الفصل الرابع: دعوة إلى وليمة السّم

--------

ثالث صباحٍ لي بعد عودتي إلى هذه الحياة.

الشمس تتدلّى بخجل من خلف ستائر السحب الرمادية، كأنها تخجل من النظر إلى القصر الذي تآكلت جدرانه ببطء، وانحنت أعمدته كعجائز يعجزون عن الوقوف.

إنه قصر ملكي... لكنه لا يُشبه القصور.

جلستُ على المقعد الحجري البارد في شرفة الجناح الشرقي، أراقب الحدائق المهجورة؛ نباتاتٌ كانت يومًا مرآةً للفخامة، واليوم تبدو كجنودٍ خسروا المعركة وما زالوا واقفين.

أشجارٌ مصفوفة، لا لتجميل المكان، بل لإيهام العابر بأن شيئًا ما لا يزال تحت السيطرة.

"الخداع لا يحتاج إلى قوة... يكفي أن تبقى واقفًا بينما الآخرون يسقطون، وسيتوهم الجميع أنك المنتصر."

الخادمة "ليزا" وقفت خلفي، بصمتٍ أشبه بتمثال.

في يدها اليمنى، صينية فضية تعكس أشعة الشمس الباهتة، وعلى الصينية كوبٌ بخاريّ تعبق منه رائحة أعشابٍ مُرّة.

يدها ترتجف قليلاً... لكنها لا تُسقط شيئًا.

رائعة.

"قدّميه."

مدّت يدها ببطء، حذرها يجعل المشهد يبدو كأن الزمن تباطأ للحظة. كأنها لم تكن تحمل مشروبًا، بل قنبلة.

وضعت الكوب أمامي، وانسحبت خطوة إلى الخلف.

رَشفتُ منه رشفة. كان طعمه مزيجًا بين العسل المُفرط، وعُشبٍ مرّ لدرجة تُذكرني بأيام الخيانة.

"هل أخبرك أحد من قبل أن هذا الشراب يُشبه بول الغيلان؟"

اهتزت عيناها فجأة. لم تكن تتوقع تعليقًا كهذا.

لكنها لم تجب. لم أكن أسأل حقًا. كنت أتحدث إلى الفراغ، إلى الهواء، أو ربما... إلى نفسي التي ما زالت تتسلّى بالسخرية.

"...أعذرني، سيدي. الوصفة من طبيب القصر."

"هذا ما يخيفني."

تجمّد الجو للحظة. ليست كلمات عابرة حين تخرج من فم رجلٍ مات من قبل.

ثم...

طرقات على الباب. ثلاث ضربات، قصيرة، متباعدة. إشارة حارس القصر الشخصي.

دخل كما يفعل دومًا، خطوته الأولى عريضة كأن الأرض مدينة له، والثانية تنتهي بركوعٍ مبالغ فيه، كأنني ما زلت على العرش حقًا.

"رسالة، جلالتك. من... الدوق فاليريوس."

كان فاليريوس دوقًا في مملكة موريغين، وبعد مرض صاحب هذا الجسد، تمدد بنفوذه في كل أرجاء المملكة.

يمكن القول حاليًا إن تأثيره السياسي يفوقني بكثير.

لم أُحرّك يدي لأخذ الرسالة، فقط أومأت. لا أحب أن ألمس شيئًا قبل أن أقرر إن كان يستحق اللمس.

الرسالة كانت ملفوفة بعناية، ختم ذهبي منقوش، والحبر... مُعطر.

"الرجال الأقوياء لا يستخدمون الحبر المُعطر. هذا ظرف رجلٍ يريد أن يبدو لطيفًا... قبل أن يغرس خنجره."

يبدو أن خبر تعافيّ قد بدأ ينتشر.

فككت الختم ببطء، بعيني لا تزال تحدّق في الأفق.

فتحت الورقة.

"جلالتك، نحتفل بعودتكم إلى العرش، وندعوكم إلى مأدبة شكر صغيرة في قلعتنا بعد غدٍ..."

أغلقتها، ثم ناولتها إلى ليزا دون أن أنظر إليها.

"ما رأيكِ، ليزا؟ مأدبة شكر؟"

ترددت.

كان واضحًا أن السؤال لا يحتاج إلى إجابة، لكني انتظرت. أردت اختبارها.

"...أظن أنها... لفتة طيبة يا سيدي."

التفتُ إليها لأول مرة هذا الصباح.

كانت عيناها مليئتين بخوفٍ من نوع آخر. ليس خوف الخدم من الملوك، بل خوف النساء من رائحة دمٍ على كفّ رجلٍ هادئ.

