كان الصباح باهتاً ، لا شمس تُشرِق ولا طيور تُغَّرِد ، فقط سكون ثقيل يخيّم على المكان . ساحة العمل التي اعتدنا التجمع فيها كانت مغطاة بطبقة رقيقة من الغبار ، تتناثر في الهواء مع كل خطوة . العربة الكبيرة تقف في مكانها المعتاد ، خشبها الخشن يكشف عن آثار الزمن ، وعجلاتها غارقة في التراب كما لو أنها لم تتحرك منذ أيام . أكوام الصناديق والمعدات مصطفة على الجانبين ، وأصوات العاملين تتلاشى مع الرياح ، كأن المكان نفسه يحبس أنفاسه انتظاراً لشيء قادم .
تقدمت نحو العربة كما أمرنا صاحب العمل . وقفت بين زملائي المعتادين ، غير أن شيئاً ما لم يكن على ما يرام .
رأيت وجوهاً لم أرها من قبل .
شاب بدا في سن المراهقة ، ذو شعر أسود داكن ، يحمل حقيبة صغيرة مربوطة بإحكام على ظهره . كان يرتدي قميصاً أسوداً تعلوه سترةٌ خفيفة بلون رمادي . نظراته هادئة ، لكن بريقاً ما فيها أوحى بشيء لا يمكن تجاهله ... ربما فضول ، وربما شيء آخر .
إلى جواره ، وقف رجل في الأربعينيات من عمره ، يلف جسده بعباءة طويلة بلون أزرق داكن ، مظهره يوحي بالجدية والثبات ، كأنه اعتاد الانتظار أو خاض معارك لم يفصح عنها .
أما في الجهة المقابلة ، فكان هناك شاب في العشرينيات من عمره ، ذو شعر أشقر لامع ، يرتدي قميصاً أبيضاً تعلوه سترة جلدية سوداء ويرتدي بنطالاً أنيق . ملامحه حملت ابتسامة خفيفة ... ليست ودودة ، بل من النوع الذي يقول : " أنا أعلم أكثر منكم ، فلا تتدخلوا . "
التفتُ إلى زميلي الذي رافقني إلى هنا وسألته بنبرة خافتة :
" لماذا أرى وجوهاً لم أرها من قبل ؟ "
فأجاب دون أن ينظر إلي :
" بما أنك جديد ، فالأمر طبيعي . صاحب العمل يملك عدداً كبيراً من الموظفين ، يرسلهم في مهام بعيدة وطويلة . ويبدو أن هؤلاء قد عادوا لتوهم . "
صُدمت قليلاً . لم أكن أعلم أن صاحب العمل بهذا الحجم من النشاط . ظننته مجرد رجل بسيط يوظف من يحمل له الأمتعة ، أو ينظف العربة ... لكن يبدو أنني كنت مخطئاً ، وبشكل كبير .
نظرت مجدداً إلى الوجوه الجديدة ، ولكن بعين مختلفة هذه المرة . شيء ما في هذا المكان أعمق مما يظهر ، وربما أخطر أيضاً .
مرت دقائق معدودة قبل أن يظهر صاحب العمل ، يسير بخطى ثابتة نحو العربة ، ووجهه يحمل ملامح جدية لم أعتدها منه . كان واضحاً أن ما سيقوله لن يكون أمراً عادياً ... بل قد يكون بداية لمرحلة جديدة تماماً .
نظر إلينا جميعاً ، من أول العاملين قرب العربة إلى أولئك الواقفين في الخلف ، ثم قال بصوتٍ جهوري :
" لقد جمعتكم اليوم ، من أضعفكم إلى أقواكم ، من القريب إلى البعيد ، لأخبركم بشيء مهم ... شيء قد يغير طبيعة عملنا إلى الأبد . "
توقف لبرهة ، وكأنه يمنحنا لحظة لاستيعاب ما قاله ، ثم تابع :
" فهل أنتم مستعدون ؟ "
صرخ الجميع بصوتٍ واحد ، حماسي ومتحمس :
" نعمممممممممم . "
ابتسم صاحب العمل ابتسامة صغيرة ، لكنها لم تكن دافئة ، بل كانت تحمل في طياتها نوعاً من التحدي ، وقال :
" البارحة ، جاءني زميل قديم . أخبرني أن وحوشاً ظهرت منذ عدة أيام في هذا العالم ، أو بالأحرى ، تم اكتشافها حديثاً . قال لي إن هناك مكتب صيد افتُتِحَ في القرية المجاورة لهذا الغرض ، وإن هذه الوحوش ، رغم خطورتها ، تجلب مكاسب لا تُصدّق لمن يجرؤ على مواجهتها . "
ثم صمت للحظة ، ونظر إلينا واحداً تلو الآخر ، قبل أن يقول بنبرة حازمة :
" من لا يرغب بالذهاب ، فليرفع يده الآن . فالصيد ليس بلعبة . "
كانت كلماته كصفعة أيقظت بي كل مشاعر القلق التي حاولت كبتها .
رغم أنني توقعت شيئاً كهذا ، خاصة بعد الحديث الذي سمعته البارحة ، إلا أن سماعه من فم صاحب العمل ، أمام الجميع ، جعل الأمر أكثر واقعية ... وأكثر رعباً .
كنت أعرف أن هذا العالم غريب ، وأن الأمور لن تبقى كما كانت ، لكنني لم أكن مستعداً للانتقال من حمل الأمتعة إلى مواجهة الوحوش .
نظرت حولي ، أرصد من سيرفع يده ... ومن سيتجرأ على التراجع ... ومن سيخفي خوفه خلف صمته .
أما أنا ... فداخلي كان يغلي .