عندما رجعنا إلى القرية، كانت الشمس قد أشرقت بالفعل، تلوّن السماء بدرجات برتقالية خفيفة تميل إلى الذهبي، وكأنها تحاول أن تغسل الليل الطويل بما حمله من توتر وأحداث مربكة. الهواء كان بارداً قليلاً، منعشاً لكنه يحمل في طياته صمتاً ثقيلاً. الأرض تحت أقدامنا كانت لا تزال رطبة من ندى الصباح، وصوت خطواتنا كان واضحًا في الطرقات شبه الفارغة.
قال صاحب العمل بصوت جاد وهو ينظر إلينا :
"يجب علينا الذهاب إلى أقرب مستشفى."
بدأنا نمشي بسرعة دون أي نقاش، وكأننا جميعاً متفقون على أن الوقت ليس في صالحنا. عيوننا تتبادل النظرات بين الحين والآخر، مررنا بمحلات مغلقة، منازل صغيرة بنوافذ خشبية، وبعض القرويين الذين بدأوا يومهم بالفعل، يتطلعون إلينا باستغراب أو بفضول صامت.
وأخيرًا، وصلنا إلى المستشفى.
كانت تقع على تلة صغيرة في أطراف القرية، بناؤها قديم بعض الشيء، لكنه لا يزال صامدًا بقوة. الحجارة التي بُنيت بها جدرانه رمادية باهتة، متآكلة في بعض الزوايا بفعل الزمن، ونوافذه الكبيرة محاطة بإطارات حديدية بلون أسود مطفأ. فوق المدخل الرئيسي، لافتة خشبية نقشت عليها كلمة "مشفى هيلدار" بخط كلاسيكي، يكاد يتلاشى من كثرة ما مر عليه من شتاء وصيف.
دفع ريغان الباب الخشبي الثقيل، ودخلنا.
رائحة المعقمات كانت أول ما استقبلنا، قوية ومألوفة. الأرضية نظيفة من البلاط الأبيض المصقول، تعكس الضوء القادم من النوافذ العالية. المقاعد الخشبية مصطفة على جانبي الممر، يجلس عليها عدد قليل من المرضى وبعض المرافقين بوجوه شاحبة وتعب واضح. الجدران مزينة برسومات قديمة لطفولة مريضة ومتفائلة، لكن الجو العام كان هادئًا بشكل غريب.
...
ما إن دخلنا من الباب حتى ركض إلينا رجل يرتدي معطفًا طبيًا أبيض ونظارة دائرية سميكة بعض الشيء، يحيط بها إطار معدني قديم الطراز. كان شعره أبيض بالكامل، لكن بطريقة مرتبة تدل على انضباطه، ووجهه حاد الملامح، عينيه تحملان نظرة حادة وثاقبة توحي بخبرة طويلة في الطب، أو ربما بالحياة عامةً .
---
اقترب بسرعة وحدّق في ماركوس الذي كان بين ذراعي صاحب العمل، ثم قال بصوت جاد دون تردد:
"يبدو أن حالته حرجة، يجب علينا أن نجري له عملية فورًا!"
لم يكن هناك وقت للنقاش. مدّ ذراعيه بحركة متمرسة، وأخذ ماركوس من صاحب العمل بحذر وسرعة في الوقت نفسه، وكأن جسده اعتاد على هذا النوع من الطوارئ. ثم التفت واندفع نحو ممر ضيق في نهاية القاعة، يقود إلى غرفة الطوارئ، وخلفه خطواته الثقيلة تتردد في صمت المكان.
أما نحن، فبقينا واقفين لثوانٍ، ثم جلسنا على الكراسي الخشبية المصفوفة على جانبي الممر، نظراتنا مركزة على الباب الذي ابتلعه مع ماركوس. لا أحد تكلّم، وكأن أي كلمة قد تُفسر على أنها أمل زائف أو يأس مبكر. كان الصمت سيد اللحظة.
كنا ننتظر... ننتظر تلك اللحظة التي سيخرج فيها الدكتور ليخبرنا بالحقيقة، أيًّا كانت .