"أحيانًا، يا ليزا، تكون الولائم حفلات تنكرية للذبح... هل قرأتِ عن الذئاب؟"

هزّت رأسها نفيًا، بشيء من الحذر.

> "الذئب حين يصطاد، لا يهاجم مباشرة. بل يُراقب، يُغريك، يُدوّرك في دائرته... ثم ينقضّ.

وفاليريوس؟... ليس ذئبًا ماهرًا، لكنه يحاول."

---

في تلك الليلة...

كنت وحيدًا في الغرفة، لكن رأسي لم يكن كذلك.

النظام... بدأ يعمل بصمت، كمراقب خفيّ يُحلل كل تفصيلة:

[تحليل الدعوة: احتمالية الفخ – 87.4%]

[مستوى التهديد: متوسط، متغير]

[ملاحظة: أحد حاملي الرسالة يحمل آثار مادة طيفية نادرة تُستخدم في تصنيع السموم البطيئة]

[اقتراح: تحليل قصر فاليريوس من الداخل خلال الزيارة. احتمالية إيجاد أدلة على تحالف خارجي – 41.6%]

ابتسمت.

"جميل... أول محاولة لاغتيالي تأتيني وأنا بالكاد قادر على الوقوف.

لا بأس، فالذكاء لا يحتاج إلى عضلات، فقط إلى توقيت."

---

في اليوم التالي...

تحرّكت القافلة الملكية من القصر، لكن لم يكن في الرحلة شيء "ملكي" سوى الألقاب.

خمس عربات، بعضها مُتهالك، وحفنة فرسان لا يملكون سوى الأسماء القديمة.

لكنّ داخلي؟

كان شيئًا آخر.

قلبي بارد... كأن لا شيء يستحق الحب.

وعقلي؟... مشتعل. يشبه نيزكًا يتهاوى نحو الأرض، يعرف أنه سيتحطم، لكنه يصر على أن يترك أثرًا.

كل شيء في هذه الرحلة... كان بمثابة رقعة شطرنج.

فاليريوس يظن أنني مجرد ملك مريض، أُعيد للحياة بلا حولٍ ولا دهاء.

لكنني؟

سأرقص في حفلتهم، وأبتسم في وجوههم،

ثم أضع السّم في كؤوسهم...

وأتركهم يتساءلون كيف خُدعوا.

---

الطريق إلى قلعة فاليريوس لم يكن قصيرًا، ولا عاديًا.

مررنا عبر غابات شاحبة، أغصانها تشبه أذرعًا نحيلة تمتد لتخطف الأرواح. كل شجرة تنظر إليّ... كأنها تعرفني، أو تذكّرتني من حياة سابقة.

كان الهواء باردًا، لا بسبب الطقس، بل بسبب الصمت.

حتى الطيور صمتت حين مررنا.

كأن الطبيعة نفسها تحبس أنفاسها بانتظار شيء.

وفي منتصف الطريق... اقتربت مني ليزا داخل العربة.

كانت صامتة، تنظر من النافذة الصغيرة، حاجباها معقودان.

"هناك شيء لا يعجبك؟" سألتُها.

"...الجو، سيدي... لا يبدو طبيعيًا."

ابتسمتُ، وأجبت دون أن أرفع بصري عن كتابٍ مفتوح بين يدي:

"أحيانًا، يا ليزا... حين تكون الأمور هادئة جدًا، فذلك ليس سلامًا... بل فخّ ينتظر صرخة."

---

وبعد ساعات...

ظهرت القلعة.

قلعة فاليريوس.

بُنيت على تلٍّ منخفض، لا تحكم الأرض من علٍ، بل تتربّص كذئبٍ متخفي.

أسوارها رمادية، عالية، لا تُظهر الفخامة بل الخوف. خنادقها ممتلئة بالماء، لا للحماية، بل لتذكير الزائر بأن الهروب لن يكون سهلاً.

"جميلة..." تمتمتُ.

نظرت إليّ ليزا بدهشة.

"...جميلة كقبرٍ بُني بعناية."

ـــــ

وصلنا إلى مشارف القلعة عند أولى خيوط الغروب. كانت الأشجار تصطف بهدوء على جانبي الطريق، تتمايل أغصانها مع نسيم ناعم يُشبه همسة قديمة من عالم منسي. الضوء البرتقالي يتسلل من بين الأغصان، وكأن الطبيعة تحاول أن تمنح هذا المكان لمسة من القداسة الزائفة. لكني لم أنخدع.

"كل شيء جميل... سوف يندثر في النهاية."

