الفصل 308
في تلك اللحظة التي تقاطعت فيها نظرات روبرت مع عيني المرأة الواقفة أمامه، كأن الزمن قد تجمد.
الهواء من حوله صار كثيفًا، ووقع خطواته على الأرض العشبية الخافتة في تلك الغابة المظلمة أصبح غير مسموع.
كانت واقفة هناك... والدته. المرأة التي طالما تساءل عنها، التي لم يحظَ بفرصة رؤيتها في طفولته، ها هي تقف أمامه بلحمها ودمها، وعينيها اللامعتين بشوق دفين.
لكن قبل أن يهم بكلمة أو حركة، انفجر شيء ما داخل عقله.
كأن بابًا قد فُتح في عقله بالقوة، واندفعت منه ذكريات لا تخصه… أو هكذا ظن.
صور متلاحقة تنهال على ذهنه كالمطر:
ـ طفل صغير يمسك بيد امرأة تضحك له.
ـ يركض داخل منزل دافئ، عطر القرفة يملأ الجو.
ـ امرأة تمسح دموعه وتقبله على جبينه.
ـ ليالٍ باردة كانت تحضنه فيها لتدفئ قلبه.
لكن تلك اللحظات... لم يعشها قط.
ارتج جسده بقوة، وصرخ بصوت مكتوم، كأن صاعقة عبرت رأسه. سقط على ركبتيه، وأمسك برأسه بكلتا يديه، والألم يمزقه من الداخل كأنما تحاول روحه مقاومة شيء لا ينتمي إليها… أو ربما شيء نسيه لفترة طويلة.
رأت والدته ما حدث، وركضت نحوه بسرعة وهي تهتف بفزع:
"روبرت !! روبرت !! هل أنت بخير ؟!"
كان يسمع صوتها مشوشًا، كأنه يناديه من خلف جدار سميك. أنفاسه كانت متلاحقة، يتنفس بصعوبة كما لو أنه ركض آلاف الكيلومترات، أو كما لو أنه غاص تحت الماء طويلًا وها هو يخرج منه للتو.
رفع رأسه ببطء، ينظر إلى عينيها… إلى الملامح التي احتفظ بها في خياله فقط. الدموع تجمعت في عينيه دون إذن، وانفلتت حارة على خديه.
دون تردد، اندفع إلى الأمام، وعانقها بعنف.
كان عناقًا محمومًا، متشوقًا، عميقًا، كأنما يحاول أن يزرع نفسه داخلها كي لا يفقدها مرة أخرى.
تفاجأت الأم، جفلت للحظة، ثم ابتسمت وربتت على ظهره بحنان:
"ما الذي يحدث معك يا ابني ؟!! أنت على غير عادتك !!"
بقي ممسكًا بها طويلًا، لا يريد تركها، لا يريد لهذا الحلم أن يتلاشى، لا يريد لهذا العناق أن ينتهي. لكن شيئًا داخله بدأ يهدأ، وكأن الألم غادره تدريجيًا، ليترك مكانه لدفءٍ طال انتظاره.
أخيرًا، تنفس بعمق، وتراجع عن عناقها. نظرت إليه وابتسامتها لا تزال على وجهها، وقالت بهدوء:
"حسنًا، فلندخل... الجميع في انتظارنا بالداخل."
---
عندما دخل روبرت المنزل، أحس بشيء غريب. جدران المكان، الأثاث، رائحة الخشب، ضوء المصابيح القديمة… كلها مألوفة، وكأنه رآها من قبل. ثم أدرك الحقيقة.
هذا هو المكان الذي رأه في تلك الذكريات... الذكريات التي انفجرت في رأسه قبل قليل. كل تفصيلة من المنزل كانت محفورة في داخله، رغم أنه لم يزر هذا المكان يومًا.
في منتصف الغرفة، كانت هناك طاولة طويلة موضوعة على الأرض، التف حولها أكثر من عشرة أشخاص. بعضهم كان يكتب على أوراق متناثرة، وآخرون يتحدثون بصوت خافت، وهناك من بدا شارداً في التفكير.
