"على الأقل.. لن أُذيبَ جُثّتَك بالحِمض حتى تحصُل على دفنٍ لائق"

بِجفاءٍ ونبرةٍ خشِنة.. ودّع آيدين مَن كان يدعوه جدّي في يومٍ من الأيام، وكانت قِصّتُهما درساً أليماً يُضاف إلى تجارُبِه، وبالتأكيد.. لَن يقَع في مِثل هذا مُستقبلاً، ودّع شويلّو ثم سلَك طريقاً مُلتوِياً نحو المدينة بعد أن غيّر شكلَه إلى يارني، لكنّه غيّر ثِيابَه إلى قميصٍ له قلنسوةٌ وغطّى بِها رأسَه، ركِب عربة أجرةٍ واتّجَه مُباشرةً إلى غَرب أرَوان حيث توجَد المِنطقة الخاصة بِدولة تاليمار، وكان قد قضى فيها بِضعة أيامٍ كمُشرّد ويعرِف الكثير مِن خباياها.

تجوّل في أسواق المِنطقة لِتمرير الوقت حتى وصل الليل، حينَها.. بدأ مُهمّتَه الأولى والتي لم تكُن لها أي علاقةٍ بِالانتقام، وهو أصلاً لم يأتِ للانتقام وإنما أتى لِزيارة عِصابةٍ صغيرةٍ تستوطِن أحياء مِنطقة تاليمار، وكانت هذه العِصابة مسؤولةً عن قتل وتشريد الكثير من أصحاب المحلّات التجارية الصغيرة لِصالِح عائلةٍ غنية تُريد السيطرة على السوق، ولِأن آيدين كان يجمَع المعلومات في تِلك الفترة التي قضاها مُشرّداً فقد علِم الكثير عن هذه العِصابة مِن رئيسِها إلى صِغار أفرادِها.

عِندما هدأ الليل.. اتّجه آيدين إلى زِقاقٍ ضيّق له نِهايةٌ مسدودة، سلك الزّقاق ثم وقف أمام بوابةٍ صغيرةٍ وبدأ يستمِع للأصوات الصاخِبة القادِمة من الداخِل، ومع أن عدَد أفراد العِصابة ليس أكبر مِن عشرين شخصاً إلا أنهم جميعاً في مستوى النشاط، وزعيمُهم هو الوحيد الذي دخل مُستوى الطمع، لذلك سيكون القضاء عليهِم أسهل بِكثيرٍ على آيدين.

لم يأتِ آيدين إلى هذه العِصابة للانتقام لِمَن قتلوه من التّجار الضّعفاء، ولم يأتِ للانتقام لِنفسِه لأنه لم يلتقِ بهِم مِن قبل ولا تجمَعُه بهِم أية علاقة، السبب الوحيد الذي جعلَه يستهدِفُهم هو معرِفتُه بِتاريخِهم، حيث أتَت هذه العِصابة عبر ميناء دولة ساردينا، لكن المسؤول عن إدخالِهم قد طردَهم مِن المِنطقة الشمالية وحرّم عليهِم العودَة عِندما اكتشَف بِأنّهم قد أتوا مِن قبيلةٍ نائيةٍ لا تُسجّل أبناءَها في نِظام الهوّية العالمي، وهذا النوع مِن الأشخاص يُعتبرون أعداءً للنظام العالمي ولا يُرحّب بهِم أحدٌ على أرضِه، خاصةً عِندما يكونون مجموعةً من المُجرِمين الهاربين من القانون.

كل هذه المعلومات.. جعلَتهم مِن بين أفضل الأهداف لِـ آيدين، خاصةً أنهُم لا يَخرجون إلا قليلاً وفي عزّ الليل، وإذا خرجوا يلبِسون الأقنِعة حتى لا يتعرّف عليهِم أحد، لذلك لا أحد يعرِفُ وجوهَهم إلا القلّة القليلة، ما يَعني بِأن سرِقة وجوهِهم ستجعَل آيدين يملِك العديد مِن الوجوه المجهولة والتي يستطيع مِن خِلالِها التجوّل بِدون مشاكِل في أرَوان والمناطِق الخمسة، خاصةً أن فايري تُعطي لكل وجهٍ هُويةً خاصة بِمعلوماتٍ وهمية مِثل التي أعطَتها لِـهوية آيدين أول مرّة.

