"للأسف، أنا أملِك ذاكرةً تصويرية لا تنسى أي شيء"

قالت تالين هذا ثم فتحَت أول صفحةٍ من الرواية، إلا أن آيدين أوقفَها قائلاً

"مهلاً"

أغلقَت الرواية ثم رفعَت رأسَها وقالَت

"ظننتُ بأنك قد وافقتَ على المسابقة، هل تُريد التراجُع الآن ؟"

هزّ رأسَه وقال

"في الحقيقة.. أنا لم أوافِق بعد"

بدأت الوشاوِش مِن كل مكان ظناً مِنهم بأن آيدين يُريد التراجع، لذلك أرادوا دعمَه للتراجُع بِكرامة

"نعم، السيد آيدين لم يُوافِق بعد"

"هذه الفتاة مُخادِعةٌ كبيرة، تُريد سرِقة أموالِنا بالخِداع"

"السيد آيدين ذكيٌّ جداًّ ولن يسمَح لها باللعِب معه"

استمَرّوا في التطبيل له حتى رفع يدَه وقال

"مع ذلك.. أنا لن أتراجَع ما دُمتِ ترغبين بمِثل هذا المسابقة، لكن.. يجب عليكِ تسليم سيفِك أولاً"

عبسَت فجأةً وسألَت بِنبرةٍ جافّة

"لِماذا ؟"

ابتسم وقال

"لأني لا أُريد أخذَه منكِ بالقوةِ عِندما تخسرين"

كان قد لاحظَ منذ البداية بأن هذا السيف يعني لها الكثير ولم ترغَب أساساً بالرهان عليه وإنما ذكرَته لأنها كانت واثقةً من الفوز، والآن طالبها آيدين بِتسليمِه لأنها ربما سترفُض تسليمَه عِندما تخسر، ولِحُسن الحظ فقد بدأ التلاميذ يصرخون عليها ويتّهِمونها بالمكر والخِداع، لذلك لم تجِد ما تفعلُه غير تسليمِه حيث نزعَت السيف بالغِمد والحِزام وسلّمتهُ لِـ آيدين، أمسكَه وكان وزنُه خفيفاً بعض الشيء مُقارنةً بالفولاذ العادي، ركّب السيفَ الأسود على خصرِه في حركةٍ استفزازية ثم أرخى عليه بِذلتَه السوداء فصار وكأنه طقمٌ مُتكامِل.

تغيّرَت تعابير تالين قليلاً لأنها خافَت أن يهرُب بِه آيدين، خاصةً أنه يملِك أموال الجميع في جيبِه، إلا أنه جرّ كُرسيّه أيضاً ونزل من المنصّة ثم جلس وقال

"حسناً.. أعطوها رُبع ساعةٍ من الهدوء لِتحفظ الرواية"

صمت الجميع فنظرَت إلى الرواية وفتحَت الغلاف وبدأت تمسَح الصفحة بِعينَيها، وبعد خمس ثوانٍ.. قلبَت الصفحة وحفِظَتها أيضاً، وهكذا.. حتى انتهَت من حِفظها في ثلاثة عشر دقيقة، سلّمَتها إلى آيدين ثم قالت

"دورُك"

أمسك آيدين الرواية وطلب من فايري الاستعداد للنسخ ثم بدأ يقلِب الصفحات بِسرعةٍ كبيرة وكأنه يتصفّحُها فقط، تغيّرَت تعابير الجميع وظن أغلبُهم بأنه سيعود للحِفظ بعد أن يأخُذ فِكرةً عن مُحتواها، إلا أنه انتهى مِن قبل الصفحات في أقل مِن دقيقةٍ وأغلق الرواية ثم قال

"انتهَيت، من سيطرَح الأسئلة ؟"

اقتربَت الأميرة فلورا وقالت

"كم سؤالاً سأطرح ؟"

أعطاها آيدين الرواية ثم قال

"إطرحي ما شئتِ فقد حفِظتُها كلها، بل وحفِظتُ حتى الصفحات المُتضرّرة أو المَلويّة وآثار الحِبر الطائش أثناء الطباعة، وتوجد أيضاً بعض الأسرار الخفية في ترتيب الكلمات، هل كاتِبها معروفٌ بإخفاء المعاني بين السطور ؟"

كان كل هذا مِن تحليل فايري، اتّسعَت عينا فلورا وصرخَت بِدهشة

"نعم نعم، هناك مسابقةٌ تُقام بعد كل إصدار، ويَلتقي الكاتِبُ شخصياً مع مَن يقوم بِحلّ أسرارِها، أخبِرني عنها رجاءً وسأكون شاكِرةً لك سيد آيدين، فأنا كنت أتمنى اللقاء بهذا الكاتب العبقري لكنه لا يلتقي بأحدٍ إلا حسب شروطِه"

تقدّم الأمير رايفوس وأخذ الرواية من يد الأميرة فلورا ثم قال

"دعي هذا لِوقتٍ آخر يا فلورا، سأقوم أنا بِطرح ثلاثة أسئلة عليكما، مُوافِقان ؟"

أومأ آيدين ثم نظر نحو تالين فوجد تعابيرَها قد تغيّرَت لأن حِفظ آيدين قد فاق خيالها كثيراً، فهي أصلاً لم تحفَظها جيداً وإنما حفِظَتها بِطريقةٍ ستهزِم بِها أي شخصٍ عادي، لكن آيدين كان خارِج توقُّعِها تماماً، ومع أنه قد يكون مُجرّد تظاهُرٍ مِنه هو والأميرة فلورا إلا أن خسارتها ستكون عظيمةً جداً إذا كان ما يقولُه صحيحاً، وبعد كل هذا التفكير.. شعرَت بأن الجميع ينتظِرون جوابها فابتلعَت ريقها وقالت بِتردّد