كل وجه في تلك الغرفة كان غريبًا... ومألوفًا في آنٍ معًا.
لكن من لفت انتباهه فورًا، كان رجل يضع نظارات مستديرة وذقنه مشذبة، تبدو عليه ملامح الإرهاق والنضج معًا. إنه هاري بوتر.
كان هاري جالسًا بجانب امرأة ذات شعر ناري، ملامحها ناعمة لكنها صارمة. إنها جيني، زوجته الحالية كما عرف من الذكريات.
قال هاري فجأة، بصوت مفعم بالتصميم، وهو يضع يده على الطاولة:
"حسنًا، يجب علينا ألا نترك الأمر يتأخر أكثر من الآن."
رفع الحاضرون رؤوسهم، جميعهم انتبهوا لحديثه. بدا الجو مشحونًا، كأن كلمات هاري كانت شرارة فوق برميل بارود.
عند حافة الطاولة، جلس رجل ذو وجه متعب، وشعره الأشعث قد شاب نصفه، يرتدي ملابس مهترئة بالكاد تغطيه من البرد. ريموس لوبين.
قال بصوت هادئ، ولكنه يحمل داخله قلقًا دفينًا:
"نعم... لقد سمعت أن هوجورتس ستكون بدون حماية الآن من أتباع فولدمورت... وبارتي كراوتش، ذلك اللعين، سيكون مع فولدمورت في السيطرة على بلغاريا."
سادت لحظة صمت ثقيل، كأنما هبط الليل فجأة داخل الغرفة.
بدت وجوه الموجودين شاحبة. البعض عضّ على شفته، البعض حدق في الأوراق، والآخرون تبادلوا نظرات سريعة متوترة.
كأن الجميع فهم في تلك اللحظة... أن المعركة قد لا تُكسب.
وأن الظلام أقرب مما ظنوا.
وأن القضاء على فولدمورت... قد لا يحدث.
وكان روبرت واقفًا في الزاوية، يراقب، يسمع، يشعر… وعقله لا يزال ينبض بتلك الذكريات التي لا تخصه، لكنها تُعيد تشكيله من جديد.
جلس روبرت أخيرًا على كرسي خشبي قديم بجانب الجدار، المكان الذي اختار الجلوس فيه دون تفكير، فقط لأنه كان الأقرب إلى والدته.
كان يراقبها وهي تتحرك بخفة بين المطبخ والطاولة، تحمل الصحون واحدة تلو الأخرى، تتعاون معها مولي ويزلي الأم التي اعتاد الجميع اعتبارها قلب الجماعة النابض و بين الاثنتين كان هناك تناغم عجيب لا يحدث إلا بين نساء تعودن على العطاء.
الطاولة بدأت تمتلئ بالأطعمة، والصحون كانت تصطف بعناية بين الأيدي التي ترتبها، ولكن روبرت لم يكن يرى الطعام... بل كان يرى ذكريات، صورًا من ماضٍ حديث تسللت إلى رأسه دون دعوة، واختلطت مع الحاضر كأن الزمان نفسه قد كُسر.
أفاق على صوت والدته هيرميون وهي تقول فجأة، بينما تعطي صحنًا إلى بروفيسور ماكجونجال التي كانت تجلس إلى يمين هاري، بينما كان على يسارها رون ويزلي وزوجته الحالية، لافندر:
"متى سننفّذ الخطة؟!"
تجمدت الأجواء لثوانٍ.
أمسكت ماكجونجال بالصحن الممدود نحوها، لكن يدها كانت أبطأ من المعتاد، وكأنها تثقلها مشاعر لا تُقال. نظرت إلى هيرميون، ثم إلى الصحون، ثم تنهدت بتعب واضح قبل أن تقول بصوت خافت، لكن مشبع بالحزن:
" لن أتركك تأتين معنا، يا هيرميون."
