انتهى يوم العمل أخيراً ، وقد علت وجهي طبقات من الغبار والتعب .
لكن ما إن بدأت أسير في الشارع حتى لاحظت من حولي أناساً يرتدون ملابس نظيفة وأنيقة .
في تلك اللحظة ، شعرت وكأنني بقعة رمادية في لوحةٍ زاهية الألوان .
" أظن أن الوقت قد حان لأشتري ملابس جديدة ... لأول مرة منذ وصولي إلى هذا العالم . "
بدأت أبحث بعيني عن أي متجر مناسب . المشكلة أنني لا أعرف الشوارع جيداً ، وكل محل رأيته كان يبدو وكأنه متخصص ببيع أزياء النبلاء .
لكن ... وفجأة ، لفت نظري شيء ما .
لافتة كبيرة بلونٍ باهت مكتوب عليها بخط مائل :
" ملابس التوفير _ أناقتك بسعرٍ مريح "
توقفت ، حدقت في الاسم مرةً ، ثم ضحكت بخفة .
" ما دام اسم المتجر فيه كلمة توفير ، فلا بد أن الأسعار توفر لي فرصة لشراء أكثر من قميص دون أن أفلس . "
دخلت إلى الداخل ، فاستقبلتني رائحة مزيجٍ من العطور الرخيصة والقماش القديم .
المكان لم يكن فخماً ، بل أشبه بمخزنٍ صغير ، تتراكم فيه الملابس على الرفوف والصناديق المعدنية .
خلف الطاولة ، جلس رجلٌ في منتصف العمر ، يقرأ صحيفة ورقية بصبرٍ غريب .
رفع عينيه نحوي ، ابتسم ابتسامة سريعة ، ثم عاد إلى قراءته دون أن ينبس بكلمة .
بدأت أتجول بين الرفوف ، أبحث عن شيءٍ لا يحرجني أمام الناس ولا يحرج محفظتي في الوقت ذاته .
قميصٌ أزرق بسيط ، بنطال رمادي متين ، وسترة خفيفة ... كانت هذه هي تشكيلتي البسيطة .
جربتها في غرفة تغيير صغيرة تتكون من ستارة بالكاد تُغلَق ، وعندما نظرت إلى نفسي في المرآة ، لم أبد رائعاً ، لكني على الأقل لم أبد متشرداً .
" هاه ... تقدم ملحوظ . " تمتمت وأنا أعدل ياقة القميص .
تقدمت إلى الطاولة لأدفع ، وتوقعت أن علي المساومة بكل مهاراتي .
لكن الرجل رفع عينيه ، نظر إلى الملابس .
وقال ببساطة :
" المجموع تسعة دولارات . "
صمَّتُ ، ثم رمشت مرتين .
" أهذا حقيقي ؟ "
ابتسم قائلاً : " عندنا ، التوفير ليس مجرد اسم . "
دفعت النقود وأنا أشعر بانتصار صغير ، ثم خرجت من المتجر أحمل كيساً بسيطاً فيه أول خطوة نحو اندماجي في هذا العالم الجديد .
ربما أكون لا أزال تائهاً ، وربما لا أملك شيئاً سوى القليل ...
لكن على الأقل ، أصبحت كشخصٍ ينتمي إلى هنا .
وربما _ ولأول مرة منذ وصولي _ شعرت بأنني رفهت عن نفسي قليلاً ، بعد كل هذا الجهد والتعب .
شعور خفيف ... لكنه ثمين .
وبينما كنت أحمل كيس الملابس بخفة ، توجهت إلى النزل متلهفاً لأجربها .
دخلت بسرعة ، وصعدت الدرجات القديمة ، ثم فتحت باب غرفتي وأنا أشعر وكأنني على وشك حضور عرض أزياء ... خاص بي .
وقبل أن أبدل ملابسي ، فكرت أن ألقي نظرة أخيرة على نفسي في المرآة .
لكن ما إن خلعت القميص القديم ، حتى شممت رائحة ...
رائحة خانقة .
تجمدت في مكاني .
نظرت حولي ، ثم إلى ملابسي ، ثم إلى نفسي .
الرائحة ... كانت مني !
شعرت بإحراجٍ لا يوصف .
هل كانت رائحتي هكذا طوال الوقت ؟!
هل كان الناس يتحملون رائحتي هذه منذ وصولي إلى هذا العالم ؟
كيف نسيت أن أستحم ؟
ربما التعب ، الجوع ، والانشغال الدائم جعلوني أنسى أبسط حقوقي .
بتوتر نزلت إلى الطابق الأرضي ، ووجدت صاحبة النزل منهمكة في تقليب شيء على الموقد .
" عذراً ... هل أستطيع استخدام الدش ؟ أعني ، ذاك ... القديم ؟ "
رفعت رأسها ، رمشت ببساطة ، ثم قالت :
" بالتأكيد . أنت دفعت ثمن الليلة هنا على أي حال . "
ابتسمت ، تنفست بعمق ، وكأن جبلاً أزيح عن كاهلي .
حان وقت الاستحمام ... أخيراً ."