحيح.
“إيزيك، هل الجميع مستعدون جيدًا؟”
“نعم، سيدي القائد. لا تقلق. لقد قدّمت لنا عائلة الماركيز هوغو الدعم المالي بسخاء لتوفير الأسلحة والدروع وكل ما نحتاجه.”
“……حقًا؟”
“نعم، ليس هذا فقط، بل إنّ الماركيز نفسه أشرف شخصيًا على تجهيزاتنا واحدةً تلو الأخرى. قال أنه لا يجوز أن يكون هناك أي ثغرةٍ عند التوجّه إلى ساحة الحرب.”
اتّسعت عينا داميان، وهو أمرٌ نادر. فلم يكن يتوقّع أن يحصل على دعمٍ من أحدٍ بعد أراسيلا.
صحيح أنهم رفضوا الطلاق بالوكالة، لكنه ظن بأن ذلك فقط لأنهم لم يستطيعوا التغلب على إصرار أراسيلا.
وكان يتوقع منهم بعض البرود بعد أن تبيّن أن الزواج كان عقدًا فقط.
لكن ما يتذكره الآن هو كيف كان أفراد عائلة المراكيز ينادونه باسمه بلطف أكثر من والده نفسه، ويعاملونه كفردٍ من العائلة.
فغمرته مشاعر جياشة، وشعر بغصّة صامتة في صدره.
ولم يلاحظ إيزيك مشاعر داميان، بل ظل يبتسم بمرح، ثم لمح شخصًا من بعيد فتراجع جانبًا بسرعة،
“إذًا، خذا وقتكما في وداعٍ مريح.”
“ماذا؟ أي وداع……”
لكن داميان لم يُكمل جملته وتوقف في مكانه فجأة.
الشخص الواقف أمام الباب، رغم أنه كان يرتدي رداءً واسعًا يغطيه، فقد عرفه على الفور من ظهره.
يدٌ بيضاء بارزة من بين الأكمام رفعت القبعة بهدوء، وانسدل شعرٌ أرجواني ناعم كالأمواج.
استدارت أراسيلا ببطء، وداميان لم يستطع حتى أن يتنفس وهو يحدّق فيها.
الوجه الذي كان يتمنى رؤيته ولو لمرةٍ واحدة فقط قبل أن يتوجه إلى حربٍ قد لا يعود منها، كان الآن على بُعد خطواتٍ قليلة فحسب.
شفتاها الممتلئتان والمحمّرتان افترقتا لتناديه،
“داميان.”
“……زوجتي.”
توقف داميان وكأنما دُقّ مسمارٌ في مكانه، ثم خطا خطواتٍ سريعة ليقرب المسافة بينه وبين أراسيلا، وسألها بصوتٍ مرتجف،
“كيف وصلتِ إلى هنا؟”
“كيف؟ كنتُ أختبئ بين الخدم الذين يحملون الأمتعة لأتسلل وأودعكَ.”
لم تُمنح لداميان فرصة للقاء عائلته رسميًا.
لذلك، اضطر للقاء أراسيلا سرًا أثناء التحضيرات للرحيل، ولكن حتى هذا فشل بسبب فريدريك.
كان يتوقع أن يغادر دون أن يراها، لكن كما هي عادتها، لم يكن بإمكانه توقع ما ستفعله، فظهرت أراسيلا لتلتقي به.
“ألم أخبركَ أنني سأكون أكثر صبرًا منكَ؟ لكنني آسفة، لم أتمكن من إنقاذكَ كما كنتُ أظن.”
“لا تقولي ذلك. لولاكِ لما كنتُ هنا الآن.”
أجاب داميان بحزم. ثم نظر إلى أراسيلا بحب وهو ينعطف برأسه قليلًا.
“أنا من يجب أن أعتذر. لقد قلتُ كلامًا قاسيًا خلال زيارتكِ.”
“لا بأس. أنا أعلم أنه لم يكن من قلبكَ.”
على الرغم من أن تلك الكلمات جرحتها في ذلك الوقت، إلا أن أراسيلا فهمت الآن أنها كانت من أجل حمايتها، وأن داميان كان يبذل قصارى جهده لعدم إيذائها.
رفعت عينيها المبللتين قليلًا تجاه داميان.
بدت عيناهُ حمراوتين، وكان واضحًا أنه مرهق من معاناته في السجن، لكن شعره الفضي اللامع وعينيه الذهبيتين ظلّوا كما هما، مما جعلها تشعر بالحزن والأسى عليه في آنٍ واحد.
