كانت الشمس تجرّ آخر خيوطها خلف الأفق، تلوّن السماء بلونٍ برتقالي باهت يشبه حنينًا قديمًا. بعد أن اشتريت السترة الجديدة، وقفت لثوانٍ أُمعن النظر فيها، لم تكن دافئة فقط، بل بدت وكأنها غطاء يربط بيني وبين هذا العالم الذي بدأت أطأ فيه خطواتي بثقة أكبر، وإن بشيءٍ من الحذر.
توجهت بخطى بطيئة نحو بوابة القرية. كل شيء من حولي بدا هادئًا على غير العادة، وكأن القرية نفسها كانت تشعر أنني على وشك المغادرة. توقفت عند المدخل، نظرت خلفي نحو الأزقة الضيقة والمباني البسيطة، نحو المطعم الذي أكلت فيه أول وجبة بشقّ الأنفس، ونحو النزل الذي نمت فيه لأول مرة فوق سرير بدلًا من أرض الغابة الباردة.
همست في داخلي:
"شكرًا... لعلنا نلتقي مجددًا."
ثم تابعت سيري. لم أكن أملك وسيلة نقل، ولم أكن أحتاجها. كنت قد اعتدت على المشي، بل أصبحت أُقدّره. خطواتي في هذا العالم لا تُقاس بالأمتار، بل بالتجارب التي أمرّ بها وأنا أتنقل من مكان إلى آخر.
كان أمامي ساعتان من المسير لأصل إلى قرية "فيلونا"، تلك القرية التي لا أعرفها بعد، لكنها ستكون وجهتي الجديدة.
المسافة كانت طويلة، لكن الليل الذي بدأ يسدل ستاره ، جعلها أكثر طولًا في قلبي. كان كل شيء ساكنًا، باستثناء خطواتي وصوت الريح وهي تعبث بأوراق الأشجار الجافة. أحيانًا كنت أتوقف لأتأكد من الطريق، وأحيانًا كنت أراقب النجوم التي بدأت بالظهور في السماء وكأنها تراقبني بصمت.
وبعد مسيرٍ متعب، وصلت أخيرًا. لم تكن قرية فيلونا صاخبة أو مضيئة، بل بدت خافتة وكأنها نائمة على وسادة من السكون. وصلت إلى النزل ، لكن في تلك اللحظة، لم أكن أبحث عن الرفاهية، بل عن الراحة، فقط الراحة.
طرقت الباب.
وبعد لحظات، فُتح الباب ببطء، وظهرت الطفلة الصغيرة ، فتحت عينيها بدهشة صغيرة ثم ابتسمت وقالت بحماسٍ طفولي:
"أخيرًا عدت!"
ابتسمت رغم الإرهاق الذي غلّف ملامحي، وقلت لها بهدوء:
"نعم... لقد عدت."
لم يطل الوقت حتى ظهرت صاحبة النزل خلفها، نظرت إلي بنظرة فيها شيء من الراحة، ثم قالت:
"لا تقل شيئًا الآن، اذهب واجلس، سأُحضر لك الطعام."
نفذت كلامها بصمت . جلست في نفس الزاوية التي جلست فيها سابقًا، ووضعت سترتي الجديدة بجانبي، ثم أنزلت رأسي قليلًا في انتظار الطعام.
حين وُضع الطبق أمامي، شعرت بدفءٍ غريب. ليس من الطعام، بل من اللحظة نفسها. لم يكن الطبق فخمًا، لكنه كان كافيًا. أكلت ببطء، كل لقمة كانت تقول لي: "لقد اجتزت جزءًا آخر من الرحلة."
بعدها صعدت إلى غرفتي. لم يكن في الغرفة شيء جديد، لكنني شعرت بشيءٍ مختلف هذه المرة. ربما لأني كنت أرتدي سترة جديدة، أو ربما لأنني عدت وأنا أكثر وعيًا بما أنا عليه.
تمدّدت على السرير، أغمضت عينيّ، وسرعان ما غلبني النعاس.
نام الجسد... لكن في داخلي، كانت هناك بقايا من المسير الأول لا تزال تتحرك.
...
استيقظت في صباح اليوم التالي على ضوء الشمس الذي تسلل عبر النافذة الصغيرة في الغرفة. كان الهواء باردًا قليلًا، لكنّه يحمل نسمات منعشة كأنها تُخبرني أن هذا اليوم سيكون مختلفًا، أو على الأقل، يحمل شيئًا ينتظرني فيه.
