حين أنهى صاحب العمل حديثه الحماسي، وتفرّق الجميع عائدين إلى أعمالهم، عدتُ أنا أيضًا إلى روتيني المعتاد: حمل الصناديق الثقيلة من طرف الساحة إلى العربة، تنظيف الأدوات المعدنية التي امتلأت بغبار المعركة، ترتيب المعدات في المخزن الصغير المجاور.
لكن رغم انشغالي الجسدي، كان ذهني يسبح في مكان آخر تمامًا.
لم يكن باستطاعتي نسيان ذلك المشهد... اليوم الذي ظهر فيه الوحش الغريب من بين الأشجار، يتنفس كأنفاس البركان، ويزمجر كوحش خرج من كابوس. ذلك اليوم، عندما رأيت نوكس يخطو بثبات، وتلك اللحظة تحديدًا، حين أخرج من العدم سيفًا أسود اللون، كأنما صيغ من العتمة نفسها. ثم تحرّك بخفة وهدوء قاتل، حتى بدا كأن الظل كان يرقص من حوله. إلى اليوم، لم أفهم ما الذي حدث بالضبط، لكنني علمت أن ما فعله لم يكن أمرًا عادياً.
لذا، وما إن أنهيت أعمالي، حتى قررت أن أذهب إليه مباشرة. كان يجلس عند طرف العربة، منشغلاً بشحذ خنجره الصغير. اقتربت منه بخطوات مترددة، لكن عزيمتي دفعتني للنطق.
قلت:
"نوكس... هل تذكر اليوم الذي قاتلتَ فيه ذلك الوحش الغريب؟"
رفع بصره إليّ ببطء، بعينيه الداكنتين اللتين لا تكشفان الكثير. ثم قال بهدوء:
"نعم، أذكره جيدًا."
ترددت لثانية، ثم أكملت:
"لقد رأيتك تخرج سيفاً أسود من العدم، لا أزال أتساءل حتى الآن... ما طبيعة تلك القدرة؟"
ساد صمت قصير. توقف عن شحذ خنجره، وأسند ظهره إلى العربة وهو ينظر إلى السماء الرمادية التي بدأت تغطّيها غيوم المساء.
قال بصوت خافت، لكنه يحمل شيئًا من الفخر:
"قدرتي تُدعى 'احتواء الظل'... أستطيع أن أتحكم بالظلال من حولي، وأحولها إلى أشكال مادية. أسلحة، جدران، أو حتى نسخ مني أحيانًا. الظل بالنسبة لي ليس مجرد ظلام... بل هو مادة خام."
شعرت بقطرات عرق باردة تنساب على ظهري، رغم أن الجو لم يكن حارًا. لم أكن أعلم أن القدرات يمكن أن تبلغ هذا الحد من التعقيد والجمال في آنٍ واحد. كيف لإنسان أن يختبئ داخل ظل، أو يصنع منه سيفًا؟
نظرت إليه طويلاً دون أن أقول شيئًا، ثم ابتسمت ابتسامة باهتة. شعرت فجأة بثقلٍ في صدري... لم يكن بسبب الصناديق التي حملتها طوال اليوم، بل بسبب سؤال ظل يراودني منذ أن جئت إلى هذا العالم:
هل سأمتلك يومًا قدرة مثل هذه؟
نظرت إلى يديّ... إلى راحتيّ الخاليتين، وتذكرت أول يوم دخلت فيه هذا العالم. لم أكن أملك حينها سوى عشرة دولارات، وهاتفٍ لا يعمل، وقلم. واليوم، ما زلت لا أملك سوى الإرادة... فهل تكون كافية؟
---
... وبعد أن انتهى نوكس من حديثه، نهضتُ بصمت وتركته يعود إلى تأمل ظلال المساء من حوله. كنت لا أزال مأخوذاً بطبيعة قدرته، لكنّ فضولي لم يكن قد شبع بعد.
لقد رأيت لوكسيان أيضًا في ذلك اليوم، يقاتل بجنون وغرور، لكن بشيء من البراعة. كان الضوء يحيط به كما لو أن الشمس قررت أن تسكن جسده للحظة، وقد بدا كفارس أسطوري خرج من رواية قديمة، لكن بلغة هذا العالم الغريب. لم أستطع أن أنسى كيف انفجر من حوله ضوء حارق، ثم ظهر في يده سيف مضيء يشع بحرارة لا تحتمل. كيف فعل ذلك؟ وهل كان ذلك أيضًا قدرة فريدة؟
نظرت حولي، فرأيته يجلس على جذع شجرة عند حافة الطريق، مسترخياً وكأن لا همّ في العالم يثقل كاهله. كان يميل إلى الخلف ويداه وراء رأسه، يراقب الغروب بنظرة لا تخلو من الثقة بالنفس.
اقتربت منه، فتحت فمي لأتكلم، لكنه سبقني وقال بصوت يحمل نبرة سخرية:
"أوه... أنت. جئت لتسأل عن قدرتي أيضاً؟"
ارتبكت قليلاً، لكنه تابع دون أن ينتظر ردي:
"حسناً... بالتأكيد شخص مثلك سوف يتفاجأ عندما يرى قدرتي. في الحقيقة، أنا صُدمت لأنه لم يُغمَ عليك حين رأيتها."
ضحك بخفة، ثم اعتدل في جلسته، ونظر إليّ بعينين يشعّ منهما بريق غريب، بريق من نوع لا يأتي إلا من شخص يعرف تماماً ما يملكه، ويفتخر به.
قال:
"قدرتي... تدعى نصل الضياء ، تتمحور حول التحكم بالضوء. أستطيع إشعاله، تشكيله، تحويله إلى أي شيء أريده، لكن أكثر ما أحب فعله... هو تحويله إلى سيف."
رفع يده اليمنى، وكأنما يستدعي شيئاً، ثم قال بهدوء:
"مثل هذا."
وفي لحظة، لمع في الهواء وهج خفيف، ثم ظهر في يده سيف يتلألأ بالنور، كأن شعاع شمس تجمّد في مكانه. كان السيف أبيض اللون، حوافه تشع بنبض من الضوء، وكأن له حياة خاصة.
"تقريباً مثل قدرة نوكس، أليس كذلك؟"
قالها وهو يبتسم، ثم أضاف بنبرة خفيفة من التعالي:
"لكن قدرتي أقوى، لأن الضوء أسرع من الظل، وأقسى منه... والأهم، أنه جميل."
بقيت أنظر إلى السيف، مندهشاً من جمالية الضوء، من وضوحه وسحره، من قوّته وهدوئه في آن واحد. لم أستطع نكران شيء واحد ...
لوكسيان ربما كان مغرورًا... لكنه يملك ما يبرر ذلك.
أخفى السيف فجأة، وكأن الضوء انطفأ من الوجود، ثم قال:
"لا تقلق، ربما يظهر لك شيء ما يومًا ما. وإن لم يظهر، فربما تكون قدرتك... أنك تتحمل كل هذا."
ابتسم ابتسامة جانبية ساخرة، ثم عاد إلى وضعية الاسترخاء.
أما أنا، فبقيت واقفًا في مكاني، تتقاذفني مشاعر مختلطة من الدهشة والحيرة، وربما شيء من الغيرة الخفية. قدرتان، واحدة من الظل، وأخرى من الضوء... وأنا؟ ما زلت بلا قدرة.
لكن رغم كل شيء، في داخلي كان هناك أمل صغير .