تحركنا مجددًا.
خطوات الخيول فوق العشب الرطب، صوتها متناغم، لكن قلقنا كان خارج الإيقاع. كنت أجلس في مؤخرة العربة، أضغط على موضع الجرح رغم أنه مغطى، أراقب الغابة وكأنها ستبتلعني في أي لحظة.
لم أكن أريد الدخول.
لكن لا خيار لي.
الخوف في داخلي، نعم… لكنه لا يمنعني من المضي قدمًا.
هذه حقيقة جديدة بدأت أفهمها:
الشجاعة ليست غياب الخوف، بل التقدم رغم وجوده.
نوكس كان يسير بجانب العربة. عينيه مسلطة على الأشجار، لا يتحدث، لا يتفاعل، لكنه دائم الحذر. أما لوكسيان، فكان يتقدم الصفوف، متباهياً كعادته، وكأن الوحوش بالنسبة له مجرد أهداف تدريب.
أما صاحب العمل… فقد تغيرت نظرته. لم يعد مجرد تاجر صارم، بل بدا كمن اعتاد الموت، يعرف متى يتسلل، ومتى ينقضّ.
فجأة… رفع يده.
توقفت القافلة.
قال بصوت منخفض لكنه واضح:
"هناك شيء... ليس بعيداً عنّا."
سحب بعض الرجال أسلحتهم. ارتفعت دقات قلبي.
حاولت الوقوف، لكن الألم في فخذي لا يزال حادًا. تحاملت، ووقفت ببطء، أتمسك بجدار العربة.
الهواء كان مشبعًا برائحة الطين والأشجار… لكن فجأة، انتشرت رائحة حديدية… رائحة دم.
لم ننتظر طويلًا حتى سمعنا صوتًا غريبًا.
قطرة.
ثم أخرى.
ثم بدأ المطر.
لكن لم يكن مطرًا حقيقيًا.
سقطت قطرة حمراء على كتف أحد الرجال.
قطرة دم.
رفع رأسه ببطء، ثم شهق:
"فوقنا!"
رفعنا أعيننا جميعًا.
وهناك، عالقًا بين فروع الأشجار العالية، كان جسد حيوان غريب، ممزق بالكامل، وكأنه تم تفجيره من الداخل.
لم يكن هناك صوت… فقط منظر الجسد المهشم ينزف فوقنا.
صاحب العمل همس:
"إنه تحذير…"
لكن قبل أن يكمل جملته، صرخة اخترقت الغابة ، اهتزت أغصان الأشجار ، وتسارعت نبضات قلبي . كان الهواء يثقل على صدري ، والبرودة تلسع يدي المرتجفة .
صوتها ليس بشريًا… لا حيوانيًا… شيء بينهما.
نظرت حولي في ذعر. الجميع بدأ يتحرك، يجهز نفسه.
أما أنا، فقد تسمرت.
"لا مجددًا…"
لكن هذه المرة، لم أهرب.
لم أختبئ.
لم أجرح نفسي.
كنت أرتجف، نعم.
لكن قدماي ثبتتا في الأرض.
يدي ... المرتجفة، أمسكت عصًا خشبية من مؤخرة العربة.
قد لا أكون مقاتلًا.
قد لا أملك قوى خارقة.
لكنني لن أهرب هذه المرة.
نظرت حولي متوتراً، ولكنني كنت مستعداً لأي هجوم.
فجأة ساد الصمت المكان.
كان هدوءاً غريباً، ولكنني لم أكن أعرف أنه كان "هدوء ما قبل العاصفة".
قال صاحب العمل: "سوف أذهب إلى فوق وأتفقد الجثة".
قفز قفزة عالية أوصلته إلى جذع الشجرة، نظر إلى الجثة ثم قال: "إن هذا ليس جيداً".
صرخ قائلاً: "يجب علينا الهروب الآن!"
استغربت. ما هو الشيء الذي جعل صاحب العمل، الشخص الذي هزم الوحش، يتوتر هكذا؟
نزل وقال: "بسرعة، جهزوا العربة ولنرجع الآن".
بدأ العمال يتهامسون: لماذا يتصرف صاحب العمل بهذا الشكل؟ لكنهم نفذوا أوامره وجهزوا العربة.