أخرَج آيدين قنّيناتٍ معدنية مضغوطة تحتوي على غازٍ مسموم، ركل الباب بِقوّةٍ ثم قذف القنّينات إلى المِرآب المُغلق، سحب الباب ثم ربطَه بِسلسلةٍ معدنيةٍ حتى لا يخرُج أحدٌ مِنهم، وبعد هدوء الصّخب.. لبِس القِناع ثم دخل إليهِم لإتمام العمليّة.

.....................

صباح يوم غَد.. كان آيدين في فُندقٍ صغيرٍ قريبٍ مِن مدرسة أرَوان بعد أن اتّخَذ شكل أحد أفراد تِلك العِصابة المجهولة، سجّل نفسَه بهويةٍ مجهولةٍ أيضاً فصار شخصاً آخر لا يُمكِن ربطُه بِـ آيدين، خاصةً أنه كان يبدو مُجرّد مُواطنٍ بِما أن جسدَه لا يُسرّب أي هالة، كان في وضعية تأمُّل مُنذ بِضع ساعاتٍ بعد أن شعَر بِمركز الطاقة الذّهنية الخاص بِـ شويلّو، ومع أنه كان يُحسّ بِه إلا أنه لم يستطِع التحكّم فيه أو ربطِه مع فايري، استسلَم أخيراً وفتح عينَيه ثم فتح المتجَر وبدأ يبحَث عن ألواح المُشاهدَة، سألَته فايري

[تستطيع مُشاهدة ما تُريد مِن خِلالي دون الحاجة إلى ألواح المُشاهدَة]

قالت هذا فظهر نِظام المُشاهدة في ذِهنِ آيدين، عبس وكاد يلعَنُها لأنها لم تُخبِره عن هذه الخاصية مِن قبل، تنهّد وهدأ ثم قال

[ماذا يقولون عن شويلّو ؟]

بحثَت قليلاً ثم عرضَت مُختصراً للأخبار المنشورة حيث سيُقيمون له جنازةٍ مهيبةً بعد ثلاثة أيام بِحضور الملوك الخمسة وعددٍ كبير من الشخصيات العظيمة التي تعرِف مَن يكون، لكنّهم قالوا بِأن شويلّو قد مات طبيعياً ولم يُقتَل، قال آيدين بِعبوس

[الخُبثاء، قتَلوه والآن سيحضرون جنازتَه]

صمت قليلاً ثم سألها

[كيف أستطيع رفع التسجيلات المُصوّرة على الشابِكة لِيراها سكّان تحالُف الخمسة زائد واحد ؟]

قالت

{يُمكِنني تجهيز شريطٍ مُصوّرٍ ورفعِه، لكن.. إذا أردتَ أن يصِل إلى جميع سكان التحالُف فيجِب عليك إنفاق بعض المال}

وافق آيدين ثم تذكّر شيئاً فقال

[أخبرتِني مِن قبل بأنكِ تُسجّلين كل شيءٍ أراه، هل هذا صحيح ؟]

.....................

بعد ثلاثة أيام.. تمّ تنظيم جنازةٍ لا مثيل لها في ساحةٍ احتشَد فيها أكثر مِن مليون شخص، وُضِع نعش شويلّو فوق مِنصّةٍ مُرتفِعةٍ وحولَه كراسي فخمة يجلِس عليها المُدير والملوك الخمسة، وأمام المنصّة أكثر مِن ألف كُرسي للشخصيات الهامّة، ومع أنها كانت جنازةً إلا أن الناظِر بِعين العَقل سيجِد بأنها أقرب مِن مِهرجانٍ أو حفل.

