بعد أن أعطاني صاحب العمل المئة دولار ، نظرت إليه بامتنان. كان التعب واضحًا على وجهه لكنه ابتسم ابتسامة خفيفة.
قلت له:
"شكراً جزيلاً ... حقاً . "
هزّ رأسه وقال:
"أنت تستحقها، ماركوس في أمان الآن، وهذا أهم شيء."
ابتسمت بخفة ثم استدرت وخرجت من مكتب الصيد.
---
خرجت إلى الشارع، والضوء الذهبي للشمس بدأ ينتشر في الطرقات، يلامس جدران الأبنية الخشبية ويمنحها دفئًا لطيفًا بعد برودة الصباح.
كنت مرهقًا، وكل ما أردته هو أن أجد مكانًا أستطيع أن أستسلم فيه للنوم دون قلق. مشيت في الشوارع بهدوء، أراقب وجوه المارّة، خطواتهم، والمحال التي تفتح أبوابها تباعًا.
بدأت أتجول في الشوارع بحثًا عن نزل أنام فيه، وفي أحد الأزقة وجدت نزلًا صغيرًا اسمه "نزل الندى". كان النزل متواضعًا لا فخمًا ولا متهالكًا، جدرانه مطلية بلون كريمي دافئ، وأبوابه ونوافذه الخشبية تحمل لمسة قديمة تعكس بساطة المكان.
النوافذ من الخارج كانت صغيرة الحجم، مؤطرة بأخشاب داكنة، ومقسمة إلى أربع أقسام بزجاج شفاف بعضه به لمسة خفيفة من الغبار، مما يمنح النزل هالة من الألفة والدفء. كان هناك ستار بسيط خلف النوافذ، تسمح بضوء النهار بالتسلل إلى الداخل .
طرقت الباب، ففتحت فتاة تبدو في العاشرة من عمرها. كانت ذات شعر بني داكن ينسدل في ضفائر، وعينيها العسلية الواسعة تعكس فضولًا طفوليًا. ترتدي فستانًا بسيطًا لكنه نظيف، وحول عنقها قلادة شفافة تتلألأ في ضوء النهار.
قالت بحذر :
"م ...من أنت؟ وماذا تريد؟"
توقفت للحظة، ثم أجبتها:
"أريد فقط قضاء الليلة هنا."
قالت بخجل :
" انتظر للحظة . "
أغلقت الفتاة الباب، وبعد لحظات فُتح مرة أخرى، وكانت هذه المرة امرأة في الثلاثينات من عمرها، ذات ملامح لطيفة وعينين دافئتين، شعرها بني اللون مربوط بعناية.
قالت:
"سمعت من ابنتي أنك تريد البقاء الليلة. هل هذا صحيح؟"
أجبتها:
"نعم، هل يمكنني ذلك؟"
ابتسمت وقالت:
"بالتأكيد، طالما تدفع المبلغ."
سألتها عن السعر، فقالت:
"الليلة تكلف سبعة دولارات."
تنهدت، فكنت أعاني ماليًا، ومن الصعب جني المال ، لكن بما أنني ربما سأقضي ليلة واحدة فقط، قررت أن أرفه عن نفسي قليلًا.
دفعت لها المبلغ، ثم دخلت.
كان المكان بسيطًا ومرتبًا، فيه رائحة الخشب القديم المختلط برائحة الطبخ المنبعثة من المطبخ المجاور. المطبخ صغير لكن مرتب، به فرن حجري وموقد صغير ورفوف عليها أواني وأدوات طهي قديمة لكنها نظيفة.
أما الغرفة التي سأمكث فيها، فكانت بسيطة، بها سرير خشبي صغير مغطى ببطانية سميكة، وطاولة صغيرة بجانبها، ونافذة تطل على شارع هادئ.
لم أفكر كثيرًا، فقط أردت أن أغلق عيني وأنام.
...
تمددت على السرير، وكان الشعور مختلفًا هذه المرة. لا أعلم لمَ تحديدًا، لكن في تلك اللحظة، بدا السرير وكأنه يحتويني. لم يكن فاخرًا ولا مصنوعًا من الحرير، بل بسيطًا في كل شيء، لكنه كان ناعمًا على نحوٍ مريح، والوسادة تحت رأسي كانت خفيفة، كأنها قطعة من السحاب.