---
مرّ الوقت ببطء قاتل، ونحن جالسون أمام باب الطوارئ، الكراسي الخشبية تحتنا بدت أقسى من المعتاد، وكل دقيقة تمرّ كانت كأنها ساعة. الصمت كان يهيمن على المكان، لا يُكسره سوى صوت خافت لعقارب ساعة بعيدة، ووقع خطوات ممرضين يمرّون بين الحين والآخر، بوجوه متعبة وأعين لا تنظر لأحد.
وفجأة، شعرت بألم حاد في فخذي الأيسر. كأنه شيء استيقظ بداخلي بعد أن ظلّ ساكنًا لوقت طويل. كان الألم يتسلل ببطء، ثم يشتد حتى بات يشبه طعنات متتالية. تجهم وجهي قليلًا، وضغطت بأسناني كي لا أُصدر أي صوت.
حينها فقط تذكرت أنني آذيت نفسي أثناء القتال. ربما لم أشعر بذلك حينها لأن الضغط والخوف غطّى على كل شيء. لم يكن جسدي يملك رفاهية الإحساس، تمامًا كما لم أملك رفاهية التراجع وقتها.
الآن، ومع هدوء اللحظة، عاد الألم ليطالب بحقه.
نظرت إلى الأرض، محاولًا تجاهل الألم، لكن فكرة واحدة كانت تطحن رأسي: أنا لا أملك المال الكافي. كل ما لدي مئة دولار ادّخرتها بشق الأنفاس، وكل ما أنفقته كنت أحسبه كما يحسب الجائع فتات الخبز. العلاج؟ الفحص؟ أي تدخل طبي سيأخذ مني ما لا يمكن تعويضه الآن.
والأسوأ من ذلك... جثة الوحش الذي قتله صاحب العمل تركناها خلفنا. لم نأخذها معنا، وهذا يعني أننا خسرنا الجائزة الأكبر. أنا بالذات لم أفعل شيئًا يُذكر في المعركة. لم أكن سوى عالة تحاول أن تتفادى الموت. إذًا... كيف لي أن أطالب بأي مكافأة؟ لن أحصل على شيء، هذا واضح.
تنفست بعمق، وتحاملت على نفسي. لا وقت للضعف. في هذا العالم، الألم لا يهم إذا لم يكن لديك مال، ولا أحد سيتوقف ليسأل إن كنت بخير.
مرّت الساعات بثقل لا يُطاق.
ثم... فُتح الباب.
خرج الطبيب الذي استقبلنا سابقًا، عرق خفيف يغطي جبهته، ونظارته مائلة على أنفه. خطواته كانت متثاقلة، وعيناه تبحثان عنّا بين الوجوه، لكن ملامحه لم تكشف شيئًا. قمنا جميعًا من أماكننا، وكأن شيئًا في قلوبنا انتفض دون إذن.
وقف أمامنا وقال بصوت متعب، لكنه مطمئن:
"لحسن الحظ... نجحت العملية. لكن حالته ما زالت حرجة، ويجب أن يبقى نائمًا هذا اليوم. سيحتاج إلى دواء منتظم لمدة شهر، حتى لا تحدث له تقلصات أو مضاعفات."
شعرت بارتياح مفاجئ يسري في صدري. لقد نجا.
لكن في زاوية قلبي، خيبة أمل صغيرة كانت تنتظر. لا أحد لاحظ إصابتي. حتى صاحب العمل، الذي رآني أجرّ نفسي في نهاية المعركة، لم يلتفت. لم يسأل. لم يتكلم.
ربما كنت أتوقع أكثر... أو ربما أنا فقط بدأت أفهم كيف يعمل هذا العالم.
...
ما إن انتهى الطبيب من كلامه، حتى بادره صاحب العمل بالسؤال بصوته الجاد المعتاد:
"إذاً... بما أنك عالجته، كم المبلغ الذي يجب دفعه؟"
رفع الطبيب حاجبيه بدهشة، ثم ابتسم ابتسامة خفيفة وقال:
"دفع؟ مال؟ لا، لا يا سيدي، يبدو أنك فهمتني بشكل خاطئ... هذا المشفى يعالج المصابين مجاناً. لا تحتاج إلى دفع أي شيء."