دوّى التصريح في المكان وكأن أحدهم ضرب الأرض بعصا سحرية قوية. حتى الأواني على الطاولة بدت وكأنها سكنت فجأة، والكل نظر إلى ماكجونجال باستغراب، بمن فيهم روبرت نفسه، الذي لم يكن يتوقع أن يرى هذه المرأة القوية تُظهر مثل هذا الضعف.
هيرميون نظرت إليها بصدمة، كما لو أنها لم تصدق ما تسمعه:
"لماذا؟!" قالتها بسرعة، ووجنتاها احمرّتا بشدة، ويديها ما زالتا تحملان أحد الصحون.
سكتت ماكجونجال للحظة، وكأنها تقرر ما إن كانت ستقول الحقيقة أم لا. ثم رفعت عينيها، ونظرت مباشرة في عيني هيرميون، وقالت أخيرًا، بصوت يحمل ثقل السنين وألم الذاكرة:
"بسبب... أنني لا استطيع ان يصيبك مكروه ، هيرميون ... انا اسف ، و لكن قبل سنوات، في أيام الدراسة ... أخبرني زوجك الراحل، آلبرت، أن أحميك ... لم اكن اظن انه في دالك الوقت سيفكر في هذه الخطة الإنتحارية .... لذلك، لا أستطيع أن أراك تتأذين. لقد وعدته..."
توقفت الكلمات على لسانها، وكأنها لم تعد قادرة على الاستمرار.
سقط الصمت على الغرفة مرة أخرى، صمت ثقيل كأن الهواء نفسه صار من رصاص.
اسم ألبرت عاد للظهور في المكان كروح غير مرئية. كل من سمعه تأثر بطريقة ما. هاري أطرق رأسه، وجيني شدت على يد زوجها، ورون أغلق عينيه للحظة، بينما وضعت لافندر يدها على صدرها بحزن.
أما هيرميون، فقد وقفت للحظة دون حراك، ثم وضعت الصحن جانبًا ببطء وجلست على أقرب كرسي، لم تنطق بكلمة، لكنها كانت تحبس دموعًا حارة في عينيها، تحمل كل سنوات الفقد والاشتياق.
أما روبرت… فقد كان ينظر إلى الجميع، لكنه لم يرَهم.
كان رأسه يدور، كأن العالم من حوله ينكمش ببطء.
ألبرت… والده… كان قد أخبر ماكجونجال بخطته … أوصاها بأمه…
الذكريات التي تلقاها منذ زمن قصير بدأت تنبض في رأسه من جديد، لكنها هذه المرة كانت أكثر وضوحًا… وأكثر قسوة.
في المسار الخامس، كما بات يسميه، رأى بعينيه كيف ضحّى والده بنفسه ليُبقي العالم سالمًا، كيف استطاع بعد موته أن يترك أثرًا من النور وسط ظلام العالم السحري. لكن في هذا المسار الحالي و المختلف بتاتا ، شيء ما كان مختلفًا، شيء خاطئ. فلماذا لم يتحقق السلام هذه المرة؟ لماذا لا يزال فولدمورت يشكل تهديدًا؟ لماذا لا تزال الخطط تُحاك والتوتر يسيطر على الوجوه؟
ما الذي تغيّر؟
أغمض عينيه بشدة. عقله بدأ ينبش الذكريات التي تلقاها كأنها رسائل مشفرة.
فجأة، ظهرت في رأسه صورة… غامضة، خاطفة، لكنها واضحة بما يكفي لتجعل قلبه يضرب بسرعة.
فتح عينيه فجأة، العرق يتصبب من جبهته، ويده ترتجف على الطاولة. لم يكن قادرًا على السيطرة على نبضات قلبه، كانت تتسارع مع كل ثانية، كأنها تدق ناقوسًا داخله. وجهه تغير… الغضب، الحزن، الخوف… كلها اجتمعت في نظراته.
قال بهدوء، صوت خافت كأنه يتحدث إلى نفسه، لكن من جلسوا حوله شعروا بذبذبة مشاعره:
"الخائن... لا!! ... أبي!! ... مات مغدورًا !!"
يتبع ...