بعد أن رفعتُ يدي، ظلّ الصمت سيّد الموقف.
كانت يدي مرتفعة، لكنها ثقيلة... كأن الهواء نفسه يحاول سحبها للأسفل.
كنت أسمع أنفاسي تتردد داخلي، وأكاد أسمع نبض قلبي وكأنه يقرع الطبول في قفصي الصدري.
كل العيون عليّ.
كل النظرات… كل الأفكار التي لا تُقال… كل الأحكام غير المنطوقة.
لم أكن أبحث عن بطولة.
ولم أكن أقول في نفسي "أنا شجاع"... لا.
كنت فقط أحاول البقاء.
ثم سُمِع صوت خطوات.
خطوات ثقيلة… بطيئة… متزنة.
كان صاحب العمل يقترب نحوي.
وجهه جاد، دون ابتسامة.
عيناه تراقباني كما لو كانتا تكشفان ما خلف عيني.
توقف أمامي، على بُعد خطوتين فقط.
نظر إليّ بصمت للحظة، ثم قال بصوت منخفض لكنه واضح:
"هل أنت متأكد؟"
لم أستطع الرد فورًا.
أردت أن أقول "نعم"، لكن الكلمات علقت في حلقي.
كلّ ما خرج كان همسة:
"نعم… آسف، لكنني لا أستطيع الذهاب."
لم يتغير تعبير وجهه.
ظل ينظر إليّ، ثم فجأة… تنفّس بعمق، وأدار وجهه إلى بقية العمال.
"شجاعته لا تقل عن من سيشاركون."
صُدمت.
هل… مدحني للتو؟
ثم أكمل:
"أن تعترف بأنك غير مستعد، أصعب من أن تدّعي القوة.
وسيبقى هذا الشاب يعمل معي إن أراد. ولن أسمح لأحد بالسخرية منه."
نزلت يدي ببطء، لكن قلبي ظل مرتفعًا.
كان هناك من بين الحشود من أدار وجهه بخيبة، وآخرون ظلوا يراقبونني وكأنهم غير قادرين على الفهم.
لكن… لم يضحك أحد.
لم يسخر أحد.
حتى لوكسيان، اكتفى بإخراج نفس طويل وكأنه يقول : "غريب… لكنه يملك شيئًا ما."
الفتى المراهق ظل هادئًا كعادته، وكأن الموقف لم يخصه.
أما الرجل الأربعيني، فبقي صامتًا يراقبني بعين ثابتة .
ثم تحرّك صاحب العمل من جديد، وقال بصوته القوي:
"الذين سيأتون معي، استعدوا خلال نصف ساعة. "
استدار وغادر.
وبقيت واقفًا… وحدي تقريبًا.
نعم، لن أذهب معهم.
لكنني شعرت بشيء يشبه الانتصار…
صغير، هادئ، لكنه حقيقي.
بدأ العمال يتفرقون.
الذين وافقوا على الذهاب بدؤوا بالتحرك ببطء نحو العربة، يجمعون أغراضهم، يتبادلون الأحاديث الجانبية، وأصوات بعضهم ترتفع بالحماس… أو بالقلق المقنّع.
أما أنا… فبقيت في مكاني.
نظرت إلى يدي التي رفعتها قبل قليل.
ما زالت ترتجف قليلاً.
ابتسمت، لا سخريةً… بل راحة.
"نجوت… مؤقتًا."
شعرت بخطوات تقترب مني من الخلف.
التفتّ، فرأيته… الفتى المراهق.
كان يحمل حقيبةً صغيرة، وعلى وجهه ذات الهدوء، لكن نبرته هذه المرة جاءت حادّة، مباشرة:
> "يا لك من جبان."
توقفتُ عن السير، لكنه لم ينتظر رداً، بل تابع قائلاً:
"تنسحب رغم أنّ الجميع وافق على الذهاب؟ حتى أنا، مراهق، قررت المواجهة.
انسى الأمر، أيادي أقل، مال أكثر."
ثبتت نظراته عليّ لثوانٍ، ثم هزّ رأسه كمن فقد الاهتمام، وأدار ظهره ومضى نحو العربة دون أن يلتفت.
