مرت عدّةُ أيامٍ منذ أن وطأت قدماي قريةَ "فيلونا"، وبدأتُ حياةً جديدة بين أزقتها المتناثرة ونزل "الندى" الذي صار مأوى مؤقتًا لجسدي وروحي. ومع مرور الوقت، بدأت أعتاد هذا المكان... وجوهٌ جديدة، رائحة الخبز الطازج كل صباح، وصوت الطفلة الصغيرة وهي تركض ضاحكة في الممرات. شيئًا فشيئًا، لم تعد صاحبة النزل مجرّد سيدة كريمة تؤجّر الغرف، بل أصبحت شيئًا يشبه الأم، أو ربما ظلًا خافتًا لذلك الشعور الذي أفتقده منذ زمن طويل.
وها هو اليوم الذي كنت أنتظره قد حلّ أخيرًا... يوم الإجازة. لا أعلم لماذا كنت أعدّ الأيام له بلهفة، رغم أنني كنت سأقضي نصفه في الطريق. ربما لأن في داخلي شيئًا لم يُغلق بعد، نافذة تطل على ماضٍ قصير لكنه كان محوريًا في تشكيل ما أنا عليه اليوم. أردت العودة إلى القرية السابقة، ولو لمرةٍ أخيرة، لأودّع المكان والأشخاص الذين رافقوني في خطواتي الأولى في هذا العالم الجديد.
استيقظت مبكرًا على غير عادتي، وارتديت ملابسي بعناية كما لو كنت أتهيأ لزيارة شخصٍ عزيز، لا لرحلة عابرة. أعددت حقيبتي الصغيرة، رغم أنني لم أكن أنوي البقاء طويلًا. مررتُ إلى البهو حيث كانت الطفلة الصغيرة تلعب بحصان خشبي مهترئ، وما إن رأتني حتى قفزت إليّ واحتضنتني بعفويتها المعتادة.
"هل ستعود قريبًا؟"
سألتني بعينين واسعتين.
ابتسمتُ بمرارة وأجبتها:
"سأحاول."
ثم ودّعت صاحبة النزل، التي لم تقل الكثير، لكنها نظرت إليّ نظرةً فهِمت منها أكثر مما كانت لتقوله الكلمات. خرجت من النزل بخطى ثابتة، وقلبي مزيج من الحنين والتردد.
كان الطريق إلى القرية السابقة يمر عبر سهولٍ واسعةٍ وطرق ترابية متعرجة، تحيط بها أشجار الصنوبر من الجانبين، تهتز أوراقها مع كل نسمة هواء. في البداية كان الجو لطيفًا، والشمس دافئة دون أن تكون حارقة، وكأن الطبيعة قررت أن تمنحني وداعًا هادئًا. لكن مع مرور الوقت، وتقدّم الشمس في كبد السماء، بدأ التعب يتسلل إليّ. العرق يتصبب من جبيني، وقدماي أثقل مما توقعت، لكنني لم أتوقف. كنت أريد الوصول... فقط الوصول.
وبعد ساعتين من المشي المتواصل، لمحت أطراف القرية القديمة، تلك القرية التي احتضنت بدايتي. شعرت كأنني أقترب من حلمٍ قديم، أو شريط ذكريات سينتهي بمجرد أن تطأ قدماي حدودها. وقفت للحظة عند مدخلها، أتنفّس بعمق، أجمع شتات أفكاري، ثم خطوت أول خطوة داخل القرية.
كان شعورًا مختلفًا، موجة حزن خفيفة اجتاحتني، ممزوجة بشيءٍ من الهدوء. كنت أعلم في أعماقي أن هذه الزيارة قد تكون الأخيرة، وأن هذه الأزقة، وهذه الوجوه التي اعتدت رؤيتها، قد لا أراها ثانيةً. كل زاوية في القرية كانت تحمل ذكرى... النزل القديم، حيث كانت بداياتي المتواضعة، النادل الهادئ الذي لم يكن يتحدث كثيرًا لكنه كان يبتسم بصمتٍ يشبه الطمأنينة، وصاحبة النزل التي منحتني سقفًا حين لم يكن لي مكان أنتمي إليه.
