بعد أن انتهيت من تناول وجبتي، وألقيت آخر نظرة على المطعم، وعلى النادل الذي لم يعد مجرد غريب بل صار وجهًا مألوفًا من وجوه هذا العالم... حيّيته بابتسامة صادقة، وردّ لي التحيّة بإيماءة دافئة، وكأنّه يعلم في قرارة نفسه أنني لن أعود.

غادرت المطعم بخطوات بطيئة، أحمل معي شبعًا في المعدة... وشيئًا أثقل في القلب.

كانت وجهتي التالية واضحة. الغابة. أول مكان احتضنني حين كنت غريبًا تمامًا عن هذا العالم... وحيدًا لا أملك سوى عشرة دولارات، وهاتف، وقلم.

سرت نحوها كأنني أسير إلى حضن أمٍ قديمة.

وعندما وصلت، وجدت البقعة نفسها. لم يتغير شيء. الأشجار كما هي، مائلة قليلًا كأنها تهمس بالأسرار القديمة، وورقها يتراقص مع الريح كما كان، وصوت النهر ينساب من بعيد بنفس الإيقاع الذي سمعته في أول ليلة لي هنا.

كل شيء فيها بدا وكأن الزمن قد توقف، أو كأنها كانت تنتظرني لأعود... لوداع أخير.

جلست على الأرض المبللة بندى الذكريات، ومددت بصري عبر الأشجار...

هنا نمت جائعًا، وهنا حلمت بأهلي، وهنا تمنّيت لو كانت هذه الحياة مجرد كابوس.

لكني نجوت، وتغيّرت، وهذه البقعة شهدت كل شيء.

تنهدت تنهيدة طويلة، وكأنها كانت تحمل شهورًا من التعب والخوف والتعلّق، ثم وقفت، وألقيت على المكان نظرة أخيرة، وتمتمت:

"شكرًا لأنك كنت البداية."

حان الآن وقت الوداع الأصعب...

نزل السنابل.

ذاك البيت الخشبي المتواضع الذي حمل داخله رائحة الحساء، وحنانًا لم أجده في أي مكان.

كانت صاحبته بالنسبة لي... أكثر من مجرد سيدة تدير نزلًا. كانت جدة، كانت ملاذًا، كانت لونا.

الجدة لونا.

سرت إليه ببطء. كل خطوة كانت تحمل في طياتها ثقل الحنين.

وعندما وقفت أمام الباب، شعرت بتردد مفاجئ. هل أطرق الباب؟ أم أكتفي بالرحيل بصمت؟

لكن قلبي لم يسمح لي بالمغادرة دون وداع.

طرقت ثلاث طرقات خفيفة.

ثوانٍ فقط، وفتحت الباب.

كانت هي... تمامًا كما تركتها. التجاعيد نفسها، الصوت الدافئ نفسه، والابتسامة التي تشبه شمس الشتاء لا تزال تسكن وجهها.

"آه، صغيري!"

قالت وهي تفتح ذراعيها وتحتضنني.

لم أتمالك نفسي... وانحنيت قليلًا احترامًا وامتنانًا، ثم دخلت النزل بصمت.

"تعال واجلس، لقد حضرت الحساء الذي تحبه."

كان صوتها يحمل مزيجًا من الفرح والحزن، كأنها كانت تعلم. بل كانت تعلم، بلا شك.

جلست إلى الطاولة الخشبية التي جلست إليها عشرات المرات من قبل.

بدأت آكل، وكان الطعم... كما هو تمامًا. بسيط، لكنه دافئ. كل ملعقة كانت تحكي قصة، وكل رشّة ملح كانت تشبه حكاية.

لكن قلبي كان ثقيلًا. لم أستطع أن أبتسم كما كنت أفعل سابقًا. كانت النهاية تقترب، والمغادرة صارت حتمية.

نظرت إليّ الجدة لونا بهدوء وقالت:

"ليست كل لحظة يجب أن تكون حزينة. أحيانًا، يجب علينا أن نستمتع بها كما هي. نحن نلتقي، ونفترق، ثم نلتقي من جديد. سنرى بعضنا البعض... يومًا ما."

ابتسمتُ، ولكن بعينين دامعتين.

أدركت أنها فهمت كل شيء. بل لعلها شعرت بالأمر قبل أن أصل حتى.

وحين انتهيت من طعامي، وقفت وتوجهت إليها، وأخرجت من جيبي خمسة دولارات، ووضعتها أمامها على الطاولة.

"هذا ثمن الليلة، كما وعدت."

لكنها هزت رأسها بلطف، وقالت بابتسامة مشبعة بالحكمة:

"بما أنه يومك الأخير... فأنت لا تحتاج لدفع شيء."

أحسست بشيء ينهار في داخلي، ربما كان الحاجز الأخير الذي بنيته كي لا أضعف.

