كان حزيناً على الدوام، لا يتحدّث مع أحد، ولا يُرافِقه أحد، طُرِد من الميتم في بعد شهرٍ واحد بِسبب ماضيه، عاش في الشارع منذ كان عمرُه تِسع سنوات، يعرِفُه الصغير والكبير في بلدة كوبير بِسبب جسدِه المحروق، لا أنف ولا شِفاه، أذنان مُشوّهتان، أشفارٌ مُتجعّدة، جسدٌ هزيل، يعلم الجميع خلفيتَه، لكن الذين يهتمون به حقاً يُعدّون على أصابع اليد الواحدة، بل ربما أقل مِن ذلك بِكثير، خاصةً بعد موت العجوز التي كانت تسمح له بالنوم معها في بيتِها الصغير، ومع أنها كانت قد وعدَته بإعطائِه المنزِل بعد موتِها إلا أن أشخاصاً آخرين قد طردوه حتى قبل دفن العجوز، ما جعلَه يرجِع للعيش في الشارِع مرة أخرى.

عُمره الآن يتجاوز الرابعة عشر ويُسمِّيه الجميع بالطفل المحروق، جسدُه ضعيفٌ على العمل، لا أحد يشتري مِنه إذا أراد بيع المحارِم أو أكياس البضائع، يأكُل من القمامة دون خجل، وأحياناً قد يحصُل على بعض الطعام أو الثياب من الآخرين، لكن سُرعان ما يسرِقُها مِنه المشرّدون الآخرون لِيعود إلى حالتِه القديمة، وربما هذا هو سبب الجروح البليغة التي تظهَر على جسدِه النحيل كل صباح.

لم يسمَع صوتَه أحدٌ مُنذ تِلك الحادِثة التي يذكُرها جميع سكان بلدة كوبير، والتي فقدَ فيها جميع أفراد عائلتِه على يد أحد النبلاء، وسبب تركِه على قيد الحياة بعد حرق جسدِه هو جعلُه مِثالاً لكل من فكّر في الثورة والانتفاضة ضد الأجناس الأقوى، ويبدو بِأن هذا قد جعَل الجميع يتراجعون، خاصةً بعد الثورة التي قادَها والد هذا المنبوذ.

يتذكّر كل شيءٍ رغم صِغر سنّه حينَها، وربما اختار العيش وحيداً بِسبب الرعب الذي عاشَه، حيث لم ينطِق بِكلمةٍ واحدة منذ ذلك الوقت، لا يعلم أحدٌ إذا كان بِسبب إصابةٍ جسدية أم عقدةٍ نفسية، لكن الأكيد هو أنه لا يتحدّث مع أحد، بل ولا يرتاح مع أحد إلا مع صاحب المكتبة الوحيدة في هذه المنطقة الصغيرة.

يعمل رجلٌ عجوز في مكتبةٍ صغيرة منذ وقتٍ طويل، ومع أنه لا يزوره الكثير من الناس إلا أن الطفل المحروق يأتي إليه كل مساء، لا يفعل شيئاً غير اختيار كتابٍ ما والبدء في قراءتِه، ينظُر إليه صاحب المكتبة ولا يقول له شيئاً، وأحياناً قد يُقدّم له بعض الطعام أو كوباً من الشاي دون قول كلمةٍ واحدة، ربما لِأن الطفل يملِك ماضٍ سيء ولا يُريد أحدٌ مُساعدتَه حتى لا يتورّطوا مع ذلك النبيل.

مع أن أغلَب سكان هذا العالم من المواطنين إلا أنه توجد الكثير من الأجناس الأخرى، لكن أكثرَها قوةً هم الملوك والنبلاء والرهبان، وكلّهم يملِكون خصائص مختلفة يُسيطرون بها على أتباعِهم لِكسب عددٍ أكبر من الفوائد، وهذا يجعلُهم يُسيطرون على باقي الأجناس الأخرى مع اختلاف طُرق السيطرة بين القوة والمال وغيرهما.

يعرف هؤلاء الثلاثة بِأن أي دولةٍ لا تقوم إلا باتحادِهم، لذلك يحترِم كل جنسٍ مقام الآخر في الأوقات العادية، لكنهم أحياناً قد يتصادَمون فيما بينهم، وهذا مِن شأنِه أن يُحدِث دماراً كبيراً يؤثّر على الكثير من المواطنين الضعفاء، خاصةً أولئك الذين لا يملِكون أي قوةٍ يحمون بها أنفُسهم.

توجد العديد من الدول في هذا العالم، وكل دولةٍ لديها طريقتُها في تسيِير شؤونِها، لكن تركيبة القوى مُتشابهة رغم اختلاف التسميات في بعض الدول، فالملوك يقفون دائماً على رأس الأجناس الأخرى مع مَن معهم من الأمراء، ومع أنه يتم أحياناً الإطاحة بالملوك إلا أن الملك الجديد سيكون عليه الحكم بِنفس طريقة الملك القديم إذا أراد استغلال قوة الهالة الطاغية.

ينقسِم الأمراء إلى ثلاث درجات، الثالثة والثانية والأولى، وفوقهم يقف ملكٌ واحد فقط، وجميع هؤلاء يستخدمون مصدر طاقةٍ خاص يسمى الهالة الطاغية، وتتوزّع عنهم هذه الطاقة بِالتدريج حيث يحصُل الملك على أكبر حصة، بينما يحصُل أُمراء الدرجة الثالثة على أصغر حصة، لكنهم لا يحصلون على الهالة الطاغية بالوِراثة وإنما عبر الانخراط في طقوس سنوية مُعيّنة، وهذه الطقوس هي التي تختار درجة الأمير وإن كان يستحق أن يكون أميراً أم يتم طردُه إلى لقب "أمير خارجي".

