الفصل الثاني : سقوط الملك
----كان الصداع كالمطرقة تنهال على جمجمتي دون رحمة. ارتجّ كياني بأكمله، وتبعثر وعيي كما لو أنني أُسقطت من السماء على أرضٍ غريبة.
ما هذا؟ لماذا أشعر بهذا الألم؟ ألم أكن للتو على مائدة الطعام؟ تناولت الإفطار، ثم غمرني النعاس فجأة... هل... هل دُسَّ شيء في طعامي؟
من سيفعل ذلك؟ من الذي يجرؤ على تسميم الإمبراطور نفسه؟
لقد كنت طاغية، نعم... لكنني كنت طاغية لا يُقهر. حكمي امتد لعقود، إنجازاتي سُطِّرت على ألواح التاريخ بدماء أعدائي. من بقي ليعادي الإمبراطور؟ لقد قضيت عليهم جميعًا...
فمن تجرأ؟
وسط ألم رأسي المتفاقم، بدأ الضوء يلوح أمامي، لا كضوء شمس، بل كوميضٍ أبيض يتراقص على أطراف بصيرتي. هل هذا ما يُسمونه ضوء نهاية النفق؟ هل... هل متُّ فعلاً؟
غمرني صمتٌ كثيف، وكأنني أُسحِبت من قلب العاصفة إلى عمق محيط ساكن. مشاعر متناقضة اجتاحتني؛ هل أُحزن على حياةٍ مريحة... ومملة؟ أم أرحب بمصيرٍ مجهول ربما يحمل شيئًا مختلفًا؟
ثم...
"أبي... أبي، استيقظ."
صوت ناعم... طفولي. ليس صوت ملاك ولا شيطان، بل صوت بشري... حقيقي.
فتحت عيني ببطء، كأن جفوني صارت من رصاص. تشكّلت رؤاي تدريجيًا؛ سقف خشبي بسيط فوق رأسي، وشعور غريب يسري في أطرافي.
ثم رأيته.
طفل.
شعره أسود، تتخلله خصلات زرقاء خفيفة، كأن الليل غازلته أضواء الشفق. عيناه واسعتان، تشعان بلمعان غامض كسماء مقمرة فوق بحر ساكن.
جماله الأرستقراطي لا يدع مجالاً للشك... هذا الطفل ليس من عوام البشر.
لكن...
هل قال "أبي"؟
"أبي! لقد استيقظت!"
ابتسم.
ابتسامة ناعمة، ملائكية... غير مُدرَكة.
"من... من هو والدك؟"
خرجت الكلمات من فمي دون تفكير. لم أستطع منع نفسي. هذا لا يبدو كواقع.
في حياتي الماضية، لم يكن لأحد أن يجرؤ على مناداتي بـ"أبي".
وإن كانت هذه الحياة ما بعد الموت، فكيف يكون لي طفل؟
"بطبع أنت والدي! هل فقدت ذاكرتك؟"
ضغطت على نفسي لأجلس، لكن ألمًا حادًا اخترق صدري. الطفل أمسك بي بلطف.
"لا، أبي، لا تتحرك. الطبيب قال إنك بحاجة إلى الراحة. سأُحضِر الخادمة."
غادر الغرفة بسرعة، خطواته خفيفة كنسمة، وأنا بقيت في مكاني، أحاول جمع أجزاء عقلي المتناثرة.
دخلت الخادمة، تحمل صينية بها قوارير زجاجية تحتوي أعشابًا تُبثُّ منها روائح نفاذة.
"ما هذا؟"
"دواؤك يا سيدي."
دواء؟ إذًا هذا الجسد مريض؟
"ما مرضي؟"
ارتبكت قليلاً، لكنها أجابت:
"السل، يا سيدي."
السل... مرض يُنهك الجسد حتى ينهار. لم يكن يبشّر بالخير في الماضي، ولا أظنه كذلك الآن.
"قال الطبيب إن حالتك ستتحسن خلال الأشهر القادمة."
لم أُجب. هل موتّ لكي أُبعث من جديد في جسد يحتضر؟
"أحضري لي مرآة."
جلبت المرآة، وقدمتها إلي. نظرت.
وجه شاحب، فك نحيل، شعر أسود مزرق، وعينان واسعتان...
يشبه الطفل.
"هل... هل روحي نُقلت إلى هذا الجسد؟"
ذهلت من الفكرة. لكن لا شيء آخر يُفسر ما يحدث.
ثم...
"لقد استيقظ والدي. يمكنكم الدخول الآن!"
دخل عدة رجال. بعضهم يرتدون دروعًا بألوان داكنة، وآخرون يلبسون عباءات الصحراء. بدا أنهم يتبعون فصيلًا أو جيشًا.
ثم انحنوا جميعًا بزاويةٍ تامة، احترامهم لا يُشك فيه.
"نُحيي الملك ليوكرد."