ابتسمت رغم الألم، وقلت بصوت خافت:

"إلى اللقاء... يا جدة لونا."

فأجابت بصوت حنون:

"إلى اللقاء، صغيري. وكن بخير... حيثما ذهبت."

...

بعد أن ودّعت الجدة لونا، وخرجت من نزل السنابل الذي لم يكن يومًا مجرّد مكانٍ للنوم، بل كان وطنًا صغيرًا حين لم يكن لي وطن، شعرت أن الوقت لم ينتهِ بعد.

وقفتُ أمام الباب للحظات، أنظر إلى السماء التي بدأت شمسها تميل للغروب، ونسيمها يهمس بأن النهار يشارف على الرحيل... كما سأرحل أنا.

قلت في داخلي:

"بما أنه اليوم الأخير لي هنا، لم لا أُهديه لنفسي؟ لم لا أتجول قليلاً، وأجعل قدمي تمشيان آخر مرة بين الطرقات التي بدأت فيها قصتي؟ وربما... أشتري شيئًا صغيرًا يرافقني في رحلتي، يذكرني بكل هذا."

وهكذا بدأت أتمشى.

مررت بالسوق القديم، حيث أصوات الباعة، وضحكات الأطفال، وتلك الروائح المختلطة بين الخبز الطازج والتوابل.

المباني كما هي، بألوانها المتآكلة، ومحلاتها الصغيرة التي تزينت ببساطة، كل شيء فيها كان حيًا بشكل غريب... كأن القرية كانت تحاول أن تمنحني أجمل وداع.

مشيت في الأزقة الضيقة التي لا تسع إلا لشخصين متقابلين، لمست جدرانها بأصابعي كأنني أودّع ذاكرة.

مررت بالمطاعم التي لم أزرها، والمقاعد الخشبية التي جلست عليها مرارًا.

حتى الأشجار الصغيرة المزروعة على حافة الطريق... بدت لي مألوفة، وكأنها كانت تراني طوال هذه الأيام .

ثم تذكرت متجرًا زُرته من قبل. متجر الملابس...

متجر التوفير.

ابتسمت لا إراديًا وأنا أتذكر حديثي الطريف مع صاحبه في ذلك اليوم.

قررت أن يكون تذكاري من هناك. ربما من نفس الرف الذي وقفت أمامه أول مرة.

وصلت إلى باب المتجر، كان كما هو، بابه الخشبي القديم، والزجاج الذي تشوبه بعض الخدوش، لكن الداخل كان مضيئًا بدفء خاص.

دفعت الباب بخفة، فانفتح بصوت طقطقة معتادة.

دخلت.

كان صاحب المتجر يقف في مكانه المعتاد خلف الطاولة، رفع عينيه نحوي وابتسم كأنه تذكّرني.

لم أقل شيئًا. فقط ألقيت تحية هادئة، وبدأت أتجوّل بين الملابس.

هذه المرة، لم أكن أبحث عن الأرخص، ولا عن شيء عملي.

كنت أبحث عن قطعة تحمل شعورًا.

تنقّلت بين القمصان والسراويل، نظرت إلى الألوان، لمست الأقمشة، حتى وقعت عيناي على شيء... جعلني أتوقف.

سترة رمادية، معلّقة في زاوية خافتة، قلنسوتها واسعة تنسدل على الظهر، وتصميمها بسيط لكن فيه أناقة مريحة.

لا أدري لماذا، لكنها أسرتني.

اقتربت منها، ولمستها. كانت ناعمة، دافئة الملمس. كأنها صنعت لترافقني.

قررت أنها التذكار.

حملتها بيدي، وتقدّمت نحو صاحب المتجر.

"أريد هذه السترة، كم سعرها؟"

سألته بنبرة مزيجة من الحسم والحنين.

نظر إليها، ثم إليّ، وقال بصوته الهادئ المعهود، وقد علت وجهه ابتسامة صغيرة:

"خمسة عشرة دولارًا."

أخرجت النقود دون تردد، دفعت المبلغ، ووضعها في كيس بني بسيط، ناولني إياه دون كلمات كثيرة.

"شكرًا لك..."

قلتها وأنا أتمسك بالكيس كأن بداخله أكثر من مجرد سترة.

خرجت من المتجر، وقفت أمام الباب للحظة، نظرت إلى الشارع، إلى الحياة التي لا تزال تمضي.

كان في قلبي شيء يشبه الحزن، وشيء آخر يشبه الامتنان.

نعم، هذه حقًا... قد تكون آخر مرة أرى فيها هذه القرية.

لكنها لن تكون آخر مرة أذكرها.

2025/06/08 · 5 مشاهدة · 949 كلمة
Toleen Jaber
نادي الروايات - 2025