الفصل الأول: ملل الإمبراطور
الضوء الخافت للشمس تسرّب ببطء من خلف الستائر الحريرية الثقيلة، كما لو أنه متردد في دخول قاعة العرش الكبيرة. الهواء بارد رغم حرارة الصيف، كأن الحجارة الرمادية التي بُني بها القصر امتصّت كل حرارة الحياة كما امتصّت روحي، منذ زمنٍ لا أتذكّره.
كنت أجلس وحدي على طاولة طعام تكاد تكسر من فرط ما وُضع عليها من أطايب الأكل. لحم غزال مشوي، حساء تمّره يُقال إنه من أرض بعيدة، فواكه نادرة لم أرَ لها مثيلاً من قبل. كل شيء هنا مثالي... كأنهم يحاولون جاهدين إرضائي، أو على الأقل إلهائي.
لكن...
ما الفائدة؟
أنا الإمبراطور. حاكم هذه الأرض الشاسعة، وقائد آلاف الرجال. كلمة مني قد ترفع مدينة إلى المجد، أو تُسقط إمبراطورية في حفرة النسيان.
لكن داخلي... فراغ.
كل شيء ممل.
مُكرر.
كأنه مسرح، وأنا الممثل الوحيد الذي لم يُخبره أحد أن العرض قد انتهى منذ زمن.
رفعت قطعة من اللحم، تأملتها لبرهة، ثم أعدتها مكانها دون أن أذوقها. لا جوع لدي، فقط العادة تدفعني للجلوس هنا كل صباح.
عادةٌ تافهة.
كانت السماء ما تزال خجولة في إشراقها، والضوء الناعم جعل ظلّي يتمدد فوق الطاولة كوحش كسول فقد شهيته للصيد.
مر الوقت، أو ربما لم يمر. لا شيء يفرق، فالأيام هنا متشابهة.
دخل الخادم وكأنه مزوّد بساعة داخلية تعرف بدقة اللحظة التي أنتهي فيها من الطعام. أخذ الأطباق الصامتة، انحنى، وغادر دون أن ينبس بكلمة.
لحظات وظهرت خادمة شابة، تحمل بيدها صينية عليها أطباق حلويات أنيقة، من تلك التي يحبها النبلاء. وضعتها أمامي برفق.
نظرت إلى الأطباق.
"هذا... مقرف."
كانت كلمتي قاطعة، باردة. لا قسوة فيها، فقط مللٌ نقيّ، خالص لا تشوبه مشاعر.
الخادمة تجمّدت في مكانها. ارتبكت عيناها، وتلعثمت شفتيها.
"آسفة، سيدي... سأأخذها فورًا."
أومأتُ برأسي بلا اهتمام. يبدو أنها ظنت أنني أعبّر عن رأيي في الحلوى. لكنها مخطئة.
"لا... لم أقصد الحلوى. بل هذه الرواية القمامة."
رفعت كتابًا كنت أقرأه طوال فترة الإفطار. غلافه مزخرف برسومات داكنة لمدينة تشتعل بالنار، وسماء يغمرها السواد.
ترددت الخادمة، ثم سألت، بصوت يحمل حذرًا ممزوجًا بالفضول:
"ولماذا يا سيدي؟ أليست تلك الرواية من أحبّ القصص في المملكة؟"
أغلقت الكتاب ببطء، وضغطت عليه بكفيّ.
"تحكي الرواية عن مستقبل الإمبراطورية بعد مئة عام. تتحدث عن نهاية عصرنا... تقول إن الشياطين سيحكمون الأرض، وأن بطلاً سيظهر لمحاربة ملكهم. لكنه في النهاية... يموت."
توقفت لحظة، وعيناي تحدّقان في اللاشيء.
"أعجبتني الرواية... دقتها، وصفها، كأنهم يرون المستقبل حقًا. وهذا أيضًا سبب كرهي لها."
صمتنا. كانت تنظر إليّ بعيون تحاول الفهم.
"لكن... يا سيدي، أليست مجرد قصة؟ كتبها أحد الكتّاب كي تختلف عن النهاية السعيدة المعتادة؟"
ابتسمت، أو هكذا ظننت. شعرت بشفتيّ تتحركان بسخرية.