صعد أحر الرُّهبان على المِنصّة ثم بدأ يُلقي بعض العِبارات غير المفهومة ويقوم بِحركاتٍ غريبةٍ لأكثر مِن عشر دقائق، نزل أخيراً فوَقف المُدير وألقى بعض الكلِمات اللطيفة عبر مُكبّرات الصوت، قام باقي الملوك بِنفس الشيء أيضاً قبل أن تعود الكلمة إلى المُدير فقال

"في أيامِه الأخيرة.. كان يعمَل مع الدول الخمسة على مشروعٍ جديد يمنحُها حرّياتٍ اقتصاديةٍ أكبرَ مُقابِلَ دعمِهم لِمدرسة أرَوان وتلاميذِها، وأنا أنوي إكمال هذا المشروع تخليداً لِحُلمِه القديم، لذلك ستُرفَع الضرائب عن الدول الخمسة لِعَشر سنين، وسنفتَح باب خوصَصة الأراضي والمُؤسّسات، وهذا سيخلُق عشرات الآلاف مِن فُرص الشّغل الجديدة، أما فيما يخصّ مؤسّسات أرَوان مثل الشرطة والمحطّة فستكون تحت إدارةٍ مُشتركَة، ونفس الشيء بالنسبة لِـ ..."

واصَل حديثَه فعلِم كلُّ عاقلٍ بِأن المُدير قد تلقّى صفقةً كبيرةً جداً من الدول الخمسَة أمام كل هذه التنازُلات، والتي كان شويلّو ضدّها لأنها ستقضي على هيبَة أرَوان كمدينةٍ مُستقلّةٍ وتجعلَها مُجرّد مدرسةٍ لا سُلطَة لها، وهذا ما فهِمَه آيدين أيضاً حيث كان يُشاهِد البثّ المُباشِر في ذِهنِه عبر فايري، تنهّد ثم قال

[أطلقيه يا فايري]

قال هذا ثم نظر إلى الباب الصغير خلف المدرسة والذي دخل مِنه مع شويلّو أول مرة، اقترَب مِنه واستخدَم بَصمة الطاقة الخاصة لِـ شويلّو وبعض الأمور الأخرى التي حصل عليها مِن ذِكرياتِه، فتح الباب ودخل إلى السّرداب ثم فتح الباب الثاني أيضاً ودخل إلى القاعة، توجّه إلى الخِزانة وفتحَها ثم سحَب كل مُحتوياتِها إلى خِزانتِه الفضائية التي يَمنحُها له المتجَر، نظر إلى زاويةٍ مُعيّنةٍ وكانت فيها خِزانةٌ مَخفيةٌ لا يعلم عنها إلا شويلّو، فتحَها وكان فيها صندوقٌ صغير، أخذَه هو أيضاً ثم فتح باباً صغيراً بِالقُرب مِن الخِزانة ونزَل إلى الأسفل حتى وصل إلى الزّنازين، وهُناك كان مُحبّ القِمار مُقيّداً بالسلاسِل.

في هذا الوقت.. كان آيدين يستخدِم وجهاً غير معروف، لذلك لم يتفاجأ مُحب القِمار عِندما رآه، لم يُزعِج آيدين نفسَه بِه وإنما عاد أدراجَه ثم أخرج قنّينةً معدنية مضغوطة مليئةً بِالغاز المسموم، فتحَها ثم تركَها تملأ الطابق تحت الأرض لِيختَنِق مُحب القِمار كما اختنقَت روشان الصغيرة وأمّها، عاد للأعلى ثم خرَج مِن حيثُ دخل، وكان كل هذا في أقلّ مِن رُبع ساعة.