ملك؟ مجددًا؟
نظرت حولي للمرة الأولى بتمعن.
غرفة فسيحة، ذات هندسة دقيقة. الجدران مطلية بالأبيض، الحواف مُزينة بنقوش خافتة تشبه رموزًا قديمة. السرير فخم، لكنه لا يضاهي سرير إمبراطوريتي.
استنتاج واحد... أنا في قصر نبيل، أو ربما ملك بالفعل.
تقدم رجلٌ مُسن، لحيته بيضاء كثيفة.
"مُبشِّر أن نراك تتحسن يا جلالة الملك."
أومأت برأسي دون أن أنطق.
"جئنا بأخبارٍ من الخان الشمالي."
سكت قليلاً، ثم تابع:
"يبدو أن الخان يود التحالف معنا لمهاجمة إمبراطورية الشمس."
انقبض قلبي.
إمبراطورية الشمس؟ أليست... إمبراطوريتي؟ هل ما زالت قائمة؟ هل هذا زمن آخر؟
تكلم رجلٌ آخر، شاب يرتدي نظارات مستديرة، يبدو كأنه مستشار:
"كانت الإمبراطورية عظيمة منذ قرن في عهد إمبراطور الشمس، لكن الأمور تغيّرت. منذ ظهور الغابة الشيطانية، أصبحت المملكة محاصرة بين المخلوقات والجنون."
قرن؟
سقطت الكلمات عليّ كسقوط مطر الشتاء على جسدٍ محموم.
مرَّ مئة عام.
أنا... أنا كنت إمبراطور الشمس.
أغلقت عيني للحظة، والوجوه من حولي تنتظر.
كل شيء يتبدل.
"علينا دراسة الأمر جيدًا."
نظرت إلى المستشار الشاب.
"أنت..."
"نعم، سيدي؟"
"ستُعِد لي تقريرًا مفصلًا بكل صغيرة وكبيرة عن الوضع العسكري، السياسي، والعقائدي."
"حالًا يا سيدي."
أومأت.
"غادروا الآن، أحتاج للراحة."
"نراك لاحقًا، جلالتك. ونراك لاحقًا، سمو الأمير كلاود."
هكذا عرفت اسمه.
كلاود.
الطفل ظل بجانبي بعد خروج الجميع. نظر إلي بعينيه اللامعتين.
"أبي، هل أنت بخير؟"
صوته يحمل شيئًا لا يمكن وصفه... ربما هو الحنان؟ ربما هو البراءة؟
طفل صغير، في عالمٍ متقلب، يناديني أبي.
"أنا بخير... يمكنك أن تتركني قليلًا."
أومأ برأسه وغادر.
بدأت الخادمة تجمع الأدوات.
"ابقِ هنا. لدي أمرٌ لك."
توقفت، واستدارت إلي.
"نعم، سيدي."
نظرت نحو السقف، ثم أغمضت عيني. شعرت بشيءٍ لم أشعر به منذ عقود... الإثارة.
ذلك الشعور الذي يأتي حين تجد نفسك وسط خريطة مجهولة، أمام حربٍ غير متوقعة، وفي جسدٍ غريب بعالمٍ لا تعرف عنه شيئًا.
هاه... كم اشتقت لهذا الشعور.
ربما هذه ليست النهاية.
– سأخبرك بسرّ.
– سِر؟
ردّت الخادمة بدهشة ارتسمت على وجهها، صوتها متردد، يكاد يُخفي قلقًا لم تتجرأ على إظهاره.
– نعم، ولا يجب أن يعرف به أحد.
– كما تشاء يا سيدي.
كنت جالسًا على السرير، بينما جلست هي على الكرسي المقابل، ظهرها مستقيم، عيناها خاضعتان، وكأنها تدرك أن أي خطأ، مهما صغر، قد يكون الأخير لها. في حضور الملوك... حتى الأنفاس تُقاس.
نظرت إليها بعمق، وقلت بهدوء:
– ما اسمك؟
– ليزا، سيدي.
– ليزا... يبدو أن هناك فجوة في ذاكرتي. أحتاج مساعدتك. لكن عليكِ أن تحفظي الأمر سرًا... حتى عن الطبيب.
– هذا... خطر. ألا يجدر بنا إبلاغ المشفى الملكي؟
– لا. في هذا النوع من الأمور، لا أثق إلا بي. فقط، افعلي ما أطلب.
ترددت قليلًا، ثم أومأت برأسها موافِقة، على مضض.
– من أنا؟
ألقى السؤال بثقله في الغرفة. كان الصوت منخفضًا... لكنه اخترق قلبها.
– عذرًا؟
– أجيبي. كما قلت لك.
أخذت نفسًا عميقًا ثم قالت:
– أنتَ الملك ليوكرد، الحاكم الأعلى لمملكة موريغين.
