تقدّم الرجل النحيل بخطوات هادئة نحو صاحب العمل، ثم قال بنبرة خافتة تحمل شيئًا من الدهشة:

"لقد مرّت فترة... لماذا جئت إلى هنا؟"

ردّ صاحب العمل وهو يشير نحوي بإيماءة بسيطة:

"لم آتِ من أجلي. هذا الرجل الذي بجانبي هو من أراد المجيء."

حوّل الرجل النحيل نظره إليّ. كانت عيناه خلف النظارات المستديرة تلمعان ببريقٍ خافت يعكس الضوء المتناثر في المختبر. سألني بهدوء دون أن يغيّر ملامحه الجامدة:

"إذاً، ما حاجتك هنا؟"

أدخلت يدي ببطء في جيبي الداخلي، وقبضت على قطعة الذهب الصغيرة، ثم أخرجتها ورفعتها قليلاً أمامه، وقلت:

"لقد جئت لمعرفة إن كانت هذه... ذهبًا حقيقيًا أم مجرد وهم يلمع."

نظر الرجل النحيل إلى القطعة نظرة طويلة، ثم مدّ يده دون أن يقول شيئًا، وعيناه لا تزالان معلّقتين بها كما لو كان يقرأ سطرًا مكتوبًا على سطحها.

قال أخيرًا بصوت منخفض:

"هل أستطيع رؤيتها؟"

أومأت برأسي موافقًا، وسلمته إيّاها بحذر. لامست أصابعه الطويلة سطحها، وراح يقلّبها بين يديه كمن يزنها بعينيه أكثر مما يزنها بيده. ظل صامتًا لثوانٍ، ثم قال وهو يدير ظهره:

"اتبعوني."

بدأ بالسير دون أن ينتظر ردّنا. تبعته أنا وصاحب العمل عبر ممرٍ ضيّق، تتدلى فيه مصابيح صغيرة من السقف المنخفض، تنبعث منها إضاءة صفراء خافتة. الجدران كانت من الحجر الأملس، وعليها آثار حرّ وتآكل، كما لو أن النار كانت تتراقص بينها في يومٍ ما. كان الممرّ يضيق أحيانًا ثم يتّسع، وتنبعث منه رائحة معدن بارد ممزوجة برائحة الورق القديم.

مررنا بجانب غرفة مفتوحة فيها آلة ضخمة أشبه بالكبسولة، وبجانبها رجل قصير القامة يضع خوذة غريبة ويقلب صفحات كتاب سميك. لم يلتفت إلينا، لكن صوت الآلة كان يصدر طنينًا مستمرًا، يشبه دقات قلب آلي متوتر.

توقّف الرجل النحيل أخيرًا أمام باب معدني رمادي، بدا أثقل من باقي الأبواب، وفيه فتحة صغيرة كُتب فوقها بلغةٍ غير مألوفة، ربما كانت كلمات تحذير أو توصية. أخرج الرجل مفتاحًا صغيرًا من جيب معطفه، وأدخله في القفل، فأصدر الباب صوت طقطقة ميكانيكية، ثم انفتح ببطء.

دخلنا خلفه إلى الغرفة.

كانت الغرفة مضاءة بإضاءة بيضاء قوية على غير عادة هذا العالم، وتنبعث منها برودة خفيفة تشبه تلك التي يشعر بها المرء عند دخوله إلى غرفة عمليات. الجدران كانت مغطاة بلوحات زجاجية ملساء، بعضها يعرض رموزًا متحركة وأخرى تظهر رسومات لمعادلات كيميائية. وعلى أحد الجدران، عُلّقت خريطة للعناصر المعدنية، مصنّفة بألوانٍ لم أرَ مثلها من قبل.

في وسط الغرفة، كان هناك طاولة معدنية منخفضة تتوسّطها آلة غريبة الشكل. تشبه هذه الآلة مزيجًا بين ميزان إلكتروني ومرآة سوداء، ويعلوها غطاء زجاجي شفاف يتوهج من أطرافه بضوء أزرق خافت. بجانبها جهاز صغير ينبعث منه وميض أحمر كل عدة ثوانٍ.

اقترب الرجل النحيل من الطاولة ووضع قطعة الذهب بحرص على اللوح الزجاجي داخل الآلة، ثم ضغط على زر صغير بجانبها.

بدأ الجهاز يهمهم، وصوت خفيف يشبه الهمس انتشر في الغرفة. ارتفعت مؤشرات على شاشة صغيرة، وبدأت أضواء متعددة تومض وتختفي.

شعرت بالدهشة تعتصرني، ليس فقط بسبب الجهاز، بل بسبب السؤال الذي أخذ يطرق رأسي بقوة:

كيف يمكن أن يوجد هذا التقدم التقني في عالمٍ يبدو بدائيًّا في ظاهره؟

نظرت إلى صاحب العمل، لكنه لم يبدُ مندهشًا مثلي. وكأن ما يحدث أمامه أمر معتاد.