"هذا ما يظنّه الحمقى. أنهم يحبّون الحزن فقط لأنه مختلف. يكرهون السعادة لأنها متوقعة. لكن ما لا يفهمونه... أن الاختلاف ليس فضيلة بحد ذاته. وأن السعادة ليست ضعفًا. بل الضعف الحقيقي... هو التعلق."
سكتُّ لحظة ثم تابعت، ونبرة صوتي تزداد قسوة:
"بطل الرواية مات... ليس لأنه لم يكن قويًا، بل لأنه... أحب. عندما أخذ ملك الشياطين حبيبته رهينة وقتلها أمامه، انهار. لم يمت على يد الشيطان، بل على يد مشاعره."
أدرت نظري نحو الخادمة.
"هل تفهمين؟ المشاعر... هي السجن الحقيقي."
أطرقت الخادمة رأسها، ثم غادرت بصمت.
---
سحبت كرسيي بعيدًا عن الطاولة، وذهبت إلى النافذة.
القصر كبير، مخيف بكثرة أروقته. ومع ذلك، لا أحد فيه يجرؤ على الاقتراب مني إلا حين يُطلب.
نظرت إلى الحديقة. كانت مرتبة بدقة، كأن الطبيعة نفسها خضعت لقوانين الإمبراطورية. الأشجار مقصوصة بشكل هندسي، الزهور مرتبة حسب ألوانها، والنوافير ترقص على لحن صامت.
كل شيء مثالي... ولهذا ممل.
شربت من فنجان القهوة. مرة، سوداء، بلا سكر. كما أحبّها.
الناس يشربون القهوة ليستمتعوا بها، أما أنا فأشربها لأتأكد أنني ما زلت أكره الطعم. ما زلت موجودًا.
جلست على سريري الكبير، المغطى بأقمشة حريرية ناعمة، كأن جسدي الملكي لا يُفترض أن يشعر بأي خشونة أو ألم.
لكن الحقيقة... أن داخلي كله خشن، مؤلم، مليء بشظايا الوعي.
أغمضت عينيّ، شعرت بثقل في جفوني، كأن روحي نفسها قررت أن تنام.
---
استيقظت.
لكن شيئًا ما كان مختلفًا.
الغرفة... ليست كما كانت. الستائر حمراء بدلًا من الرمادية، والضوء أكثر دفئًا. لا صوت، لا خدم، لا حرس، لا شيء.
وقفت، خطوت إلى الباب، وفتحته.
ورأيت نفسي.
كان "أنا" الآخر يجلس على العرش.
ابتسم، وقال لي:
"أهلًا... بالإمبراطور."
"من أنت؟"
"أنا أنت. لكن بلا سلطتك، ولا تاجك، ولا طعامك الفاخر... أنا أنت عندما كنت إنسانًا فقط."
"أوه... سخيف."
"بل صادق."
اقتربت منه، نظرت في عينيه. كانت عيوني، لكن فيها شيء لم أعد أملكه... اللمعان.
قال:
"أتعرف لماذا تشعر بالملل؟ لأنك قتلت كل ما يمكن أن يجعلك إنسانًا."
"السلطة؟"
"لا. المشاعر."
سكتُّ.
"قتلت الحب، والصداقة، والخوف، والدهشة... وسجنت نفسك في قصر. الآن... لا شيء يُدهشك. لا شيء يُحرّكك."
"أردت أن أصبح قويًا."
"فأصبحت ميتًا وأنت حي."
تقدّمت نحوه، ثم اختفى.
استيقظت من نومي الحقيقي، والعرق يبلل جبهتي. الشمس قد أشرقت تمامًا، والغرفة استعادت برودتها الملكية.
نظرت إلى الكتاب الذي كنت أقرأه... فوجدت صفحة جديدة لم أفتحها من قبل.
كان فيها سطرٌ واحد:
"حتى الإمبراطور، حين يقتل مشاعره... يقتل نفسه."
ابتسمت.
هذه المرة... ابتسامة حقيقية.
---