بعد أن أنهيت طعامي، توجهت إلى غرفتي الصغيرة في النزل ، لم يكن النعاس ضيفي تلك الليلة ، ولم يكن لديّ شيء يشغلني . كانت هذه أول مرة أمتلك فيها وقت فراغ حقيقيًا منذ قدومي إلى هذا العالم الغريب. جلست على سريري، وأطلقت العنان لأفكاري، تائهًا بينها. لم أدرك متى غفوت، وكأن النوم تسلل إليّ خلسة.

استيقظت على زقزقة العصافير اللطيفة وصباح مشرق يملأ الغرفة بضوء الشمس الدافئ. نهضت من مكاني بسرعة، وجهزت نفسي لأبدأ يومًا جديدًا من العمل. خرجت من النزل وأنا أشعر بقليل من الحماس ممزوج بالقليل من القلق، وعندما وصلت إلى مكتب الصيد، لاحظت أن الجميع قد تجمعوا هناك بالفعل. كان لوكسيان ونوكس وصاحب العمل وريغان، وحتى ماركوس، الذي بدا عليه التعب واضحًا لكنه أكثر تحسنًا مما كان عليه سابقًا. كان الجو مختلفًا اليوم؛ صخبٌ وحماسٌ يملأ المكان، وكأن شيئًا هامًا على وشك الحدوث.

اقتربت من نوكس، وقلت له:

"ما الذي يجري هنا؟ لماذا هذا الضجيج؟"

ابتسم نوكس بابتسامة خفيفة وقال:

"هل تذكر الوحش الذي هزمه صاحب العمل؟"

أجبت:

"نعم، أتذكره جيدًا."

أكمل نوكس حديثه بحماس:

"يبدو أن صاحب العمل قد أحضر جثة ذلك الوحش إلى هنا، وسلمها إلى مكتب الصيد. والمبلغ الذي يقدرونه فقط مقابل ذلك الوحش هو خمسة آلاف دولار!"

شعرت وكأن الأرض تبتلعني من شدة الصدمة. خمس... خمسة آلاف دولار؟! هل هذا نوع من المزاح؟ وكيف استطاع صاحب العمل جلب جثة ذلك الوحش بهذا الحجم؟

كانت أفكاري تتقاذف مثل الأمواج، حتى قاطع صاحب العمل الحديث بصوته الحازم:

"احم... احم... اسمعوني جيدًا جميعًا. لا شك أنكم مرهقون مما حدث مؤخرًا، ولهذا قررت أن أزيد المبلغ الموعود. سأعطي كل واحد منكم مئتي دولار إضافية."

ارتفعت الهمسات بين الحاضرين، تحولت من ذهول إلى فرح وحماس، أما أنا فكنت لا أزال عاجزًا عن التعبير، كأنني أتعرض لصدمة جديدة مع كل لحظة تمر.

أكمل صاحب العمل:

"الآن، ليصطف الجميع في صفوف، وكل واحد منكم سيحصل على راتبه."

امتثَلنا لأمره، واصطففنا في صفوف منظمة. كانت تعبيرات الوجوه مختلفة:

بعضهم فرح، وآخرون كانوا لا مبالين، وقليلون بدت على وجوههم ملامح القلق.

حين جاء دوري، شعرت بيداي ترتجفان حين مددت يدي لاستلام المال. كانت فرحة غامرة تغمرني، شعرت بنشوة لا توصف، أخيرًا حصلت على مبلغ محترم في هذا العالم الجديد. هذا المال سيكفيني للبقاء على قيد الحياة، رغم أنه لا يكفي لتحقيق حياة طبيعية أو للبحث عن عائلتي.

وقفت للحظة، أتأمل المبلغ في يدي، وأدركت أن الطريق أمامي لا يزال طويلًا وشاقًا، لكن هذه اللحظة كانت نقطة انطلاق، شعرت بشيء من الأمل ينبعث في قلبي.

...

بعد أن استلمت المبلغ من صاحب العمل، سرت مبتعدًا بضع خطوات، أراقب من بعيد زملائي وهم يصطفون واحدًا تلو الآخر لاستلام نقودهم. كانت وجوههم تحمل تعابير الإرهاق، ولكن شيئًا من الراحة كان واضحًا فيها، وكأنهم أخيرًا تنفسوا الصعداء بعد كل ما مررنا به.

وما إن انتهى صاحب العمل من توزيع المال، حتى رفع صوته قائلاً:

"حسنًا، ليذهب الجميع إلى العمل الآن!"