كانت كلماته جارحة… لكنها لم تخلُ من الحقيقة.
لم أكن أملك شيئاً لأقوله له.
أدرتُ وجهي جانباً، لا تجاهلاً له، بل لأمنع نفسي من الغوص في التفكير بما قاله.
---
وقفت هناك للحظة، أراقب ظهره يختفي بين حشود العمال.
كلماته تكررَت في ذهني، تلسع كبردٍ في ليلة صيفٍ دافئة.
"يا لك من جبان."
هل كنت جباناً حقاً؟ أم كنت ببساطة أحاول النجاة بطريقتي؟
تنفست ببطء، أحاول إخماد نار الخجل والشك التي تشتعل بداخلي.
لكن ما لم يخبرني به هو أنني لست وحدي في هذا.
كان هناك شيء آخر في نظرات الفتى المراهق، لم تكن مجرد قسوة، بل… ربما فهمني .
توقفت عن التفكير ، وأدرت وجهي جانباً ، محاولاً أن أرتب أفكاري بعيداً عن السخرية واللوم .
---
عندما ذهبتُ لأكمل الأعمال العادية، ظننت أن الأمر انتهى…
لكن لا.
ظلّ شيءٌ ما يزعجني، كشوكة عالقة في أعماقي لا أستطيع نزعها.
"يا لك من جبان."
كلمات الفتى المراهق كانت تتردد في رأسي مرارًا.
جعلتني أضغط على قبضتي بقوة، حتى شعرت بأظافري تغرز في راحتي.
"أنا لست جبانًا..." تمتمتُ بصوتٍ منخفض، ثم رفعت رأسي فجأة وصرخت:
"أنا لست جبانًا!"
التفتَ إليّ عاملان بجانبي باستغراب، فخفضت بصري فورًا وتظاهرت بأنني أتمتم لنفسي.
"أنا فقط… فقط أريد النجاة. لا أريد الموت.
أنا… أريد أن أجد عائلتي. أريد أن أعيش حياة طويلة.
أنا…"
توقفتُ.
كأن صوتي نفسه خجل مني.
فكرت… ربما الوحوش التي سيذهبون لاصطيادها ليست بذلك الخطر.
ربما… صاحب العمل سيتكفّل بحمايتنا، خصوصًا أنه يبدو قويًا ومعتادًا على هذا النوع من الرحلات.
وفوق ذلك… المبلغ.
"المبلغ قد يكون كبيرًا بما يكفي… لأعيش به أشهر. لأجد طريقة للبحث عن عائلتي، أو حتى مغادرة هذا المكان."
أخذت نفسًا عميقًا.
وقفتُ في مكاني للحظة، ثم خطوتُ خطوة إلى الأمام… ثم أخرى.
كنتُ أقترب من العربة، حيث بدأ الذين قرروا الذهاب بتجهيز أنفسهم.
رأيت صاحب العمل من بعيد، واقفًا وهو يتحدث إلى أحد الرجال ذوي البنية القوية.
ترددت… قلبي بدأ بالخفقان سريعًا.
"ماذا لو سخر مني؟ ماذا لو قال لا؟ ماذا لو… تأخرت؟"
لكنني تابعت.
خطوة بخطوة، حتى وقفت خلفه على بُعد خطوات.
"س-سيدي..."
التفت إليّ، نظرته كانت هادئة…
ابتلعت ريقي، ثم قلت بصوتٍ خافت:
"لقد… غيّرت رأيي. أريد أن أذهب معكم."
لم يرد مباشرة.
نظر إليّ، بتمعّن.
ثم قال بصوت منخفض، دون أن يبتسم أو يعاتب:
"أحضِر ما تحتاجه. لدينا عشر دقائق قبل المغادرة."
واستدار ليكمل حديثه مع الرجل.
لم يقل "أحسنت" أو "كنت أعلم".
لكنه وافق على طلبي .
وأنا…
أنا شعرتُ أنني فتحت بابًا جديدًا.
بابًا قد يقودني إلى النجاة…
أو إلى الهاوية.
ورغم أنني خطوت نحوهم ... كنت أشعر أنني أخطو نحو قفص ، لا نحو فرصة .