أما أنا، فوقفت هناك، أحدق في الآلة، وقلبــي لا يزال يطرق صدري بشدة، كأنّه يحاول الخروج ليرى النتيجة بنفسه.

كانت الآلة تُصدر أصواتًا غريبة، أقرب إلى طنينٍ معدنيّ متقطّع، يتخلّله صوت خافت أشبه بتنهيدة طويلة تصدرها آلة تتنفس. ثم بدأ الطنين يتسارع تدريجيًا، وتحوّل إلى سلسلة من النبضات المنتظمة، كأنها نبضات قلب إلكتروني.

راقبت الآلة بانتباه شديد، ووقفت ساكنًا لا أحرك ساكنًا، بينما عيناي تتابعان الأضواء التي كانت تومض باللون الأزرق، ثم تتحوّل تدريجيًا إلى ألوان متعددة، قبل أن تستقر جميعها على اللون الأخضر.

مرّت عدّة دقائق بدت وكأنها دهرٌ كامل، كنت خلالها أحبس أنفاسي دون أن أشعر، وقلبــي يطرق صدري بعنف وكأنه يُريد أن يسبق النتيجة.

ثم فجأة...

صدر صوت خافت من الجهاز، أشبه بزمجرة ناعمة تبعتها رنّة واضحة، ثم توقّف كل شيء. خفتت الأضواء، وساد صمتٌ غريب في الغرفة. ارتفع ضوء أخضر ناعم من قلب الآلة، وتوقّف الصوت تمامًا.

مدّ الرجل النحيل يده بهدوء، ورفع الغطاء الزجاجي، ثم التقط قطعة الذهب بأطراف أصابعه كما لو كانت شيئًا مقدّسًا. تلاعبت الإضاءة الخافتة على سطح القطعة، فبدت وكأنها تلمع أكثر من أي وقتٍ مضى.

ثم التفت إلينا بحماس لم أره في عينيه من قبل، وقال بنبرة ملأها الانفعال:

"يبدو أن الحظ قد حالفك... هذه القطعة ذهب حقيقي."

اخترقت تلك الكلمات قلبي كالسهم، لكن بدلاً من الألم، تفتّح داخلي شعورٌ بالفرح الطاغي. شعرت وكأن صدري امتلأ بنورٍ مفاجئ، وابتسمت دون أن أدري.

كدت أطير من السعادة، كأن جسدي صار خفيفًا فجأة.

تقدّمت بخطى متلهفة نحو الرجل النحيل، ومددت يدي لأستعيد القطعة. سلّمني إياها بابتسامة خفيفة .

نظر إليّ وقال بنبرة عملية هذه المرة:

"قطعة الذهب هذه... تُقدّر بحوالي ألف وخمسمئة دولار."

وقفت في مكاني كأنما ضربني برق .

"أ... ألف وخمسمئة دولار؟"

ردّدت الكلمات في رأسي بصوت مرتجف، غير مصدق لما سمعته. كانت أقرب إلى حلم يقفز فجأة أمامي دون سابق إنذار.

لكن الرجل لم ينتظر ردّي، بل تابع قائلاً، وكأنه كان يتوقّع ردّ فعلي:

"ما رأيك أن تبيعها لي؟ لا تقلق... سأدفع لك سعرها الكامل."

شعرت أن الغرفة أصبحت أكثر هدوءًا، كأن كل شيء تجمّد بانتظار قراري. نظرت إلى قطعة الذهب في يدي، كانت تلمع بلونٍ دافئ، يغريني بالاحتفاظ بها، لكنها أيضًا تحمل عبء المستقبل... وربما مخاطره.

قلت في نفسي:

أين سأجد فرصة مثل هذه مرة أخرى؟ قطعة صغيرة يمكن أن تمنحني الأمان، الطعام، والمأوى لأسابيع. وربما أكثر.

رفعت عيني نحو الرجل النحيل، ثم أومأت برأسي بالموافقة.

توجّهنا سويًا نحو المخرج. مررنا بنفس الممرات التي دخلنا منها، لكن هذه المرة كانت خطواتي أخف، وكأن الأرض نفسها تهنّئني على قراري.

عند الباب، سلّمته قطعة الذهب، ومدّ يده إلى جيبه الداخلي، وأخرج كيسًا صغيرًا من الجلد البني. فتحه أمامي وأخرج منه رزمًا من الأوراق النقدية. عدّها أمامي بهدوء، ثم سلّمني إيّاها.

"ها هي... ألف وخمسمئة دولار، كما وعدتك."

أخذت المال بين يديّ، وقلبي يكاد يقفز من بين أضلعي. شعرت بحرارة تسري في جسدي، ليست من فرط التعب، بل من الفرح الذي بدأ يتفجر بداخلي.

الآن... لن أقلق بشأن الطعام، أو المأوى، أو حتى الغد.

كانت هذه المرة الأولى التي أشعر فيها بأن هذا العالم... ربما يمكن أن أعيش فيه فعلاً.

2025/06/08 · 4 مشاهدة · 975 كلمة
Toleen Jaber
نادي الروايات - 2025