ساد الصمت المكان بعد سماع ما قاله صاحب العمل ، ولم يجرؤ أحد على رفع يده والاعتراض .
حتى الأصوات الخفيفة للحشرات في الحقول القريبة بدت وكأنها توقفت للحظة .
كان الجميع ينظر إلى صاحب العمل ، وإلى أؤلئك الغرباء الذين كانوا يقفون بثقة وهدوء .
ما هذا الجنون ؟ صيد وحوش ؟ وقدرات ؟ هذا ... ليس عالماً عادياً أبداً .
تنحنح صاحب العمل فجأة كاسراً حاجز الصمت .
قال بصوت واثق :
" أعلم أن ما قلته لكم قد يكون صادماً ... لكن لا داعي للخوف . "
توقف لثانية ، ثم تابع :
" أنا أمتلك قدرة فريدة . "
همهم البعض بدهشة ، وتبادل الآخرون النظرات .
رفع يده اليمنى ببطء ، ثم أشار إلى صخرة صغيرة بجانبه ، وضربها بقبضته بقوة .
تهمشت الصخرة كأنها مصنوعة من الطين . تطاير الغبار ، وصوت التحطم دوى في المكان .
قال بثبات :
" قدرتي تدعى الهيئة الحديدية ، جسدي يصبح صلباً كالفولاذ ، ولا أصاب بسهولة . "
بدأت بعض الوجوه تتغير . البعض شعر بالاطمئنان ، والبعض الآخر ازدادت نظراته طمعاً .
ابتسم ابتسامة خفيفة وأكمل :
" سأكون معكم ، سأحميكم بنفسي ... وزد على ذلك ، ستحصلون على مبالغ ضخمة مقابل المهمة . "
تغيرت الأجواء .
القلق بدأ يتحول إلى فضول .
الخوف بدأ يذوب أمام بريق المال .
أما أنا ...
فكنت ما أزال واقفاً هناك ، قلبي ينبض بشدة ، وكأنني عالق بين خيارين لا ثالث لهما .
الانسحاب ... أو الغوص في هذا العالم أكثر .
صمتٌ قصير أعقب كلمات صاحب العمل ... لكن سرعان ما قطعه صوت مألوف بنبرة مغرورة .
قال لوكسيان وهو يضحك ضحكة قصيرة :
" هاه ! كنتُ واثقاً أنك لست مجرد رجل أعمال بسيط . صخرة واحدة ؟ كان بإمكانك تحطيم الجبل ! "
ثم أضاف وهو يعقد ذراعيه :
" طالما أنك في المقدمة ، فأنا لا أمانع أن أكون خلفك ... مؤقتاً . "
ضحك بعض العمال بتوتر ، لكن لم يرد عليه أحد .
أما الفتى المراهق ذو الشعر الأسود ، فظل واقفاً بصمت .
عيناه كانتا تراقبان صاحب العمل بدقة ، وكأنها تحلله .
ثم قال بصوتٍ منخفض ، بالكاد يُسمَع :
" هيئة الحديد ... قدرة دفاعية . مفيدة في قتال الوحوش . "
لم تكن نبرة إعجاب ، لكنها كانت اعترافاً بجدوى القدرة .
أما الرجل الأربعيني ، بعباءته الزرقاء الداكنة ، فقد اكتفى بابتسامة هادئة .
لم يظهر عليه أي اندهاش . وكأن ما سمعه كان متوقعاً .
لم يتحرك أحد .
الجميع بقوا في أماكنهم ، واقفين بصمت ، بعضهم بدأ يتحدث بهمسات خفيفة ، وآخرون يبتسمون طمعاً بالمكافأة التي وُعِدوا بها .
أما الأيدي ؟
لم تُرفَع أي يد .
ولا واحدة .
شعرت بصدري ينقبض .
هل أنا الوحيد الذي يريد الانسحاب ؟ هل أنا الجبان الوحيد هنا ؟
نظرت حولي ببطء ...
وجوههم مختلفة :
بعضها متحمس ، بعضها متوتر ، وبعضها لا مبالٍ .
لكن لا أحد تحرك .
ارتجفت يدي للحظة ، رغبت في رفعها ، في إعلان انسحابي ، في الصراخ :
" أنا لا أريد هذا ! هذا ليس عالمي ! "
لكن ... لم أفعل .
كيف لي أن أرفع يدي أمان كل هؤلاء ؟
أنا بالكاد كنت أستطيع الوقوف في المدرسة أمام طلاب الصف لأكتب الواجب على السبورة ...
كان وجهي يحمر ، ويدي ترتجف ، والمعلم يصحح نطقي بصوته المرتفع .
كيف لي الآن أن أكون المختلف الوحيد هنا ؟
ابتلعت ريقي بصعوبة .
وتظاهرت بالهدوء .
في داخلي كنت أصرخ ... لكن جسدي خذلني .
لكن ...
رغم خوفي .
رغم صراخ قلبي ، وتردد يدي ، وتعرق جبيني ...
رفعت يدي .
ببطء ...
بخوف ...
لكن بثبات .
في البداية ، لم ينتبه أحد .
لكن شيئاً فشيئاً بدأت العيون تلتفت .
أول من رآني كان العامل الواقف بجانبي ، ثم من خلفه ، ثم ... صاحب العمل نفسه .
توقف الكلام .
الهمسات خمدت .
اتسعت أعين بعضهم ، وارتفعت حواجب البعض الآخر بدهشة . حتى لوكسيان الذي كان يميل على أحد البراميل، الذي كان يعبث بخصلات شعره بثقة ، توقف وحدق بي بذهول ، وكأن ما فعلته ليس في قاموس من يعرفهم . نظر إلي بنظرة مزيج من الاستغراب والسخرية ، كأنه يقول :
" هل هذا الشخص يظن نفسه شجاعاً ؟ "
لكن وسط كل تلك النظرات المفاجئة ...
كان هناك اثنان فقط لم يتحرك لهما جفن :
الفتى المراهق ، مازال واقفاً بهدوئه المعهود ، عيناه تابعتا يدي المرفوعة للحظة ، ثم عادتا للتحديق في الفراغ كأن شيئاً لم يحدث .
والرجل الأربعيني ، بنفس وجهه الهادئ وملامحه التي يصعب تفسيرها ، اكتفى بنظرة سريعة نحوي ... ثم أدار وجهه قليلاً وكأن الأمر لا يستحق أي رد فعل .
لكن بقية العمال ؟
كانوا في صدمة .
بعضهم فتح فمه ، بعضهم رمقني باستغراب ، وبعضهم تبادلوا نظرات : " ما الذي يفعله ذلك الأحمق ؟ "
صاحب العمل ، نظر إلي مباشرة ، بعينين غامضتين ، لا غضب فيهما ، ولا سخرية ...
بل شيء آخر ... لا أعرفه .
وكأنني خرقت نظاماً لم يجرؤ أحد على كسره .
شعرت وكأنني عار تحت نظراتهم .
لكنني لم أنزل يدي .
أنا خائف ... نعم .
لكنني لا أريد الموت .