موريغين؟
الاسم اشتعل كالشرارة في ذاكرتي. لم يكن غريبًا تمامًا. في حياتي السابقة، كنت قد سمعت به... مملكة هامشية في الإقليم الصحراوي، بالكاد تُذكر بجانب إمبراطوريتي السابقة.
لكن الآن... أنا داخلها. بجسد ملكها.
هل أعيد إحيائي؟ من الذي جرؤ على فعل هذا؟ ولماذا هنا بالذات؟
تساؤلات كثيرة التهمت رأسي، لكن وسط الضجيج، كان هناك إحساسٌ مألوف...
هذا... أشبه برواية.
ضحكت في سري. إن صحّ الحدس... فأنا لم أُبعث فقط، بل نُقلتُ لعالم قصة قرأتها سابقًا.
هذا عبثي... لكن ممتع.
– أخبريني، ما وضع المملكة الآن؟
...
بدأت ليزا تشرح، ما تعرفه على الأقل.
الملك ليوكرد، الحاكم الحالي لموريغين، تولى العرش في عمر الثانية والعشرين.
خلال أربع سنوات قصيرة، ازدهرت التجارة، وتوثقت علاقاته مع القبائل الصحراوية، وكسب احترام شعبه.
لكن، قبل شهر... أصيب بمرضٍ غامض. لا علاج له، ولا تفسير.
إذن، صاحب هذا الجسد كان محبوبًا؟ ناجحًا؟ صغير السن ولامع؟
القدر يضعني في جسد شخصٍ يحبه الناس...
أمر مثير للسخرية، بعد حياة كاملة قضيتها مكروهًا وخائفًا مني.
عن إمبراطورية الشمس؟ ليزا لم تعرف شيئًا. لم أُفاجأ.
بينما كنت أغوص في شظايا الأفكار، دوّى طرقٌ ثقيل على الباب.
– ادخل.
دخل رجلٌ شامخ، طويل القامة، أشعث الشعر، لحيته بنية كثة، درعه الحديدي يعكس شمس الصباح كأنها تقدّسه.
جثا على ركبة واحدة قائلاً بصوت أجش:
– جلالتك.
أومأت برأسي، فأكمل:
– عدت من الحملة الاستكشافية جنوبًا. لم نرَ أي نشاط للغيلان، لكن...
تردد، ثم أضاف:
– اكتشفنا أنقاضًا قديمة قرب بحيرة مدستيشر.
بحيرة... مدستيشر؟
الاسم ضرب ذاكرةً منسيّة في رأسي.
أسطورة كانت تُحكى في عالمي القديم... عن مدينة مفقودة، تظهر في كل زمان ومكان، وتبتلع من يقترب منها.
– هل أنت متأكد؟
نظر إليّ بنظرة لا ارتعاش فيها، وقال:
– نعم، جلالتك. لقد فقدنا نصف رجالنا بسبب الضباب الغامض الذي يغلف البحيرة. أنا واثق... هذه هي.
من نبرة صوته، من عينيه... علمت أنه لا يكذب.
مدستيشر... إن كانت حقيقية، فقد تكون بداية الطريق.
حاولت النهوض من السرير... لكن جسدي خانني. سقطت على الأرض.
ركض الفارس والخادمة نحوي، وساعداني على العودة إلى السرير.
عاجز.
أنا... عاجز؟
ابتسمت، ولأول مرة منذ زمن بعيد، شعرت بطعمٍ جديد.
طعم الضعف.
نظرت إلى الفارس وسألته:
– لماذا أصبحت فارسًا؟
– لحماية المملكة، سيدي.
أجبت بسخرية خفيفة:
– وهل ستموت لأجلها؟
رفع رأسه، وثبّت نظره في عينيّ وقال بثبات:
– دون تردد.
شيء ما اهتز في داخلي.
لقد كنت ملكًا، لا يُرفض له أمر، وكنت أرى جنودي يسقطون واحدًا تلو الآخر... دون أن أرمش. كنت أراهم كحجارة على رقعة شطرنج.
لكن الآن... أشعر.
– يمكنك الانصراف. سأتحدث إليك لاحقًا.
انحنى، وغادر. تبعته ليزا بعد أن رتبت السرير.
تركت وحدي... مع أفكاري، وألم في داخلي لم أعرفه من قبل.
هدفي الأول: علاج هذا المرض.
لكن كل ما قرأته عنه في السجلات، يقول إنه بلا علاج.
ثم...
صوتٌ اخترق السكون.
[تم تفعيل "حالة الكمال" للمضيف]
[تم تحميل نظام الجسد الجديد]
[وسام: "البداية رغم الاحتمالات"]
[نظام الإصلاح المطلق – مفعل]
[هل ترغب في ا
لبدء بالإصلاح؟ نعم / لا]
اتسعت عيناي، والصوت بدا وكأنه ينبثق من كل ذرة في الغرفة.
[نظام المتجول... تم التفعيل.]
...