كل ضربةٍ كان يوجهها جعلت ذراعيه تؤلمانه بشكل أقل.
تحسنت وضعيته.
أصبحت حركات قدميه أكثر سلاسة.
وأصبح السيف جزءًا منه أكثر فأكثر.
لكن الجوع بدأ ينهشه من الداخل.
في البداية تجاهله، ظانًّا أنه يستطيع الاستمرار في التدريب.
إن تحسّن بما فيه الكفاية، ربما سيعود السيّد الأعلى.
وربما حينها سيعترف به.
لكنّه ما زال طفلًا.
وفي النهاية، أصبح الجوع أقوى من خوفه من السيّد الأعلى.
بدأ بطنه يتلوّى ألمًا، والوحدة التي تملأ الغرفة أصبحت صاخبةً جدًا.
فخرج منها.
كان الممرّ مظلمًا، وأحجاره متشققة، والرموز القديمة منقوشة على جدرانه.
اصطفت عدة أبوابٍ على جانبيه، لكنه مرّ بجانبها وتوجه نحو الدرج في نهايته.
استغرق الأمر وقتًا للصعود.
كانت ساقاه ترتجفان، واضطر للتوقف أكثر من مرةٍ ليلتقط أنفاسه.
عند أعلى الدرج، دفع بابًا ثقيلًا فانفتح ببطء.
رحب به ضوءٌ دافئ.
خطا إلى قاعة قصرٍ ضخمة.
كان السقف مرتفعًا، والجدران مكسوّةً بحجر الأوبسيديان، تتخللها بلوراتٌ حمراء متوهجة.
تابع سيره، محاولًا استيعاب كل ما يراه.
كان هناك عدد من العاملين والخدم يتحركون في المكان.
توقفوا عندما رأوه.
وبدأت الهمسات تنتشر.
"عيونٌ حمراء... شعرٌ أسود..."
"...هل يمكن أن يكون ابن السيّد الأعلى...؟"
اقتربت منه خادمة، ربما كانت أشجعهم.
انخفضت إلى مستواه وتحدثت بلطف.
"من أنت؟ ما اسمك؟ ولماذا تتجول في القصر وحدك؟"
"آا... سس..."
فتح الطفل فمه، لكن لم تخرج منه سوى أصواتٍ غريبة.
كان الكلام أصعب مما تخيّل.
فعلى الرغم من كلّ المعرفة المزروعة في عقله، لم تتضمن تلك المعرفة النطق ولا ما يتعلق بالحياة اليومية.
كان قادرًا على التأرجح بالسيف بدقةٍ غير بشرية، لكنه لم يكن يعرف كيف يشكّل الكلمات.
كانت معرفته تقتصر على القتال والتدمير.
زمجر بطنه عاليًا من الجوع.
رمشت الخادمة بدهشة، ثم ابتسمت بلطف.
"هل أنت جائع؟"
أومأ بسرعة.
فنهضت ومدّت يدها نحوه.
"تعال معي."
قادته عبر ممرٍّ آخر إلى مطبخٍ واسع.
رائحة الطعام جعلت فمه يسيل لعابه.
في الداخل، كان الطهاة يُعدّون وجبةً فاخرة.
ولدى رؤيتهم لعيونه الحمراء وشعره الأسود، توقفوا عن العمل للحظة.
"إنه يشبهه..."
"هل يمكن أن يكون...؟"
ومهما كانت أفكارهم، لم يمنعوا الخادمة من إجلسته وتقديم الطعام له.
وضعوا أمامه طبقًا تلو الآخر.
وأكل بسرعةٍ، بنهمٍ شديد.
للمرة الأولى منذ ولادته، شعر بالراحة.
بقيت الخادمة بجانبه، تتحدث إليه بلطف رغم أنه لم يستطع الرد جيدًا.
ضحكت ولمست خده بإصبعها مرة، فابتسم قليلًا دون وعي.
وحين انتهى أخيرًا من الأكل، نهض وبدأ يتجول في المطبخ.
كان يراقب الطهاة بعينين مركزتين على حركاتهم وهم يقطعون ويقلبون ويرتبون المكونات.
انتبه له كبير الطهاة وقطّب حاجبيه.
"أيها الصغير، لا تعُق العمل."
لكنه لم يطرده.
بل سمح له بالمشاهدة، بل وأشار إلى بعض الأشياء مرةً أو مرتين.