وحتى الغابة... نعم، الغابة التي كانت أول من استقبلني في هذا العالم، بمخاوفها وهمساتها ونسماتها الباردة. هناك، حيث كنت نائمًا ذات ليلة على العشب الرطب، أجهل كل شيء، لكن قلبي كان مليئًا بالأمل.
اليوم، عدتُ لأضع نقطة نهاية لهؤلاء جميعًا. لا بفراقٍ قاسٍ، بل بوداعٍ صامت، يشبه هدنة بيني وبين الحياة.
...
قررت أن تكون محطتي الأولى في هذا الوداع الطويل هي المطعم الصغير الذي طالما كان ملجأ لي بعد يوم عمل شاق. لم يكن المكان فخمًا، بل بسيطًا إلى حدٍّ يجعل المرء يشعر أنه مألوف حتى لو زاره مرة واحدة فقط. لكن بالنسبة لي، كان يحمل شيئًا من الطمأنينة التي لا تُشرح، فقط تُحَسّ.
سلكت الطريق المؤدي إليه بخطى بطيئة، كأنني أحاول سرقة الوقت قبل أن أصل. وعندما بلغت بابه الخشبي، دفعت الباب برفق، فانبعث صوت الجرس المعلق في الأعلى كتحية خافتة. لم يكن هناك الكثير من الزبائن، كما اعتدت دائمًا، وربما لهذا أحببت هذا المكان.
مشيت بهدوء إلى الطاولة التي كنت أجلس عليها دائمًا، الزاوية الصغيرة القريبة من النافذة، حيث يمكنني أن أرى الشارع الترابي والحياة البسيطة في الخارج. جلست بصمت، أراقب الضوء وهو يتسلل من زجاج النافذة ليشكل خطوطًا دافئة على الطاولة، وكأن الشمس نفسها كانت تعرف أنني أودّع هذا المكان.
ثم سمعت صوت خطوات منتظمة تأتي من الداخل. التفتّ، وإذا به هو... النادل الهادئ. لم يتغير كثيرًا، ما زالت نظرته نفسها، هادئة كالماء الراكد، وصوته منخفض كأنه يخشى أن يوقظ الصمت.
قال وهو يقترب مني بابتسامة خفيفة:
"لم أرك منذ وقتٍ طويل."
نظرت إليه وابتسمت بدوري، شعرت بدفء غريب في قلبي، وقلت بهدوء:
"وأنا كذلك."
لم يعلق كثيرًا، فقط أومأ برأسه، ثم قال بنفس النبرة التي اعتدت سماعها منه كل مرة:
"كالعادة؟"
أجبت دون تفكير، وكأن الزمن لم يمضِ، وكأننا ما زلنا نعيش نفس الأيام:
"نعم، كالعادة."
ابتعد بخطواته الرتيبة، وتركني مع أفكاري. كنت أتأمل المكان بعينٍ مختلفة، وكأنني أراه للمرة الأولى. كل تفصيلة فيه بدت وكأنها تودعني أيضًا... الطاولة الخشبية ذات الزاوية المهترئة، الكوب الزجاجي المتشقق قليلاً، والملعقة التي دائمًا ما تميل نحو اليمين.
وبعد لحظات، عاد النادل وهو يحمل الطبق المعتاد، ذلك الطبق الذي لم أطلب غيره منذ أول مرة جلست فيها هنا. وضعه أمامي بصمت، أومأ برأسه وقال :
" لن أنسى وجهك . "
ثم غاب عن نظري كما اعتاد أن يفعل دومًا. لم يقل شيئًا آخر، ولم يكن بحاجة لذلك. كأن بيننا اتفاقًا غير معلن على الاكتفاء بالقليل من الكلمات.
نظرت إلى الطبق... كان كما عهدته: بسيطًا، لكنه دافئ المظهر، مثل حضنٍ غير مرئي يُطَمئن قلبك. أمسكت بالملعقة، وبدأت بتناول الطعام ببطءٍ متعمد. كنت أريد أن أتذوق كل قضمة كما لو كانت الأولى، وكأنني أخزن الطعم في ذاكرتي حتى لا أنساه أبدًا.
في هذه اللحظة، لم أكن مجرد زائر لمطعم، بل كنت إنسانًا يودّع جزءًا من حياته. جزءًا ربما لم يكن الأعظم أو الأجمل، لكنه كان صادقًا، بسيطًا، وواقعيًا بما يكفي ليترك أثرًا.