استيقظت في اليوم التالي على صوت العصافير التي تغني فوق أشجار القرية. كان صباحًا عاديًا آخر... لا رسائل غامضة، لا ظهور مفاجئ لمهام أو قدرات، لا شجارات أو مواجهات... فقط أنا، والسماء الرمادية، وروتين العمل.

ذهبت إلى موقع العمل كالمعتاد. الصناديق كانت في انتظار من يحملها، الأسلحة تنتظر من ينظفها، والعمال يتنقلون بأجسادهم المتعبة ووجوههم الشاحبة. كنت أعمل بصمت، وعقلي يجترّ كل ما مررت به مؤخرًا... حواري مع لوكسيان، لحظة دفء النُزل، تلك الفطيرة التي ذكّرتني بأمي، ونظرات الطفلة الصغيرة التي خيّلتها أختي. لم يحدث شيء مميز خلال اليوم، سوى هذا الصمت الذي كان يتضخم داخلي.

وحين حلّ المساء، عدت إلى النُزل كعادتي. الباب الخشبي استقبلني بصوت صريره المعتاد، والهواء الدافئ الذي تسلل من الداخل بدا وكأنه يحضنني. دخلت، فرفعت صاحبة النُزل رأسها من خلف الطاولة، وابتسمت لي ككل يوم، ابتسامة خفيفة، دافئة، أشبه بتلك التي كانت أمي تمنحني إياها عندما أعود متعبًا من المدرسة في الماضي .

جلست على المائدة، وعلى غير عادتي، شعرت برغبة غريبة في طرح سؤال لطالما راودني.

نظرت إليها وسألت، بنبرة فضولية ممزوجة بشيء من التردد:

"هل... هل زوجك يعيش معك هنا؟ لم أره من قبل."

تجمدت ملامحها للحظة. لم تتغير نظرتها كثيرًا، لكنها سكنت، وكأن الزمن توقف لثانيتين. فجأة، أدركت ما قلت... وتذكّرت عشرات مشاهد الأنمي التي يبدأ فيها شخص ما سؤالًا بريئًا، فينتهي بجملة صادمة: "لقد مات".

شعرت بندم فوري. تمنيت لو سحبت السؤال من الهواء قبل أن يصطدم بقلبها. هممت بالاعتذار، ولكنها قاطعت أفكاري بصوتٍ هادئ، خافت كأنه خارج من عمق حزن قديم:

"أنا... لا أعلم."

رفعت نظري نحوها، مستغربًا، فقلت بهدوء:

"ماذا تقصدين؟"

أخذت نفسًا عميقًا، ونظرت نحو النافذة كأنها تسترجع شيئًا من ماضٍ بعيد، ثم بدأت تتحدث بصوت يشبه الهمس:

"كنت أعيش في مدينة أخرى، في عالمٍ آخر... كان زوجي يعمل، وأنا أعتني بابنتي الصغيرة. في صباحٍ عادي تمامًا، استيقظت لأجد نفسي هنا. لا باب منزلنا، لا شوارع مدينتنا... فقط هذه القرية. كنت أظن أنني أحلم، أو أنني فقدت صوابي."

سكتت لوهلة، ثم تابعت:

"حاولت أن أستوعب ما حدث، فسألت من حولي. لم أكن الوحيدة... قيل لي إن هناك كثيرين جاؤوا فجأة من عوالم مختلفة. وأن من المحتمل أن يكون زوجي قد انتقل هو الآخر، لكن إلى مكان مختلف."

نظرت إليّ حينها، وقد بدا في عينيها بريقٌ خافت من رجاء، وقالت:

"لم أكن أملك مالًا كافيًا للبحث عنه. عملت في كل شيء: التنظيف، الطبخ، المساعدة في الحقول... حتى جمعت ما يكفي لشراء هذا النُزل الصغير. اخترت هذا المكان لأنه يضمن دخلًا ثابتًا، وقدرت على البقاء فيه دون التنقل. كنت أقول لنفسي دائمًا: سأجمع المال... وسأبحث عنه. أنا فقط أتمنى... أن يكون بخير."

سادت لحظة من الصمت، لكنها لم تكن فارغة... بل كانت مشبعة بثقل المشاعر.

جلست هناك، أحدق في طاولة الطعام، ولم أجد ما أقوله. للمرة الأولى منذ مجيئي إلى هذا العالم، شعرت أنني لست وحدي. لست الوحيد الذي تمزقت عائلته . هناك آخرون مثل هذه المرأة، يسيرون في دروب مختلفة لكنهم يحملون الألم ذاته، الحنين ذاته، والأمل ذاته.

نظرت إليها مجددًا، ولكن هذه المرة بعينٍ جديدة... لم تعد فقط صاحبة النُزل. لم تعد فقط المرأة التي تُعد الفطائر وتبتسم بهدوء. كانت أمًّا تحاول أن تتمسك بخيط أمل رفيع في عالمٍ مبعثر.