غسلت وجهي، وارتديت سترتي الجديدة، ثم غادرت الغرفة بهدوء، متجهًا إلى العمل. وصلت في الوقت المعتاد، وكان كل شيء يبدو طبيعيًا كما تركته، لا جديد في الأرجاء، سوى أنني كنت أشعر بثقل خفيف في صدري لم أعرف له سببًا في البداية.
انهمكت في عملي، أرفع الصناديق وأرتب الأغراض كما أفعل كل يوم. تكرار المهام جعل عقلي يسرح، ووسط ذلك السرحان، ظهرت صورة "ماركوس" في ذهني... لحظة إنقاذنا له، تفاصيل تلك اللحظة، الأصوات، والوجوه...
لكن وسط هذا التدفق من الذكريات، كأن شيئًا قُطع فجأة، وكأن هناك فجوة!
شيء ما ناقص ...
قطعة الذهب!
شعرت كأن أحدهم ألقى بدلو ماء بارد على جسدي، توقفت عن الحركة للحظة وكأن الزمن نفسه تجمّد.
"قطعة الذهب... لقد نسيت أمرها تمامًا!"
أنا أتذكر بوضوح كيف أمسكتها بين يدي حين كنا في الطريق بعد إنقاذ ماركوس، ثم وضعتها في جيبي، وبعد أن عدت للنزل واسترحت... أظنني وضعتها في مكانٍ ما داخل الغرفة، ولكن أين بالضبط؟ لا أذكر.
منذ تلك اللحظة لم أعد أعمل بذات التركيز، كانت يدَي تتحركان تلقائيًا، بينما عقلي يحصي الاحتمالات. أين وضعتها؟ هل قد تكون سقطت؟ هل سرقها أحد؟
كنت أنتظر نهاية ساعات العمل كأنني عالق في حكاية طويلة بلا نهاية.
وعندما انتهى العمل أخيرًا، لم أضيّع ثانية واحدة، انطلقت راكضًا باتجاه النزل، خطواتي تضرب الأرض كأنني أهرب من كابوس يطاردني.
طرقت الباب بسرعة، وفتحته لي صاحبة النزل بوجهها الهادئ المعتاد، لكنني لم أتبادل معها سوى نظرة سريعة، ثم تجاوزتها بسرعة:
"عذرًا! شيء مهم... في الغرفة!"
وصعدت الدرجات كأن النار تشتعل خلفي.
فتحت باب غرفتي، وأغلقته خلفي بسرعة، ثم بدأت عملية البحث. فتحت الأدراج واحدًا تلو الآخر، قلّبت الملابس، نظرت في الخزانة الصغيرة، فتشت أسفل الوسادة، خلف الستائر، في الزوايا... لكن لا شيء.
كلما مرّت دقيقة، كان قلبي يدقّ أسرع. يداي بدأت ترتجفان.
"هل يمكن أن يكون أحدهم قد دخل الغرفة؟ لا... الباب كان مقفلاً، أو هكذا أظن..."
جلست على طرف السرير منهكًا، وأمسكت رأسي بيديّ. عندها فقط، وسط هذا الاضطراب، تذكرت شيئًا بسيطًا... لكنه مهم.
"تلك الليلة ... أليس من الممكن أنني كنت ممسكًا بها حتى غلبني النوم؟"
نظرتُ حولي، ثم انحنيت لأتفحص أسفل السرير. كانت الأرض مظلمة بعض الشيء، فاقتربت أكثر، حتى لمعت عيني فجأة بشيء صغير يبرق تحت الظلال.
أزحت السرير قليلًا، ومددت يدي المرتجفة...
قطعة الذهب.
كانت هناك، كما لو أنها كانت تنتظرني بصبر وسط فوضى أفكاري.
أمسكتها ببطء، نظرت إليها، وشعرت بشيء ثقيل يتلاشى من على صدري. توتري تبدّد، وعاد التنفّس الطبيعي إلى صدري. ضممتها بيدي، وجلست على الأرض للحظات أستعيد أنفاسي.
ضحكت بهدوء، ضحكة صغيرة، لكنها صادقة.
"لقد وجدتك."