“……داميان.”
“نعم.”
“هل يمكنكَ العودة منتصرًا؟”
سألت هذا السؤال محاولةً إخفاء قلقها، لكن داميان ابتسم ابتسامةً ساطعة كافية لإزالة الظلال التي كانت تخيم على أراسيلا.
“ألا تثقين بي؟”
“بالطبع أثق بكَ، أنت الفارس الذي أقدره.”
“إذاً انتظري براحة بال. فلم أخسر أبدًا في معركة.”
“همم، هذا غريب. أعتقد أنكَ خسرت حينما قاتلتني، صحيح؟”
قالت ذلك وهي تتصنع الاستغراب. فشدد داميان حاجبيه وأجاب بحسم.
“كان ذلك تعادلًا موضوعيًا.”
“همم؟”
“كان تعادلًا حقيقيًا. يجب أن تكون المباريات عادلةً، يا زوجتي.”
“آه، حسنًا. سنقول أنه تعادلٌ إذًا.”
تبادلا حديثًا مازحًا لا يتناسب مع جدية الموقف قبيل انطلاقه إلى ساحة الحرب، ثم تبادلا نظراتٍ ضاحكة لوهلة قصيرة.
لكن ما إن تلاشت الابتسامة عن وجهيهما، حتى بادر داميان بنبرة جادة،
“أريد أن أسألكِ عن شيء.”
“ما هو؟”
“لماذا فعلتِ كل هذا لأجلي؟”
حتى لو لم يُقال له بالتفصيل، كان بإمكانه أن يتخيل حجم الجهود التي بذلتها أراسيلا لإنقاذه حتى هذه اللحظة.
و لم تكن مضطرةً لكل هذا، لذا أراد أن يعرف السبب.
اقترب خطوةً أخرى، وأمال رأسه نحوها وسأل بهدوء،
“هل كان بدافع المسؤولية؟”
“هذا……”
ارتسمت لمعةٌ على عيني داميان الصافيتين كضفاف بحيرةٍ نقية. فترددت أراسيلا قليلًا، تفكر إن كان عليها أن تُخرج مشاعرها الصادقة في هذه اللحظة.
لكنها خشيت أن ينطلق داميان مطمئنًا أكثر مما ينبغي إن عرف الحقيقة.
أليس من الأفضل أن تُعلّق في قلبه سرًا مزعجًا يدفعه للنجاة بكل ما أوتي من إرادة؟
بهذا التفكير، وضعت يدها برفق على كتفه وابتسمت ،
“سأخبركَ حين تعود.”
“……لا مفر إذًا من العودة منتصرًا.”
رد داميان دون أن يُلحّ أكثر. فقد شعر أن هذا الجواب لا ينبغي أن يُقال في لحظةٍ كهذه، بل في وقتٍ أكثر هدوءًا واستقرارًا.
وربما حينها فقط، سيتمكن هو الآخر من التعبير عن مشاعره بكل وضوح.
في تلك اللحظة، دقّ صوت البوق من بعيد، معلنًا أن وقت الرحيل قد حان. فنظرت أراسيلا خلفها بخفة ثم فتحت ذراعيها.
اقترب منها داميان بطبيعية وضمّها إلى صدره، و لف ذراعه حول رأسها بحنان.
“عُد بسلام.”
“حاضر.”
بهذه الكلمات، انتهى آخر وداعٍ بينهما وافترقا.
سار داميان نحو المقدمة لقيادة فرقة الفرسان.
بوووه، بوووه!
و دوّى صوت البوق مرتين، ثم بدأ الموكب بالتحرك.
وقفت أراسيلا على جانب الطريق، تنظر بصمتٍ إلى الفرسان و هم يغادرون.
ولم تغادر مكانها حتى اختفوا تمامًا عن الأنظار، كأنهم تحولوا إلى نقاطٍ صغيرة في الأفق.
_________________________
صدق راح 🥲
على كذا متى بيرجع و نشوف الاعتراف 😭
المهم كأن داميان توقع انها بتعترف؟ بس صدق ليته هو اعترف ثم تقول له اسمح اجابتي بعد ماترجع ههههههععا
والضمة في الأخير تجنن مم هرمنا😭
الحين الخوف من فريدريك الزفت مستحيل ينتظر رجعة داميان و مايسوي شي
Dana