كان الطفل يراقب بذهولٍ وانبهار.
حينها وصل الحرّاس.
"أين هو؟"
"رأيته يُجلب إلى هنا!"
أشار أحد العاملين الذين جلبوا الحراس نحو الطفل.
اندفع الحراس إلى الداخل.
كانت سيوفهم مسلولة، وتبدّت الجدية على وجوههم.
"ها هو هناك!"
أحاطوا به.
لكن الطفل لم يتحرك.
لم تكن أسلحتهم تُخيفه.
لم يكن ذلك مرعبًا مثل نظرة السيّد الأعلى الباردة أو صمت الغرفة الذي لا يُحتمل.
تقدمت الخادمة بينهم، حائرة.
"ما الذي يحدث؟ لم يفعل شيئًا."
"تنحي جانبًا، ذلك الطفل شيطان،" صاح أحد الحراس.
ارتجفت الخادمة.
تقدم الطفل خطوةً نحوها، لا يدري لِمَ جعلته ردة فعلها يشعر بألمٍ في صدره.
تراجعت وهي ترفض أن تدعه يلمسها.
كان الخوف واضحًا في عينيها.
تجمّد الصبي في مكانه.
اقترب كبير الطهاة وهو متضايق.
"ما الذي تصرخون لأجله؟ إنه طفل."
"إنه شيطان!"
"وكذلك السيّد الأعلى."
استدار قائد الحرس بسرعة حادّة.
"كيف تجرؤ على مقارنة الشياطين القذرين بالسيّد الأعلى—"
"إنه يشبهه. ولهذا ظنّ الجميع أنه ابنه. وحتى إن لم يكن كذلك، فهو ما زال طفلًا. كفّوا عن الصراخ، أنتم تثيرون الفوضى."
تردّد الحراس للحظة.
ثم تقدّم قائدهم وأمسك الطفل من ذراعه بقسوةٍ وجذبه بعيدًا.
جرّوه عبر الممرّات الطويلة.
أعادوه إلى الحجرة.
ورموه إلى الداخل.
أُغلق الباب بعنف، ودوّى صوت القفل في أرجاء المكان.
"لا تخرج دون إذنٍ مرةً أخرى،" قال الحارس من خلف الباب.
تبع ذلك صمتٌ ثقيل.
اقترب الطفل من الباب وجلس أمامه.
حدّق فيه طويلًا، ثم رفع يده وخدشه بخفة.
"دعـ...ـني... أخـ...ـرج..."
تشققت صوته وهو يحاول التحدث لأول مرة.
"دعني أخرج... دعـ...ـني..."
احترق حلقه.
كانت كلماته بالكاد مفهومة.
لكنه استمر في مناداة الحراس.
صرخ حتى لم يعد قادرًا على الصراخ.
ثم تكوّر على نفسه ونام من شدّة الإنهاك.
وحين استيقظ، لم يصرخ مجددًا.
أمسك بالسيف.
تأمل الباب.
ثم لوّح به.
اهتزّ الباب.
لوّح مرةً أخرى.
ومرةً ثالثة.
استمر بالضرب مرارًا وتكرارًا.
مع كلّ ضربة، كان النصل يقطع أعمق فأعمق.
ولم يتوقف.
عاد الجوع.
جسده كان يصرخ طلبًا للطعام، لكنه تجاهله.
تذكّر دفء المطبخ. حضور الناس. صرير الطعام وهو يُطهى.
أراد العودة.
أراد أن يطبخ أيضًا.
لم يرد أن يبقى وحيدًا بعد أن أدرك أن هناك شيئًا أكثر دفئًا من برودة حجر غرفته.
كلما ازداد يأسه، ازدادت ضرباته حدّةً وسرعة.
شعر أن السيف أصبح امتدادًا لجسده.
كان أول شيء لمسه في حياته. أمسك به منذ لحظة مولده. كانت كل حركةٍ به طبيعية.
وأخيرًا، تحطّم الباب.
ترنّح وهو يخرج، يلهث بشدة.
كانت يداه متقرحتين.
ومعدته تلتفّ على نفسها ألمًا.
لكنه خرج.
رفع نظره نحو الممر.
وهناك رآه—
السيّد الأعلى، يهبط الدرج بخطواتٍ بطيئة.
تجمّد الطفل في مكانه.
***
ماهو رايكم بترجمة فصل هل لذيكم ملاحظات.