شعرت بعضلاتي تسترخي ببطء، وكأنها كانت مشدودة منذ أيام، والآن فقط أذنت لنفسها أن تنحل. أنفاسي بدأت تنتظم، وصوت الشارع البعيد خف تدريجيًا حتى تلاشى، تاركًا وراءه هدوءًا أقرب ما يكون إلى حضنٍ قديم.
لا أعلم إن كان شعوري بالراحة بسبب الرحلة الطويلة التي خضتها، أو ربما لكون ماركوس بخير أخيرًا، أو لهدوء المكان والبساطة التي تحيط بكل ركنٍ في النزل... أو ربما لأنني للمرة الأولى منذ زمن بعيد، أشعر بأن لا أحد يطاردني، ولا أحد ينتظر مني شيئًا.
تفكيري بدأ يتباطأ، وتخليت عن محاولة فهم السبب. هناك راحة في ألا تفهم كل شيء. هناك سلام خفيّ في أن تستسلم للحظة كما هي.
فقلت في داخلي :
"لا بأس، فقط استرح."
أغمضت عينيّ، وشعرت بجفوني تثقل شيئًا فشيئًا، والنعاس يتسلّل إلى أعماقي بخفة. لم أقاومه، بل رحّبت به كما يرحب المرء بصديق قديم تأخّر في الوصول.
ثم، ودون أن أدري، تركت النوم يلتهمني بهدوء...
وغفوت.
...
استيقظت على ضوء القمر الفضي وهو يتسلّل بخفّة عبر ستائر النافذة، يرسم خيوطًا باهتة على الأرضية الخشبية ويعكس ظلّ النوافذ على الجدار المقابل. كان النسيم الليلي يتسلّل من الشق الصغير في النافذة، يلامس وجهي بلُطف، وكأنه يُحاول أن يوقظني من حلمٍ ناعم لم أعد أتذكّر تفاصيله.
شعرت بانقباض خفيف في معدتي... صوت زقزقة بطني كان صريحًا بما يكفي ليؤكد لي أنني جائع. تأملت السقف للحظة، ثم تنفست بعمق ونهضت من على السرير. خطواتي كانت بطيئة، وكأن جسدي لم يخرج بعد من حالة السكون تلك، وحرارة السرير لا تزال عالقة في ظهري.
خرجت إلى الرواق بهدوء، كان المنزل ساكنًا إلا من صوت خافت لخشب الأرضية يتأوّه تحت أقدامي. نزلت الدرج ببطء وتوجّهت نحو باب الغرفة التي جلست فيها الأم سابقًا. طرقت الباب برفق، فسمعت حركة خلفه، ثم فُتح، وظهرت صاحبة النزل.
ابتسمت ابتسامة نصف ناعسة وقالت:
"استيقظت؟ كل شيء على ما يرام؟"
أجبتها بهدوء:
"أجل، فقط... أود تناول شيء ما، إن أمكن."
نظرت إلي للحظة، وكأنها تُفكّر، ثم قالت:
"تعال، سأسخّن لك بعض الحساء. لم يتبق الكثير من العشاء، لكن أظن أنه سيكون كافيًا."
دخلتُ خلفها إلى المطبخ الصغير، الذي عبقت فيه رائحة الخشب القديم ممزوجة برائحة المرق الخفيف. الموقد كان لا يزال دافئًا، ووعاء صغير على أحد رؤوسه. سكبت بعض الحساء في وعاء خزفي داكن اللون، ووضعته أمامي على الطاولة المستديرة.
جلستُ، وأمسكتُ بالملعقة الخشبية وبدأت أتناول الحساء. لم يكن شيئًا فاخرًا، لكنه كان دافئًا، بسيطًا، ويحمل طعمًا مألوفًا، طعم البيوت القديمة التي لا تحمل إلا الطمأنينة.
نظرت إليّ وهي تمسح يديها بمنشفة قطنية وقالت:
"غدًا سيكون لدينا فطائر إن بقيت."
ابتسمت وقلت:
"هذا يبدو جيدًا."
لم تُطل الحديث، تركتني مع طعامي، وغادرت. جلستُ آكل بصمت، شعرت وكأن صاحبة النزل هي أمي التي تعوضني عن غياب أمي الحقيقية في هذا العالم الغريب .