يُعرف الملك والأمراء بالهالة الملكية الذهبية والتي تُعتبر من أقوى الهالات القتالية، وهي هالةٌ طاغية تقف أعلى من جميع الهالات الأخرى، لكن هذا لا يمنع ظهور مقاتلين أقوياء بين النبلاء والرهبان رغم أنهم يكونون مُجرّد حالاتٍ خاصة ولا ترقَى إلى القضاء على العائلة الملكية، ومع ذلك لا تترُك العائلة الملكية أي فُرصةٍ لِتعاوُن الرهبان والنبلاء، لِأن تعاوُنَهما سيجعَل الأمور صعبةً عليها، أما باقي الأجناس فهي تحت أيدي الأجاس الثلاثة الأقوى.

مع أن العائلة الملكية لا تستقبِل المنضمّين الجُدد إلا أنها تُشرِف على النبلاء ولا تسمَح بإضافة نبيلٍ جديد إلا بإشراف الملك نفسِه، وهو الذي يقرّر درجة النبيل حيث ينقسِم النبلاء أيضاً إلى ثلاث درجات، وعندما يصير الشخص نبيلاً فسيحصُل تلقائياً على قطعة أرضٍ يحكمُها مع قصرٍ وعددٍ من الخدم وكمية كبيرة من الأموال، لكن أغلب النبلاء لا يشتاقون إلى هذا فقط وإنما أيضاً إلى حصّتِهم من الهالة النبيلة التي يُشرِف عليها الملك، وهذه الهالة هي طاقةٌ قتالية تسمح للنبيل بِدخول عالم الأقوياء، لكنه ليس مُلزماً باستخدامِها لأن وصولَه إلى منصب النبيل لم يكُن عبثياً وإنما بِسبب قوّتِه التي أظهرَها في مسيرتِه.

يُعتبر الأمراء جِنساً ذهبياً لا مثيل له، ويختلِفون عن الأجناس الأخرى باتّحاد صِفاتِهم حيث جميعُهم يملِكون شعراً وعيوناً باللون الذهبي، وحتى إذا تغيّرت العائلة المالكة فإن العائلة الجديدة ستتحوّل إلى هذا الشكل المُبهرَج بعد تلقّيها للهالة الطاغية، ونفس الشيء يحدُث مع النبلاء حيث أي نبيلٍ جديد يحصُل على الهالة النبيلة سيتغيّر لون شعرِه وعينَيه إلى اللون الفضّي، ما يجعَل الجِنسَين واضحَين للآخرين من أول نظرة.

مثل الأمراء والنبلاء.. يملِك الرهبان طاقةً خاصةً أيضاً، لكنها ليسَت تحت سيطرة العائلة الملكية مثل الهالة النبيلة الخاصة بالنبلاء، وهذا ليس مُزعِجاً للملك بِسبب قلّة الرهبان وصعوبة استيعاب طاقتِهم الخاصة، والتي تجعل لون شعرِهم وأعيُنِهم أبيضاً، لذلك يبدو الرهبان وكأنهم عُميان مع أنهم يرَون جيداً، ومع أنهم قلّةٌ إلا أنهم أقوياء جداً، لكنهم يدعمون العائلة الحاكمة دائماً ولا يُخطّون ضدّها أبداً.

ليلاً.. اتّجه الطفل المحروق نحو بعض الأزقة التي ينام فيها في العادة، مرّ بِالعديد من المشرّدين قبل أن يصِل إلى نفقٍ كريه الرائحة كونَه مسلكاً للصرف الصحي، دخل عبرَه بِقدمَيه الحافيتَين وغرِق في القذارة إلى رُكبتَيه، وبعد بِضعة دقائق كان قد وصل إلى نهايتِه، وقف هناك طويلاً حتى شعر بالجدران تهتزّ ثم فُتِح بابٌ مخفي على أحدِها وظهر سلّمٌ يقود للأسفل، نزل عبر السلم فأُغلِق الباب خلفَه تلقائياً، واصل السير بِهدوءٍ كبير، وفجأةً انطلقَت العديد من السهام الحادّة من هنا وهناك، لم يجفَل الطفل المحروق وإنما قفز بِحركاتٍ خاطِفة وتهرّب من جميع السهام السريعة.

استمر في تهرّبِه من السهام حتى اقترَب منه سهمٌ غادِر يستطيع تغيِير اتّجاهِه، ومع ذلك لم يخف منه الطفل المحروق وإنما انقضّ عليه وأمسكَه بِحركةٍ سريعةٍ من يدِه ثم بدأ يُدافِع بِه عن نفسِه ضد باقي السهام، ولو رآه سكان بلدة كوبير وهو في هذه الحالة لفتحوا أفواههُم جميعاً من الصدمة لأنهم يعرِفون ذلك الطفل المحروق الضعيف وليس مِثل هذا الرياضي الرشيق.

انتهَت حملَة السهام فتقدّم الطفل المحروق نحو مسلكٍ آخر واستقبلَه هجومٌ ناري، ومع أن علاقتَه بالنار كانت سيئةً جداً إلا أنه تصرّف معها وغادرَها قبل أن يدخُل في مسلكٍ ثالث، استمرّ على هذا حتى وصل إلى الباب الأخير، توقّف قليلاً ثم قال

"عمّي، لقد وصلت"

2020/02/27 · 1,923 مشاهدة · 1085 كلمة
abox33
نادي الروايات - 2024