بعدما أنهيت حديثي مع لوكسيان، وقد بقي صدى كلماته يدور في رأسي كأنها نُقشت هناك، شعرت أنني بحاجة إلى مساحة للهدوء... شيء يُخرجني من كل هذا الزخم الذي اجتاحني في الأيام الأخيرة.

كان المساء قد حلّ، وسماء هذا العالم بدأت تكتسي بلونٍ رماديّ قاتم، تتسلل منه خيوط شاحبة من ضوء الشمس المحتضرة. الهواء كان يحمل نسمات باردة، تدغدغ الوجه وتُذكرني بشهر الخريف في عالمي السابق. تنفست بعمق، ثم سرت نحو النُزل بخطى بطيئة.

وحين وصلت إلى بابه الخشبي العتيق، استقبلتني رائحة دافئة... مزيج من القرفة والعجين الساخن، وكأنها ذراعان غير مرئيتين تحتضنان من يدخل.

فتحت الباب ودلفت، لتقابلني صاحبة النُزل بابتسامة خفيفة، لا تخلو من المودّة، وكأنها اعتادت رؤيتي صامتًا ومرهقًا عند هذا الوقت كل مساء.

قالت، بنبرة فيها شيء من الدعابة:

"يبدو أنك ستبقى هنا لليوم أيضًا."

أومأت برأسي دون كلمة. كان التعب قد استقر في عظامي، لكنه لم يكن جسديًا فقط... كان تعبًا داخليًا، ثقيلاً، لا تداويه سوى لحظة سلام صادقة.

ابتسمت ابتسامة صغيرة، ثم أشارت بيدها نحو الداخل:

"إذاً، اذهب واغسل يديك. لقد جهّزت فطائر التفاح."

لم أكن أحتاج إلى دعوة ثانية.

ذهبت إلى المغسلة الصغيرة في الزاوية، الماء كان باردًا، لكنه أنعشني. رأيت يديّ المتعبتين تحت الماء، وتذكرت كم من الأيام مرّت وأنا أستخدمهما لأحمل، وأمسك، وأقاوم، دون أن أشعر بهما كجزء مني.

حين عدت إلى مائدة الطعام، كانت الطفلة هناك أيضًا. تجلس على كرسيها الخشبي الصغير، تراقبني بعينيها الواسعتين، وفي وجهها نظرة بريئة تحمل ألف سؤال دون أن تنطق بشيء. جلست بهدوء، وألقيت نظرة على المائدة.

كانت هناك فطيرة تفاح واحدة... لكنها بدت وكأنها تكفي لعالمٍ بأكمله. القشرة ذهبية اللون، مقرمشة الحواف، والبخار يتصاعد منها بلطف، يحمل معه عبق التفاح والقرفة والزبدة المذابة. كان هناك سكين صغير في المنتصف، وسكين آخر أمامي.

أخذت قطعة منها، ببطء، كأنني أخشى أن أُفسد جمالها. وما إن وضعتها في فمي، حتى شعرت بشيء يتفجر بداخلي. كانت حلاوتها معتدلة، تتسلل ببطء، والقرفة تمنحها دفئًا لا يشبه أي طعام ذقته من قبل. شعرت كأنني أذوب... كأنني في عالم مختلف، عالم لا يوجد فيه خوف، ولا ظلال، ولا قدرات خارقة... فقط فطيرة، ومساء هادئ، ودفء منزل بسيط.

نظرت إلى الطفلة، فابتسمت لي ابتسامة صغيرة، ثم عادت لتأكل. لم يكن هناك حاجة للكلام... في تلك اللحظة، كان كل شيء واضحًا.

لم أتذوق شيئًا كهذا منذ وصولي إلى هذا العالم.

لا، بل ربما لم أتذوق شيئًا كهذا في حياتي كلها.

كانت فطيرة التفاح تلك... ببساطة، طعمًا صغيرًا من الوطن.

---

جلست أتناول فطيرة التفاح بصمت، وكل قضمة منها كانت تُعيد إليّ جزءًا صغيرًا من نفسي التي تاهت في هذا العالم. كان في نكهتها شيء يشبه الحنين... شيءٌ يُربت على القلب كما كانت تفعل أمي حين تشعر بأنني متعب، دون أن أقول شيئًا.

في لحظة صامتة، نظرت إلى صاحبة النزل، تلك المرأة التي لا أعرف حتى اسمها الحقيقي، لكنها كانت تعاملني بلطف غير مشروط، وتُعد لي الطعام، وتقلق لغيابي، وتبتسم لي رغم صمتي الدائم. شعرت حينها، ولأول مرة، أن هذه المرأة تُشبه أمي... ليست أمي، لا أحد يمكنه أن يحلّ مكانها، لكن هناك شيء في عينيها، في صوتها، في دفء تصرفاتها، جعلني أُدرك أن الأمهات لسن دائمًا من نولد من أرحامهن فقط.

أما الطفلة، التي جلست بهدوء تأكل قطعة الفطيرة بجانبي، فقد بدأت ملامحها تذكرني بأختي الصغيرة. كانت تراقبني بنظرات مليئة بالبراءة، ثم تبتسم دون سبب واضح، كما كانت تفعل أختي حين تجدني مرهقًا بعد يوم طويل. وبرغم اختلاف الملامح، واختلاف العالم، شعرت أنها تشبهها... في طريقتها في الجلوس، وفي هدوئها، وحتى في طريقة مضغها للطعام ببطء، كما لو أنها تستمتع بكل لحظة.

لم أكن أعلم أن شيئًا بسيطًا كهذا المشهد... مائدة، وفطيرة، وطفلة، وامرأة... يمكن أن يُعيد إليّ هذا الكم من الذكريات. شعرت فجأة بثقل في صدري، ليس من الحزن، بل من الامتنان. امتنانٌ صامت لهذه اللحظة التي جعلتني أشعر أنني لست وحيدًا تمامًا.

وحين أنهيت طعامي، وضعت الشوكة جانبًا، ومسحت فمي ببطء، ثم نظرت إلى صاحبة النزل وقلت بهدوء:

"شكرًا لكِ... كانت لذيذة حقًا."

أومأت لي برأسها مبتسمة، ولم تقل شيئًا .

غادرت المائدة بهدوء، وتركت خلفي دفء الطعام والمشاعر المتداخلة، وصعدت الدرج الخشبي المؤدي إلى غرفتي. كانت الأرضيات تصدر صريرًا خافتًا مع كل خطوة، وصوت الريح بالخارج يُعانق زجاج النوافذ برقة. وصلت إلى باب الغرفة، فتحته، ودخلت.

السرير كان كما تركته... بسيطًا، لكن له حضور خاص، كأنه ينتظرني كل ليلة ليروي لي حكايات الراحة بعد عناء اليوم. ألقيت نظرة أخيرة على الغرفة، ثم جلست على السرير، خلعت حذائي ببطء، واستلقيت.

شعرت بجسدي يغوص في الفراش كأنه أخيرًا وجد حضنًا مؤقتًا يرتاح فيه. أغمضت عينيّ، وداخل قلبي أمنية صغيرة...

لو كان بإمكاني أن أقول لأمي وأختي إنني بخير، ولو للحظة.

2025/06/07 · 6 مشاهدة · 727 كلمة
Toleen Jaber
نادي الروايات - 2025