أدركت حينها أن القصص لا تُقال كلها، وبعض الحكايات تُختبأ خلف الهدوء والروتين... وأن في أعين الناس أكثر مما نراه من الخارج.

...

بعد أن أنهيت حديثي المؤثر مع صاحبة النُزل، شعرت أن قلبي أثقل مما كان عليه قبل لحظات. كلماتها ظلّت تتردد في ذهني، تحمل معها وجعًا مألوفًا وأملًا هشًّا يشبه أملي. استدرت ببطء متجهًا إلى غرفتي، أبحث عن بعض الراحة من كل هذه المشاعر المتداخلة.

لكنني قبل أن أصعد الدرج، شعرت بنظرة تتابعني. رفعت رأسي قليلًا، وهناك، عند زاوية الممر المؤدي إلى غرف الطابق العلوي، كانت الطفلة الصغيرة، ابنة صاحبة النُزل، تراقبني من خلف الجدار، لا يظهر منها إلا نصف وجهها وعينيها الكبيرتين الفضوليتين.

توقفت في مكاني، ثم اقتربت منها بخطى هادئة، وانحنيت قليلًا لمستواها، وقلت بنبرة مازحة محاولًا كسر توترها:

"لماذا تراقبينني أيتها المتسللة الصغيرة؟ هل تظنينني مجرمًا؟"

ارتبكت الفتاة، وبدت وكأنها لم تتوقع أن ألاحظها. تراجعت خطوة إلى الخلف، وبدأت تلوك كلماتها بخجل، ووجهها احمرّ كالتفاحة:

"أ... أنا آسفة... لم أكن أقصد... أنا فقط... أردت أن أصبح صديقة لك..."

توقفت لثانية، وأنا أتمعن في ملامحها، ثم ارتسمت على وجهي ابتسامة دافئة لا إرادية. لم أتوقع جوابًا كهذا. كان صادقًا، بريئًا، ونقيًا إلى درجة جعلت قلبي يلين.

قلت لها بلطف:

"إذاً، لا داعي لمراقبتي من بعيد. نحن أصدقاء من الآن، اتفقنا؟"

رفعت الفتاة رأسها، وحدّقت في وجهي بعينين متسعتين كأنها سمعت للتو حلمًا تحقق. تمتمت باندهاش، وبصوت يكاد يُسمع:

"حقًا؟!"

ضحكت بخفة وأجبتها:

"نعم، حقًا. وعد الصديق الجديد."

هنا انفرج وجهها عن ابتسامة نقية، من تلك الابتسامات التي لا تصطنع ولا تُدرّب، ابتسامة تخرج من القلب مباشرة. ثم قالت بحماس ممزوج بالفرح والدهشة:

"أنت أول صديق لي منذ قدومي إلى هذا العالم!"

كلماتها لم تمر مرور الكرام... شعرت بشيء ثقيل يستقر في صدري. تخيلت مدى الوحدة التي شعرت بها طفلة مثلها في عالم غريب، بلا أصدقاء، بلا أطفال يركضون حولها، فقط أمٌ مشغولة ونُزل يملؤه الغرباء.

أخفيت مشاعري كعادتي، وقلت بابتسامة خفيفة:

"أوه، إذن إنه لشرف عظيم لي أن أكون أول صديق لكِ!"

ضحكت ضحكة صغيرة، ثم اقتربت مني بخطوتين وقالت:

"إذاً، هل تلعب معي، أيها العم؟"

تجمدت لوهلة، ونظرت إليها ببطء، قلت في نفسي: "عم؟! أنا في العشرين فقط!"

لكنها كانت تحدّق بي بعينين لامعتين، مليئتين بالأمل والفرح، فأجبتها مازحًا:

"همم... حسنًا، أي لعبة في بالك أيتها الآنسة الصغيرة؟"

ردّت بحماس شديد، ويداها تتحركان في الهواء:

"لعبة الغميضة! أنا أعدّ وأنت تختبئ!"

ابتسمت، ثم تنهدت قليلاً وكأنني أستعد لمهمة مصيرية، وقلت لها:

"حسنًا، لكن لا تغشي، اعدّي ببطء."

قفزت مكانها بحماس، وبدأت تعدّ وهي تغطي وجهها بكفيها الصغيرتين:

"واحد... اثنان... ثلاثة..."

وانطلقت وأنا أبحث عن مكان مناسب للاختباء، أركض بين الأروقة الخشبية للنُزل، محاولًا ألا أُحدث ضجيجًا. نسيت للحظة أنني في عالم غريب، نسيت صيد الوحوش، نسيت حتى قلقي الدائم... فقط ركضت، وقلبي يضحك.

وربما... للحظة بسيطة جدًا، شعرت وكأنني عدت طفلًا من جديد.

2025/06/07 · 5 مشاهدة · 950 كلمة
Toleen Jaber
نادي الروايات - 2025