همست بها وأنا أنزل من العربة، خطواتي كانت ثقيلة ولكنها ثابتة، كأن الأرض نفسها تتذكر وزني السابق، هيبة إمبراطور اندثرت منذ زمن.

عند بوابة القلعة، كان هناك عدد من الجنود في انتظارنا. ملامحهم صلبة، ونظراتهم فيها ذلك النوع من الصمت الذي لا يُخفي شيئًا.

قال أحدهم بصوت أجوف:

"نرحب بجلالة الملك ليوكرد في قلعة الدوق فاليريوس."

لم تكن في نبرته ذرة احترام، بل بدا كأنه يُلقي واجبًا كُتِب عليه. لم أعلّق. لم أهتم. كانوا بيادق... مجرد قطع على رقعة لا يعرفون شكلها.

[نظام: تحليل النظرات... 63% من الجنود ولاؤهم مشكوك فيه. توصية: لا تُظهر ضعفك.]

أومأت برأسي ببرود، وتقدمت نحو القلعة، خطواتي ترسم خطًا بيني وبين الماضي.

القلعة من الخارج كانت تبدو كحصن منيع، جدرانها السميكة تشهد على سنوات من الدفاع، لكن الداخل؟ الداخل كان قصة أخرى. سقوف عالية مزينة بنقوش ذهبية، وسجاد سميك يمتص الصدى، وثريات كريستالية تنثر الضوء في أنماط فاخرة فوق الوجوه التي تخفي ألف نية.

"المكان يشبه فخًا مذهبًا."

تمتمت داخلي، دون أن يرتجف وجهي.

في وسط البهو، ظهر الدوق فاليريوس. رجل طويل، يحمل وسامة سياسية مملة، يبتسم كمن يملك المفاتيح كلها. عيناه باهتتان بقدر ما هما حادتان. يرتدي رداءً فاخرًا لا يليق سوى بملك أو ممثل رخيص في مسرحية قديمة.

"تحياتي، جلالة الملك. لقد أسعدني حقًا خبر تعافيك."

قالها وهو يمد يده.

نظرت له للحظة، ثم صافحته. كانت يده دافئة على نحو مريب، وابتسامته كأنها سكين ملفوفة بالحرير.

[نظام: تحليل حرارة الجسد... ارتفاع غير طبيعي. نسبة الخيانة: 34%. الخطر المحتمل: متوسط.]

"يبدو أن الزمن لم يُطفئ طموحك يا فاليريوس."

قلت له بابتسامة متماسكة.

"من فضلك، جلالتك. من هذا الطريق."

قادني عبر ممرات مضاءة بنيران الشموع إلى قاعة ضخمة. في وسطها، طاولة طويلة يحيط بها عدد من النبلاء والدوقات. لمحت أعينهم وهي تراقبني، بعضها بفضول، وبعضها برغبة دفينة في شيء آخر.

عند دخولي، وقف بعضهم وقالوا بصوت موحد مزيّف:

"يحيا الملك."

رددت بتحية رسمية، لا حرارة فيها، فقط كلمات تحفظ ماء الوجه. كنت أراقب كل شيء؛ من طريقة جلوسهم، إلى اتجاه نظراتهم، إلى من يتحاشى النظر إليّ.

ثم رفع فاليريوس كأسه، وقال:

"نحتفل اليوم بتعافي الملك."

كانت إهانة ناعمة... خنجرًا في غمد من ذهب. في هذا الإعلان، تأكيد على أنني كنت مريضًا... ضعيفًا.

[نظام: تحليل الخطاب... محاولة لإضعاف هيبتك أمام الحضور. توصية: لا ترد بالمثل، بل ارتقِ فوق.]

ضحكت ضحكة قصيرة وقلت:

"نعم... من الجيد أن أعود، خصوصًا وأنا أرى الأصدقاء القدامى في كامل عافيتهم."

كان المقعد المخصص لي في منتصف الطاولة. المكان الأبرز، الهدف الواضح. جلست فيه ببطء، ووضعت كفي فوق الطاولة كمن يعلن أنه هنا، بكل ثقله.

"كم مرة جلست في مثل هذا المكان، والوجوه مختلفة، لكنها جميعًا تحمل نفس الرغبة؟"

فكرت داخليًا، بينما النظام يعرض أمامي أسماء النبلاء واحدًا تلو الآخر، مصحوبة بإحصائيات دقيقة عن ولائهم وخطرهم.

من هنا، ستبدأ اللعبة.

---

2025/04/23 · 14 مشاهدة · 1307 كلمة
نادي الروايات - 2025