في هذه الرُّبع ساعة.. كانت ساحة الجنازة قد انقلبَت رأساً على عقِب، عبس المُدير والملوك الخمسة عِندما رأوا بِأن شيئاً قد شغَل الحاضرين عن كلِمة المُدير، والغريبُ هو أن كل مجموعةٍ صغيرةٍ كانت مُجتمِعةً على أحد ألواح المُشاهدَة، فجأةً.. أتى أحد أتباع المُدير وفي يدِه لوح مُشاهدةٍ كبير نِسبياً، وكان التابِع يرتجِف وهو يقول

"سيّدي ... شاهِد هذا"

أمسَك المُدير اللوح وبدأ يُشاهِد فاقتربَ مِنه الملوك الخمسة للمُشاهدة معاً، وكان على اللوح تسجيلٌ مُصوّر يعرِض صُوَر الملوك الخمسة مع كلِماتِهم التي قالوها بعد مُطاردَة شويلّو، وكلّما تغيّر الصوت تغيّرَت الصورة أيضاً حسب كل ملِك

.......................

ملك فلوريم : "لَن ينجو بالتأكيد، لكنّي أخشى أن تحدُث موجةٌ من المشاكِل"

ملك ساردينا : "وماذا إذن ؟ ... إذا مات هو فسيكون أتباعُه في أيدينا، المُهم هو أن نتفاهَم نحن حول طريقة التحكّم فيهِم"

ملك تاليمار : "آآآآه ... ذلك الوغد كان شاباًّ قوياً عِندما كان جدّي مُجرّد طفلٍ صغير، لطالما أوصاني ألا أعبَث معه"

ملك الجبال الصفراء : "هيهيهي لقد كان يعتقِد بأنّنا لا نعلَم بِشأن مرَضِه"

ملك فلوريم : "للأسف.. لا نستطيع مُطاردَته أكثر، أتمنى أن يسقُط في الطريق قبل أن يصِل"

ملك فلوريان : "لقد انتهى زمانُك أيها العجوز شويلّو، الغَدر يفتِك بالأقوياء أيضاً"

.......................

وبعد انتِهاء حديثِهم.. يظهَر شويلّو وهو مُغطّى بالدّماء والجروح، لِيبدأ حِوارُه مع آيدين، لكن تم إخفاء اسم آيدين كما تمّ تشويه صَوتِه حتى لا يعلَم أحدٌ مَن يكون

.......................

شويلّو : "****** ... أنا سعيد ... لأنك ... مَن سيأخُذ ... حياتي"

آيدين : "إذن فأنت تعترِف بِغدرِك بي ؟"

شويلّو : "لم أغدِر بِك ... لكنّي ... لم أوقِف المُدير ... لأنه العقل المُدبّر"

آيدين : "تُلصِق التّهمة بِالمُدير حتى وأنتَ على وشك الموت ؟"

شويلّو : "لقد ... غدَر بي ... أيضاً"

آيدين : "مَن فعل بِك هذا ؟"

شويلّو : "الملوك الخمسة، أردتُ ... التصالُح معك، ... أتَيتُ للبحث ... عنك في دولة ... الجبال الصفراء، لكنّهم كمَنوا ... لي لِأن المُدير ... قد نسّق معهُم"

شويلّو : "أقتلني ... أقتل المُدير ... لكن ... أرجوك ... دَع المدرسـ.."

آيدين : "على الأقل.. لن ****** جُثّتَك ****** حتى تحصُل على دفنٍ لائق"

.......................

اِنتهى التسجيل المُصوَّر هُنا وكان مُستخرَجاً بِأكملِه مِن ذاكِرة فايري بعد إجراء بعض التعديلات عليه مِثل إضافة صور الملوك وحذف أي شيءٍ يفضَح هوية آيدين.

بدأت يدا المُدير ترتجِف واسودّ وجهُه حتى كاد يُغمى علَيه، تمالَك نفسَه ونظر إلى الملوك الخمسَة فكانَت تعابيرُهم أكثر قُبحاً مِنه لأن صاحِب التّسجيل كان معهُم دون أن يشعروا بِه، وإلا فكَيف استطاع سرِقة حديثِهم وهُم في وسط الطريق ؟

تنهّد حاكم تاليمار ثم قال

"لا أدري ما سيحدُث بعد هذا، لكنّه بالتأكيد سيكون وقتاً عصيباً"

2020/03/07 · 813 مشاهدة · 1465 كلمة
abox33
نادي الروايات - 2024