تجمّعت الدموع في عينيها، وانسكبت لتجري على وجنتيها.
كان صدرها يرتفع ويهبط بشكل غير متناسق وهي تكافح لالتقاط أنفاسها.
الجمود في معدتها جعلها تشعر برغبة في التقيؤ.
انكمشت على نفسها، ممسكةً بركبتَيها، واشتد بكاؤها أكثر.
كانت مشاعرها تضطرب بلا اتجاه، كموجٍ قبيحٍ لا يهدأ.
بكت لساعات.
وعندما توقفت دموعها أخيرًا، لم تشعر بالراحة، بل بالفراغ فقط، صمتٍ خاوٍ تمامًا.
وقع بصرها على فورناز.
مدّت يدها، أمسكت بمقبض السيف ورفعته نحو عنقها.
"ما الذي تفعلينه؟" سأل الباندا من الزاوية.
"سأقتل نفسي. إذا واصلت فعل ذلك، فلا بد أن خلودي سينتهي في مرحلة ما. لا يمكن أن تكون الساحرات خالداتٍ تمامًا."
كانت عيناها باهتتين، خاليتين من الحياة.
توهّج جسد فورناز للحظة، متحوّلًا إلى هيئة بومةٍ، وقفز من قبضتها.
"فورناز."
حدّقت به.
"تعال إلى هنا. أحتاج إلى أن أقتل نفسي."
لم يُجب.
وحين تقدّمت نحوه، خفق بجناحيه وطار مبتعدًا أكثر.
ارتعشت يد مورين، فالتفتت نحو الطاولة في غرفتها.
كان هناك سكينٌ صغيرٌ على الطاولة بجانب سلّة الفاكهة.
تحرّكت باتجاهها.
ظهر الباندا في طريقها، مانعًا إياها من المرور.
"الساحرات لا يمكن أن يمتن."
لم تُجب.
وحين حاولت تجاوزه، تحرّك مرةً أخرى ليقطع طريقها.
وأخيرًا، زفر قائلًا.
"لقد أبرم عقدًا معي."
توقّفت.
تحرّك رأسها ببطءٍ نحوه.
"…ماذا؟"
"أنا سيفيرانت. شيطان. وسلطتي تتيح لي أن أقطع أي شيء."
كان صوتها خافتًا. "ما كان عقده معك؟"
"قال لي إنه إن فشل في التجسّد من جديد، فعليّ أن أقطع ذاكرتك عنه."
"…ماذا؟"
"لقد أرادك أن تنسيه."
سقطت الكلمات على صدرها كسيفٍ مغروس.
"…أرادني أن أنساه؟"
ارتعش صوتها.
ثم تحوّل الذهول في وجهها إلى غضبٍ حاد.
"إذن لمَ أحبّني من الأساس!؟ كان يعلم أنه سيموت، وأخفى ذلك! هل قال لي شيئًا واحدًا بصدق؟ شيطان الطغيان؟ من هذا أصلًا؟ ما الذي كان يفعله طوال ذلك الوقت؟!"
كانت صرخاتها متقطّعة، ممزّقةً من أعماقها.
"أنا… هيك… أكرهه…"
"مورين—"
"لا تقترب مني!"
حتى وسط غضبها، رمقت سيفيرانت بنظرةٍ حادّة حين حاول الاقتراب منها.
لم تكن تريد أن تنساه.
مهما كرهت أكاذيبه، كان الحب لا يزال هناك، لم يتزحزح.
"أنا… هيك… أكرهه…"
انهارت جالسةً وظهرها مستند إلى قاعدة السرير.
ضمّت ركبتيها إلى صدرها، وضغطت جبينها عليهما.
"مورين، قطع ذاكرتك سي—"
"لن يُغيّر شيئًا." قاطعتْه.
كان عليها أن تقولها، تحسّبًا من أن يحاول تنفيذها رغمًا عنها.
ففي حالتها الحالية، لم تكن تملك القوة لمنعه.
"لو كان محو الذكريات كافيًا، لما كانت الساحرات يتألّمن."
لم يجد سيفيرانت ما يقوله.
وبعد صمتٍ طويل، قال بصوتٍ منخفض. "هناك طريقة أخرى. إن قطعتُ ذاكرتك، فلن تتذكّريه، لكنك ستشعرين بأن هناك شيئًا ناقصًا. عندها يمكننا خلق نسخةٍ منه. بما أنكِ لن تتذكّريه، فلن تدركي أن النسخة ليست حقيقية—"
توقّف عندما رفعت رأسها.
نظرة القتل في عينيها جعلت الشيطان يتراجع خطوةً غريزيًا.
"لا تجرؤ على اقتراح ذلك مرةً أخرى."
"وماذا بعد؟" ردّ سيفيرانت وهو يحدّق بها، محاولًا ابتلاع خوفه الذي شعر به تَوًّا. "هل ستستمرين بالبكاء فقط؟ ما الذي ستحققينه من ذلك—"
"لا أعلم!"
