كان يريد أن يجد طريقة لمساعدتها.
لهذا نظر داخلها.
وما رآه فيها جمّده في مكانه.
فتاةٌ تغرق في أعماق بحر الدم، تُسحَب إلى الأسفل بواسطة جثث لا تُحصى.
وفي كل مرة تنجح فيها في اختراق السطح، تغرس حاكمة عملاقة رمحًا في الأمواج، وتدفعها مجددًا إلى الأعماق.
مرّة بعد مرّة، كانت تُبتلع، تكافح بلا نهاية، تختنق.
سحب نيو نفسًا حادًا.
إنها عالقة في أشباح الموتى.
لم تستطع أميليا المضيّ قدمًا.
لم تستطع أن تُفلت وجوه الذين فقدتهم.
طبيعتها الرؤوفة كبّلتها بكل واحد منهم.
كانت تحمل موتهم داخلها، تلوم نفسها على كل واحد.
كل غضبها على نيو، كل صراخها، كان مجرّد تنفيس عن نفسها، لا أكثر.
الحقيقة كانت أبسط، وأقسى.
لم تكن تكرهه.
كانت تكره نفسها.
من المستحيل تهدئة عقلها خلال أسبوع واحد، فكّر نيو بمرارة.
استدار دون كلمة إضافية، وما إن غادر المكتب حتى جاء صوت أميليا.
"أنا لا أثق بك لإعادة أمي."
"…"
"في كل مرة وثقت بك، لم أحصل إلا على المزيد من الندوب."
"…"
"توقف عن إعطاء الآخرين وعودًا فارغة."
"سأعيدها"، رد نيو أخيرًا.
غادر نيو المكتب وأُغلق الباب خلفه.
توتر الحراس في الخارج حين خرج، لكنه تجاهلهم.
مرّ بجانبهم، نحو الردهة، حتى وقف خارجًا في الهواء البارد لساحة القصر.
كان جاك بانتظاره.
اشتدّ تعبيره عندما رأى وجه نيو، لكنه لم يسأل عمّا حدث.
"دعنا نذهب لمقابلة فيليكس"، قال نيو.
أراد بسرعة إنهاء كل الأمور وتحقيق اختراقاته ليبدأ البحث عن إليزابيث.
للحظة قصيرة، التفت نيو إلى الخلف.
ارتفع نظره نحو النوافذ العالية للقصر.
هناك رآها—ليلى—واقفة عند واحدة منها.
كانت تراقبه هو وجاك من بعيد.
تلاقت نظراتهما، ومرّ بينهما شيء غير منطوق.
فتحت فمها قليلًا، وكأن كلمات كانت على وشك الخروج.
لكن مهما أرادت أن تقول، ابتلعته في آخر لحظة.
انطبقت شفتيها، وخفضت رأسها.
انقبض صدر نيو.
اتبع جاك خط نظره وسرعان ما شعر بوجود ليلى أيضًا.
اخترق صوته الموقف. "لنذهب."
ألقى نيو نظرة أخيرة قبل أن يومئ.
وضع يده على كتف جاك، فاختفى الاثنان، ليظهرا في السماء المفتوحة فوق القارة.
كان الهواء رقيقًا.
الغيوم امتدت تحتهم، والأفق انحنى برفق، مذكّرًا إيّاهم بمدى صِغَر الأرض التي تركوها أسفلهم.
للحظة، لم يتحرك نيو.
ظلّ معلّقًا هناك، يدع صمت السماء يحتضنه.
ثم خرج نفسٌ عميق.
تبًا لحياتي اللعينة.
تمنى لو وُجدت طريقة سهلة لمساعدة أميليا دون تمزيق جراحها مجددًا. طريقة للقاء إليزابيث بسرعة. طريقة للحديث مع ليلى دون إضافة المزيد من المرارة إلى قلب أميليا.
كان الثقل يضغط عليه أكثر من الجاذبية نفسها.
خرج زفير آخر من شفتيه، ألين هذه المرة. وهزّ رأسه.
لنركّز على الأمر المطروح، قال لنفسه.
كان عليه لقاء فيليكس.
ذلك هو الخطوة التالية.