وقفت متجمّدًا في مكاني، وحدّثت نفسي بدهشة:

"أي عمل؟ نحن في قرية أخرى غير التي جئنا منها... فماذا يقصد بالعمل هنا؟"

لم أستطع كتمان حيرتي، فتقدّمت نحوه وسألته بصراحة:

"ماذا تقصد بأن نبدأ العمل؟ ألسنا في قرية مختلفة؟ هل هناك عمل حتى هنا؟"

التفت إليّ وقد بدت عليه ملامح التذكّر، ثم قال بنبرة فيها شيء من الاعتذار:

"آه، صحيح... لقد نسيت أنك غبت البارحة. حسناً... دعني أوضح لك ما حدث."

تغيّرت نبرته إلى الجدية، وأضاف:

"في الأمس كان كل شيء على ما يرام، وكنا نخطط للعودة إلى قريتنا. لكن فجأة جاء ريغان، وأخبرني بأن هذه القرية تملك فرصًا أكبر لكسب المال، فقد تحدّث مع بعض القرويين وعلم أن هناك أعمالًا موسمية مزدهرة هنا، خاصة في جمع الأعشاب الطبية والمواد التي يحتاجها صائدو الجبال."

توقف لوهلة ثم أكمل بنبرة هادئة:

"وبعد تفكير عميق، أدركت أن هذه الخطوة ستكون مفيدة للجميع. لا نحتاج للعودة فورًا، بل يمكننا أن نستثمر وجودنا هنا، نعمل لأيام قليلة، ونزيد من دخلنا. لقد تحدثت مع المسؤول عن هذه المنطقة، ورتبت الأمور بحيث نبدأ اليوم."

...

لم يكن لديّ ما أقوله... فقط سكنتني أفكار متشابكة، وغرقت في صمتٍ ثقيل. لم أكن أفكر في العمل أو المال أو حتى وجهتنا القادمة. كنت أفكر في النزل القديم... ذلك المكان الذي أصبح مألوفًا أكثر مما توقعت. وتذكّرت السيدة العجوز، صاحبة النزل، التي كانت دائمًا تستقبلني بابتسامتها المتعبة ونبرتها الدافئة رغم كِبر سنها ووحدتها، إذ لم تكن تملك أبناءً أو أحدًا يشاركها تفاصيل حياتها اليومية. كانت تعاملني كغريبٍ مألوف، لا ضيفًا مؤقتًا.

وتذكّرت المطعم الذي اعتدت زيارته، وتلك الزاوية الهادئة التي كنت أجلس فيها، والنادل الذي كان يقدّم لي الطعام كل مرة بنفس الهدوء والاحترام... لن أراهما مجددًا على الأرجح. شعرت بحزن خافت، يشبه غصة لا تنتهي... أعلم أن الأمر قد يبدو تافهًا، أن يحزن المرء على مكان مؤقت وأناس عابرين، لكن هذا جزء من شخصيتي ، أن أتعلق بالأناس ، أو الأشياء .

سألت صاحب العمل :

" ما هو نوع العمل الذي سوف نعمله ؟ "

فأجابني بصوتٍ جاد :

" أحياناً أعمال عادية ، وأحياناً نقوم بالصيد ، وأحياناً أشياء أخرى ، كل ما يخطر على بالك ولكننا لا نقوم بالأعمال السيئة . "

وقفت أمام صاحب العمل، وقلت له بصراحة:

" لكنك لم تخبرني عندما وظفتني أن طبيعة العمل ستكون بهذا الشكل. "

نظر إليّ بثبات، ثم أجاب بهدوء:

" ماذا يمكنني أن أقول؟ الظروف تغيرت فجأة، والقرار في النهاية يعود لك. إذا شعرت أن هذا لا يناسبك، يمكنك أن تستقيل في أي وقت. أما إن قررت البقاء، فاعلم أن المال سيكون جيدًا ."

ترددت للحظة، تدور في ذهني أفكار كثيرة، لكنني سرعان ما جمعت شجاعتي وقررت:

" أظن أنني سأبقى. فالعمل نادر، ولن أجد فرصة مثل هذه بسهولة. "

ابتسم صاحب العمل، وقال بثقة:

" لقد اتخذت القرار الصحيح. "

2025/06/06 · 7 مشاهدة · 898 كلمة
Toleen Jaber
نادي الروايات - 2025