"نـ.. نعم"

وكانت هذه هي المرة الأولى التي تفقِد فيها ثِقتَها في نفسِها، ومع ذلك فالأوان قد فات على الندم وكل ما عليها الآن هو الدعاء بأن يكون آيدين مُجرّد مُدّعٍ وليس كما يقول، حمحم الأمير رايفوس ثم قال

"تالين.. الصفحة 15 السطر الثالث"

تردّدت قليلاً ثم بدأت تقرأ جُزءً من النص فقال الأمير رايفوس

"جيد، سيد آيدين.. الصفحة 5 الفقرة الأخيرة"

بدأ آيدين بالقراءة حتى نهاية الفقرة ثم أضاف

"توجد نقطة حِبر شارِدة قرب الكلمة التاسعة من السطر الثاني، وتوجد طيّةٌ صغيرة أسفل الصفحة، وإذا شمَمتَ مكان الطّية ستجِد رائحة عِطر الأميرة فلورا، أعتقِد بأنه عطر الأوركيد المشهور"

وبدون إدراك.. رفع الأمير رايفوس طرف الرواية وأراد شمّها، إلا أن الأميرة فلورا خطفَتها مِنه وهي تقول بِصدمة

"كيـ ... كيف عرفتَ كل هذا ؟"

ابتسم ولم يُجِبها لكن الجميع علِموا بأن ما قالَه كان حقيقياً، ما يعني بأنه كان يتغلّب على تالين مِن حيث دقّة الحِفظ والتي تعتمِد في الأساس على دقّة المُلاحظة، وهذا جعل تالين تعضّ شفتَها السفلى وتفقِد ما تبقّى لديها مِن ثقةٍ في النفس.

فتحَت الأميرة فلورا رِواتها مِن جديد ثم قالت

"تالين.. الصفحة 63 السطر الرابع"

صمتَت تالين طويلاً وضاعَت تماماً لِأنها لم تستطِع التذكّر بِسبب الضغط النفسي الذي وضعها فيه آيدين، وبعد دقيقةٍ من الصمت.. بدأ آيدين يقرأ في مكانِها حتى أنهى الفقرة وأعطى بعض الملاحظات مرةً أخرى عن الصفحة والصفحة المقابِلة لها، ابتسمَت فلورا وقالت

"هل نُكمِل أم نتوقّف هُنا ؟"

نظر الجميع نحو تالين التي كان وجهُها أحمر اللون ويبدو بأنها لم تعُد تعيش بينَهم لأن خسارتَها كانت واضِحة، ومع ذلك.. تماسكَت وقالت

"لـ.. أنا لم أخسر بعد"

قالت فلورا

"جيد، إذا أجبتِ هذه المرة فسيكون تعادُلاً بينكما ما لم يُجِب السيد آيدين على السؤال الثالث أيضاً"

كان آيدين قد أجاب على سؤالَين من أصل ثلاثة، بينما أجابَت تالين على سؤالٍ واحدٍ فقط، لكن كِلَيهِما يملِكان فُرصة واحِدة، و آيدين لا يبدو كمَن سيخسر في السؤال الثالث، لذلك كانت مُحاولة تالين عبثيّةً ولا جدوى مِنها، ولولا أنها لا تُريد خسارة سيفِها لما أكملَت هذا الصراع البائس.

بعد دقيقتَين.. انتهَت المُسابقة فوقفَت تالين وشدّت قبضتَيها ولم تجرؤ على النظر في وجه آيدين لأنها قد خسِرَت أمامَه بِطريقةٍ مُهينة، ومع ذلك لم تبدُ كمَن يرغب بِالاستسلام، لذلك قالت بِكلماتٍ مُتباعِدة

"أنا ... أريد ... استرجاع ... سيفي"

نظر إليها الجميع باستغرابٍ لكنّهم لم يجرؤوا على قول أي شيء، ليس لأنهم صاروا كُرماء معها وإنما بِبساطةٍ لأنها كانت تبكي، نظر إليها آيدين بدون إظهار أية مشاعِر، وضع يدَه على سيفِه ثم قال

"إذا أرجعتُه لك بِسبب دموعِك فأخشى أن يبكي جميعُ الحاضرين هُنا حتى أُرجِع لهُم أموالَهم"

صُدِمت تالين بهذا الجواب المنطقي ولم تعلَم ماذا تقول، وما زاد الطين بلّةً هو قول الأمير سامهي

"همممم، الآن فقط فهِمتُ ما قُلتَه سابقاً عن التصرّف بِموضوعية"

بعدَه.. بدأ الجميع يُدلون بأقوالهم وبدأ أحدُهم يتباكى ويُقلّد كلِماتها وهي تطلب سيفَها، وهذا جعلَها تمسَح دموعَها وتقول بنبرةٍ تهديدية

"هذا السيف يعني الكثير لي، أرجِعه أو سأخبِر الجميع"

ابتسم آيدين ثم قام واعتلى المنصة من جديد، استدار نحوَها ثم قال

"ليس بيني وبينَك أية أسرار، كما لا أدين لأحدٍ هنا بأي شيء، فنحن جميعاً تلاميذ جُدد وهذا هو يوم لقائِنا الأول"

بدأ المؤيِّدون بِالصراخ كالعادة

"نعم نعم، لا يوجد بينَنا أية علاقة"

"كما قال السيد آيدين ... نحن جميعاً تلاميذ جُدد"

"نعم، فالسيد آيدين تلميذٌ جديد مِثلَنا، هآآآآه ؟ ... ماذا ؟ .... أنت تلميذ ؟"

2020/03/02 · 914 مشاهدة · 1060 كلمة
abox33
نادي الروايات - 2024