وانصرف عقله نحو المشكلة التي كانت تنهشه منذ أن ذكر بيرسيفال وظيفة فيليكس كمرتزق أثناء الإفطار.
كان لدى فيليكس علامة تنّين على يده. وقد رآها نيو.
كانت العلامة تحمل هالة ووجودًا خفيفًا لتنانين قديمة.
وذلك وحده كان مقلقًا.
كان نيو يأمل—بصدق—أن العلامة لم تكن شيئًا أعطاه القدماءُ التنانين لفيليكس بشكل شخصي.
لأن اللحظة التي رأى فيها نيو تلك العلامة، أدرك شيئًا آخر.
فيليكس تعرّف عليه من خلال تلك العلامة.
ليس كنيو، ولا كحاكم قوي أو كاسر سماوات، بل كتنّين قديم.
إذا كانت وظيفة العلامة هي تحديد موقعي وموقع الأخي….
ضيّق نيو عينيه نحو السماء الممتدّة أمامه.
إن كانت تلك العلامة قد أُعطيت فعلًا من التنانين القديمة، فلا بد أنهم زرعوا فيها متتبّعًا.
وإن كان فيليكس يحمل متتبّعًا مزروعًا في ذلك الوشم، فإن كل حركة له يمكن تعقّبها.
وإن اقترب نيو أو هنري منه أكثر من اللازم…
فستعلم التنانين القديمة.
وإن فشل فيليكس في إنجاز أي دور وضعوه له—سواء كان الاختبار، أو الإضعاف، أو الأسر—فإن المفترسين الحقيقيين سيتبعونه.
التنانين القديمة نفسها.
ربما كانت تتربّص حولهم بالفعل.
أطلق نيو زفيرًا بطيئًا، وانخفض نظره نحو الأرض.
من مكانه فوق الغيوم، بدت الكوكب هشّة. هشّة للغاية.
وللحظة وجيزة، فكّر بشيء متطرّف.
لو سحب الأرض إلى كونه، فلن تبقى مكشوفة.
ستكون تلك الخطوة ضمانًا للأمان، على الأقل من الهجمات المفاجئة.
لكنّه أوقف نفسه.
لقد تم رفض الفكرة على الفور تقريبًا.
لا أعتقد أن التنانين القديمة ستهاجم قريبًا.
لم يكن ذلك مجرّد أمل.
كان منطقًا.
لو كانت التنانين القديمة تعرف أين يوجد نيو بالفعل، ولو استخدمت فيليكس كمتتبّع، فلماذا لم تهاجم حتى الآن؟
كانت الإجابة بسيطة.
إيليانا.
كانت هناك.
حاكمة من المرحلة السادسة، وواحدة من قادة شموس المنسية.
لا يمكن تجاهل وجودها.
رغم قوّتهم، حتى التنانين القديمة يجب أن تحسب المخاطر.
ربما كانوا يحافظون على مسافة آمنة بسببها.
تجهّم نيو أكثر وهو يفكّر بعمق.
لن يتوقفوا طويلًا.
قد يكونون يجمعون قوّتهم في هذه اللحظة بالذات عبر استدعاء تنانين قديمة أخرى لضرب الأرض بقوة ساحقة.
إن كان ذلك صحيحًا، فوجود إيليانا لم يشترِ إلا الوقت.
يمكنها ردعهم على المدى القصير، لكن ليس إلى الأبد.
فرك نيو صدغه.
تبًا لحياتي.
لماذا يزداد الأمر سوءًا، ثم أسوأ؟
كان يشعر أن كل قرار يحمل خلفه عاصفة. أيّ طريق يفكّر فيه، تظهر ظلال لأسوأ العواقب من خلفه.
كان هناك احتمالان حاليًا.
السيناريو الأسوأ هو ما فكّر فيه مسبقًا.
لكن كان هناك سيناريو جيد أيضًا.
ربما أكون مخطئًا. ربما لا علاقة للتنانين القديمة بهذا كله.
أراد أن يصدق ذلك.
أراد أن يصدق أن فيليكس حصل على تلك العلامة بطريقة أخرى.
وأنها ليست جزءًا من مخطط أكبر.
لكنّه يعرف جيدًا ألا يعتمد على إحصائية الحظ المعدومة لديه.