تجمد صاحب العمل في مكانه، وقال بدهشة واضحة:
"ماذا؟ مشفى تنقذ المصابين من دون أي شيء تريده؟ كيف لمكان كهذا أن يوجد؟"
لم يكن وحده من اندهش. حتى أنا... في عالمي السابق، نادرًا ما كنت أسمع عن شيء مماثل، وإن وُجد، فغالبًا ما يكون محاطًا بشروط خفية أو دعم حكومي غامض. فكرة أن يعالج شخص شخصًا آخر دون مقابل بدت شبه خيالية.
لكن... خطرت في بالي فكرة.
إذا كان هذا المكان يعالج المصابين مجانًا... فهل يمكنني أن أخبر الطبيب عن إصابتي؟ ألم فخذي لم يهدأ منذ ساعات، بل بات أكثر قسوة. ولكن... كيف سيكون شكلي إن فعلت؟ هل سأبدو كالمتسول؟ رجل لا يملك المال، ويطلب العلاج بالمجان؟ العار كان يثقل كاهلي حتى قبل أن أفتح فمي.
قطع تفكيري صوت صاحب العمل، وهو يسأل الطبيب مجددًا بنبرة مشككة:
"ما الهدف من مشفى تعمل بلا مقابل؟ أنتم تحتاجون المال لكي تستمروا، فكيف تعمل هذه المشفى حتى الآن؟"
ابتسم الطبيب بهدوء، وأجاب ببساطة:
"أوه، لا تقلق... أنا شخص غني. أدفع التكاليف كافة للممرضين والأطباء. لا نحتاج لمصادر تمويل خارجية. أما الهدف... فأنا أفعل ذلك بدافع الطيبة."
دافع... الطيبة؟
رددت العبارة في داخلي ببطء، كأنني أتذوقها لأول مرة. هل يوجد حقاً أشخاص كهؤلاء؟ أناس لا يسعون لمقابل؟ فقط... لأنهم طيبون؟
لم أكن بحاجة للإجابة، إذ قاطع أفكاري مجددًا صاحب العمل وهو يضحك ضحكة خفيفة وقال:
"بدافع الطيبة؟ ههههههه، بالتأكيد... بالتأكيد. على أي حال، شكراً لك."
بدت علامات الاستغراب واضحة على وجه الطبيب، لكنه لم يقل شيئًا. اكتفى بنظرة صامتة بينما صاحب العمل أكمل:
"لنذهب الآن."
تحركنا مغادرين، لكن قبل أن أُكمل خطوتي الثانية، سمعت صوت الطبيب يناديني:
"انتظر... يبدو أن رجلك ليست بحالة جيدة. من الأفضل لك أن تعالجها الآن."
تجمدت في مكاني.
نظرت إليه بذهول، كيف... كيف علم بذلك؟ كنت متأكدًا أنني أخفيت ألمي جيدًا، حتى طريقة مشيتي حاولت جعلها طبيعية قدر المستطاع.
أكمل الطبيب بابتسامة مطمئنة:
"لا تقلق، لن آخذ منك أي فلس."
نظرت إلى صاحب العمل، ثم إلى لوكسيان. عيونهم كانت معلّقة بي، والدهشة تملأ وجوههم. لكن صاحب العمل تحديدًا... كانت نظراته مختلفة. لم تكن دهشة فقط، بل كان هناك شيء آخر... شيء يشبه الندم. وكأنه تذكّر للتو أنني أُصبت... وكأنه لم يتجاهلني عمداً ، بل ربما هو فقط قد نسى ...
قاطع الطبيب سيل أفكاري بصوته الهادئ:
"ها؟ ما قرارك؟"
نظرت إليه، ثم إلى رجلي التي بدأ الألم فيها يتصاعد حتى كاد يصل رأسي. قلت في داخلي، قد أتت الفرصة إليّ بقدميها... فلماذا أرفضها؟
ترددت للحظة، لكنني عقدت قراري، ثم قلت:
"حسناً... أجل، الألم لا يُحتمل. سأكون شاكراً إذا عالجتني."