صعدتُ وبعض العمال إلى العربة لأننا كنا مصابين، أما الباقون فمشوا على الأقدام.
ثم قال صاحب العمل: "يجب أن نزيد سرعة مشينا".
فزادت سرعة العربة، وتسارعت خطوات العمال.
سأل أحدهم: "لماذا فجأة قلت إن علينا الهروب؟"
أجاب صاحب العمل: "عندما صعدتُ عند جثة الوحش، كانت رائحة الدماء لا تزال طازجة. والأسوأ من ذلك... أن آثار قتل ذلك الوحش كانت من وحش خطير. لا أعلم حتى إن كنتُ أنا قادرًا على مواجهته."
وقبل أن ينهي كلامه، سُمِع صوت من الأعلى.
نظرتُ إلى هناك...
فسقط جسم غريب علينا مدمراً المكان .
...
كأنّ الزمن توقف للحظة.
صوت ارتطامٍ عنيف مزّق الهواء وسحق الأرض من حولنا. الغبار تطاير في كل اتجاه، وصراخ العمال دوّى كالرعد بين الأشجار. شعرتُ بانفجارٍ ضاغطٍ في أذني، وتوازن جسدي اختلّ تمامًا. لم أستطع تمييز ما حدث في البداية… كل شيء كان مشوشًا.
الجسم الغريب الذي سقط لم يكن مجرد حطام أو صخرة، كان شيئًا حيًا… شيئًا ضخمًا بما يكفي ليدمّر نصف العربة في ثانية.
رأيت أحد العمال يُسحب بعيدًا قبل أن يطلق صرخة مكتومة، ثم اختفى داخل الغبار. حاولت النهوض، لكن الألم في قدمي الملتوية جعلني أتراجع. حرارتي ارتفعت فجأة، كأن جسدي يحذّرني بأن الخطر لم ينتهِ بعد.
"احتموا فورًا! لا تهاجموه! فقط احتموا!"
كان ذلك صوت صاحب العمل، قويًا كعادته، لكنه هذه المرة لم يكن يحمل الثقة التي عهدتها في صوته. كان خائفًا… وهذا وحده جعلني أرتجف.
رفعت رأسي بصعوبة، نظرت إلى ما تبقّى من العربة. النصف الأمامي تحوّل إلى خشبٍ مبعثر، والخيول اختفت. بعض العمال كانوا يحاولون الزحف للخلف، وآخرون تجمّدوا مكانهم، لا يدرون ما يفعلون.
ثم، وسط الضباب الكثيف، بدأت أرى شيئًا… عينين.
عينان متوهجتان بلونٍ أصفر باهت، تحدقان نحونا من العتمة، بهدوءٍ مرعب، كأن صاحبها كان يراقبنا منذ البداية.
تنفّس عميق هزّ الأرض. ذلك الشيء لم يكن مجرد وحش… كان كائنًا يعرف أننا هنا، ويعلم أننا خائفون.
حاولت الزحف نحو جذع شجرة قريب، كل حركة كانت مؤلمة، لكن الغريزة دفعتني للأمام. حين وصلت، التصقت بالأرض محاولًا كتم أنفاسي.
من بين الغبار، سمعت خطوات ثقيلة… بطيئة… لكنها منتظمة. ثم توقفت فجأة.
صمت.
حاولت إلقاء نظرة دون أن أُلاحَظ… وهناك، في المسافة القصيرة بين الأشجار، رأيته.
وحش لم أر مثله من قبل.
جسمه المغطّى بالفرو الأسود الكثيف، وظهره الذي يشبه سنامًا مائلًا، وأنيابه التي تخرج حتى من خارج فمه. كان كائنًا أشبه بالكابوس، واقفًا في وضح النهار.
صوته أشبه بالأنين المكسور ... كأن الألم نفسه كان يخرج من حنجرته .
لكن الأكثر رعبًا… هو أنه لم يكن يهجم.
كان يراقب.
وكأنه يختبرنا.
صاحب العمل، الذي كان يقف خلف إحدى العربات المحطمة، رفع يده ببطء، مشيرًا للجميع بعدم الحركة.
لم يكن يريد القتال.
ولأول مرة، فهمت الحقيقة المُرّة.
لسنا صيّادين هنا…
نحن فقط فرائس، ننتظر من يقرر أيّنا سيلتهم أولًا.