تحطّم صوت مورين وهي تصرخ.
لم تكن تعرف ما الذي عليها فعله بعد، لكنها كانت تعرف شيئًا واحدًا يقينًا— لن توافق أبدًا على محوه من ذاكرتها.
تلك السنوات كانت أسعد ما عاشته في حياتها.
لشخصٍ قضى ثمانية عصورٍ طويلة في الوحدة، كانت تلك الفترة الوحيدة التي لم تكن فيها وحيدا.
لقد ضحكا معًا، وسافرا إلى الأماكن التي أرادا رؤيتها، وتقاسما لحظاتٍ من الدفء.
رفضت أن تفقد تلك الذكريات الثمينة.
ساد الصمت بين سيفيرانت ومورين.
"هو لم يقتل بريئًا قط."
عاد فورناز، وحطّ برفقٍ على كتفها.
"لم يكتشف إلا في وقتٍ متأخر أنه لن ينجو من نهاية العصر."
لم تُجب مورين، لكن كتفيها ارتجفا.
"حتى ذلك الحين، لم تكونا معًا. لكن كان واضحًا أنكِ تحبينه. ابتعاده عنكِ ما كان ليُغيّر شيئًا. لذلك قرر أن يبقى، وأن يجعلك سعيدةً لأطول وقتٍ ممكن. كان يريد أن يمنحك ذكرياتٍ سعيدة."
بقيت صامتة.
"لكنّه لم يتوقف عن البحث عن طريقةٍ للنجاة. اقتحم خزائن الممالك، والتقى بالحكماء العظام، وتحدّى ساحراتٍ أخريات. طالب بالمعرفة من كلّ من استطاع."
ضحك سيفيرانت ضحكةً جافة.
"مع أنه لم يكن من طبعه التكبر، إلا أنه تصرّف بتعجرفٍ أمام الجميع. وإن رفض أحدٌ الحديث، كان يهزمه ويهدده حتى يرضخ. وهكذا لُقّب بـ ’شيطان الطغيان‘."
"…لهذا فقط؟" كان صوتها خافتًا، لكن لمحة فضولٍ ظهرت فيه.
"لا أقول ’فقط‘ لهذا السبب." أجاب سيفيرانت. "فكّري بالأمر من وجهة نظرهم. لقد ظنّوا أن ملكهم لا يُقهَر."
"ثم فجأة، يظهر شخصٌ من العدم، يدمّر دفاعات مملكتهم، يهزم جيوشهم، ويجبر حاكمهم على الخضوع، ثم يطالبهم بأن يسلموه علمهم."
"وإن رفضوا، أعاد إذلالهم مجددًا. بالنسبة لهم، كان طاغيةً بحق." شرح فورناز.
"…يبدو كقطاع طرق أكثر من طاغية."
ضحك فورناز بخفة.
"قال إنكِ ستصفينه بذلك لو اكتشفتِ ما فعله."
رفعت مورين رأسها تنظر إليه. وكانت تلك الإشارة كافية ليبدأ فورناز الكلام مجددًا.
أخذ يحكي لها قصصًا عمّا فعله "هو" بينما كان ينتظر تجسّدها من جديد.
لم تبتسم مورين، لكن دموعها توقّفت.
كانت تنصت.
"لقد طار من الفرح عندما قبلتِ عرضه للزواج. حتى إنه ذهب ليلتقي بهاديس."
"…ماذا؟"
"أراد أن يطلب اسمًا، حتى يتمكن حين يطلب يدك أن يمنحكِ واحدًا."
تجمّدت مكانها.
لقد كان دائمًا يرفض أن تأخذ له اسمًا.
تذكّرت حديثهما القديم.
’ناديني فقط الموت بلا اسم إن أردتِ منحي اسمًا.‘
’لماذا؟‘
'أبي هو هاديس. لم يمنحني اسمًا. لذا… الموت بلا اسم.'
' …. '
’هيا، لا تنظري إليّ هكذا. الأمر مؤقت فقط. سأجبره على الاعتراف بي كابنٍ له، ثم سأطالبه باسمٍ يليق بي.‘
’ألست تكرهه؟‘
’هذا سؤالٌ محرج. في الواقع، نعم، أكرهه. كثيرًا. لكنني ما زلت أحترمه. أعلم أنه يعمل نحو هدفه الخاص. ورغم أنني لا أحب أنه تخلّى عني، إلا أنني أفهم لماذا فعل ذلك.‘
’أنت…!‘
’انتظري، لماذا تبكين؟‘
’اخرس! أنا أكره هاديس! وأكرهك لأنك لا تكرهه، ذلك القذر الذي تخلّى عنك!‘
’هاهاها!‘
لقد كانت مشاجرةً بينهما.
لكن تذكّرها الآن كان ذكرى دافئة.
***
ماهو رايكم بترجمة فصل هل لذيكم ملاحظات.