"عمّ تفكّر؟" اخترق صوت جاك سلسلة أفكاره.
ألقى نيو نظرة نحوه.
كان جاك يبدو مسترخيًا على السطح، لكن الطريقة التي ضاقت بها عيناه قليلًا كشفت أنه كان يراقب نيو بتمعّن.
"لا شيء"، قال نيو بعد لحظة. "أين يعيش فيليكس؟"
درسَه جاك لثانية أطول، ثم هز كتفيه.
"تلك القارة." وأشار في البعيد.
أمسك نيو بكتفه، وتقدّما معًا خطوة، فاختفيا من السماء.
تبدّل العالم حولهما، وما إن ظهرا مجددًا، تغيّر الجو فورًا.
القصر أمامهما لم يكن يشبه على الإطلاق قاعات أميليا الصارمة والمهيبة.
فحيث كانت مملكة أميليا تحمل انضباط حاكمة تحمل ثقل المسؤولية، كان قصر فيليكس يصرخ بالبذخ.
كانت الجدران تتلألأ برخام مصقول وحوافّ ذهبية.
أعمدة منحوتة تحمل أقواسًا تقود إلى مجمّع واسع.
لكن ما لفت النظر لم يكن القصر وحده.
متصل به—كأنه ملتحم بالتصميم الفخم—كان هناك وكر قمار ضخم.
فوانيس لامعة تضيء مدخله، وعلامات متوهّجة محفورة برموز سحرية لجذب الانتباه حتى في وضح النهار.
تنساب موسيقى خفيفة من داخله، مزيج من آلات وترية وحركة نرد يتدحرج.
ضحكات، صياح، واندلاعات جدال متناثرة تتردّد عبر الساحة.
كان المكان حيًّا، فوضويًا، وفاخرًا.
نظر نيو إليه بدهشة خافتة. "هو الذي بنى هذا؟"
أطلق جاك ضحكة جافة. "لطالما أحب فيليكس المال."
كانت الشوارع حول القصر تعج بالناس، ومعظمهم يرتدون ملابس أنيقة.
نبلاء، تجار، ومرتزقة يمشون جنبًا إلى جنب، وعيونهم تنجذب نحو الوكر.
خدم بزيّ نظيف يحملون صواني مشروبات، بينما يقف الحراس بدروع سوداء عند كل قوس.
التباين كان صارخًا.
القصر يحمل وزن الملكية، لكن الوكر يجذب كل من يريد اختبار الحظ، غنيًا كان أو يائسًا.
كان نيو على وشك أن يعلّق حين اقتربت منهما شخصية.
الرجل كان يرتدي زيّ حارس، داكن اللون ومزدانًا بلمسات ذهبية عند الكتفين.
كانت حركاته حادة، لكن ملامحه خالية من الغرور المعتاد لدى من يشغل مثل هذا المنصب.
وعندما وصل إليهما، توقّف، وانحنى بانخفاض، وتكلّم.
"السيد نيو هارغريفز"، قال الحارس بهدوء مفاجئ، "أرجو أن تتبعني. سيّدي كان ينتظرك."
"تقصد فيليكس؟"
"تقصد السيد فيليكس"، قال الحارس بحدّة.
رفع نيو حاجبًا.
هز جاك رأسه، إذ بدا واضحًا أن فيليكس أخبر الحارس باسم نيو لكن ليس من هو.
تبع الاثنان الحارس.
وبينما كانا يمشيان، سأل نيو جاك.
"أين مارس؟ لم أره أبدًا."
"لا نعرف. بعد أن انتهت مسألة التحالف الكوني، غادر مارس، وقال إنه يتنحّى عن العرش. أراد أن يتدرّب ويقاتل وقال إن دور الملك لا يناسبه."
"إلى أين ذهب؟"
"لا أحد يعرف. غادر دون أن يخبرنا. قال إننا بالتأكيد سنتبعه عاجلًا أو آجلًا لإعادته، لذلك غادر دون أن يخبرنا بمكانه."
ابتسم نيو بتعب.
"وماذا عن آرثر؟"
"إنه يعيش في هذه القارة. أعتقد أنه ينتظرنا مع فيليكس."
***
ماهو رايكم بترجمة فصل هل لذيكم ملاحظات.