خرجت من مختبر التحاليل المعدنية والفرحة ما زالت تغمر قلبي، بينما كان صاحب العمل يسير إلى جانبي مبتسمًا، وقد بدا عليه مزيج غريب من الرضا والندم في آنٍ معًا. نظر إليّ وقال بصوت أقرب إلى المزاح منه إلى الجديّة:

"يبدو أن الحظ في صالحك هذه المرّة. لو أنني أنا من حصل عليها... ربما كنت الآن في مكانك."

أجبت ضاحكًا، محاولًا التخفيف من وطأة كلماته:

"ههه، إنه قدري، وأنت لا تستطيع تغيير الماضي."

لم يُعلّق، واكتفى بهزة خفيفة من رأسه، وكأنّه يعترف ضمنًا بذلك.

تابعنا السير لعدة خطوات، كان الطريق صامتًا إلا من وقع أقدامنا على التراب وبعض همسات الريح التي كانت تداعب الأشجار المحاذية للمسار. ثم، عند مفترق صغير بين المنازل، توقف صاحب العمل وقال:

"أراك غدًا، خذ قسطًا من الراحة اليوم. لقد استحققتها عن جدارة."

أومأت برأسي وشكرته، ثم افترقنا، كلٌّ منا متّجه إلى وجهته. وبينما كنت أمشي نحو النزل، شعرت بخفة في خطواتي، وكأن عبئًا قد انزاح عن كتفيّ. كانت نتيجة التحليل بمثابة شهادة بأنني، ولو للحظة، أملك ما يمكن أن يغيّر مصيري.

أخرجت المال من جيبي وأعدته للمرة الثالثة، ألف وخمسمائة دولار. مبلغ لم أكن أتخيّل امتلاكه منذ أن وطأت قدماي هذا العالم الغريب. مرّت في ذهني عشرات الأفكار: "ماذا سأفعل بهذا المال؟ هل أشتري شيئًا لنفسي؟ أملأ معدتي بأشهى الأطباق؟ ربما أشتري خريطة مفصّلة للمنطقة؟ أو كتابًا عن الوحوش التي سمعت عنها؟"

لكن، بسرعة، قطعت على نفسي تيار التمني، وهززت رأسي بحزم.

"لا، ليس الآن. لا يجب علي أن أسترخي أو أتباهى. هذا العالم مليء بالمفاجآت، ولا أعلم ما قد يحدث غدًا. يجب أن أدخر كل فلس."

وصلت إلى النزل، وكالعادة، استقبلتني صاحبة النزل بابتسامتها المعتادة، وكأنها تعوّدت على عودتي في هذا الوقت. سألتني عن يومي فأجبتها باقتضاب أن الأمور سارت على ما يرام. لم أكن أرغب في مشاركة ما حدث، على الأقل ليس بعد.

تناولت طعام العشاء، كان بسيطًا لكن دافئًا، ثم جلست للحظات ألعب مع الطفلة الصغيرة. ضحكاتها كانت تشبه نغمة موسيقية نادرة في عالمي المليء بالفوضى، وكأنها تذكّرني بأن بعض البراءة لا تزال موجودة في هذا العالم الجديد.

عندما انتهيت، صعدت إلى غرفتي، وأغلقت الباب خلفي بهدوء. أخرجت المال مجددًا، نظرت إليه لحظة، ثم وضعته في كيس صغير وخبأته في مكان آمن أسفل لوح خشبي مفكك في زاوية الغرفة، كنت قد لاحظته في أحد الأيام السابقة. شعرت بالاطمئنان حين تأكدت أنه غير ظاهر.

تمدّدت على السرير، وكان التعب قد بدأ يزحف إلى جسدي. أغمضت عينيّ وابتسمت بخفوت.

"خطوة صغيرة نحو الأمام، لكنني لن أُفرّط بها."

ثم، ببطء، انسحبت في نومٍ عميق، بينما كان القمر خارج النافذة يرسم ظلالًا هادئة على الأرض .

...

مرّ شهران كاملان منذ لحظة وصولي إلى هذا العالم الغريب، ومع مرور الوقت، بدأت الأشياء تأخذ طابعًا رتيبًا. الأيام تمضي كما لو أنها نسخ مكرّرة عن بعضها البعض: أستيقظ كل صباح على ضوء الشمس المتسلل عبر نافذة غرفتي الصغيرة، أجهّز نفسي، ثم أتوجه للعمل . نفس الصناديق، نفس التعب، ونفس الروتين الذي يغمرني كل يوم. لا شيء مميز يحدث... ولكن اليوم كان مختلفاً .

كان العمل كالمعتاد، أحمل الصناديق من العربة إلى المستودع، أنظّف الأسلحة التي نُعيدها من بعض الحملات، وأراقب العمال وهم يتبادلون الأحاديث والشتائم بنصف اهتمام. العرق يتصبب من جبيني، وعضلاتي تؤلمني من التعب المتراكم، لكنني اعتدت على ذلك، كما اعتدت على كل ما في هذا المكان.

وفي منتصف اليوم، وبينما كنت أرفع صندوقًا أثقل من المعتاد، لاحظت نوكس، زميلي الصامت في أغلب الأحيان، واقفًا على بُعد خطوات، ينظر بثبات نحو الفراغ. كانت نظراته مركّزة، لا تتحرّك، وكأنه يرى شيئًا لا أراه. ليس ذلك فحسب، بل كان يحرّك إصبعه أمامه في الهواء، وكأنه يضغط على شيء ما... شيء غير مرئي.

توقّفت عن العمل ونظرت نحوه باستغراب. مسحت العرق عن جبيني، ثم اقتربت وسألته:

"ماذا تفعل؟ لماذا تنظر إلى هناك وتؤشر بهذا الشكل؟ لا يوجد شيء أمامك."

لم يلتفت فورًا، بل استمر في الضغط بهدوء، ثم تنهد، وكأن سؤالي أعاده إلى الواقع، ثم نظر إليّ وقال بنبرة هادئة:

"من ردة فعلك... يبدو أن لا أحد أخبرك بعد."

شعرت بالارتباك. لم أفهم ما الذي يقصده، لكن قبل أن أتمكن من سؤاله، أكمل:

"أتتذكر حديثنا السابق عن القدرات الفريدة؟"

أجبته فورًا:

"نعم، أذكر ذلك."

فقال:

"كل شخص عادي يأتي من عالم آخر إلى هنا... يحصل على قدرة فريدة بعد فترة."

عقدت حاجبيّ، وقلت:

"وما علاقة هذا بما كنت تفعله قبل قليل؟"

ابتسم بخفة وقال:

"اصبر، لم أنتهِ بعد."

ثم رفع إصبعه مجددًا نحو الفراغ، لكنه هذه المرة لم يضغط، بل تابع حديثه بنبرة فيها شيء من الإثارة:

"برأيك... كيف نعرف أننا حصلنا على القدرة الفريدة؟"

أجبته بثقة مصطنعة، محاولًا أن أبدو ذكيًا:

"عن طريق... عن طريق..."

ثم توقفت، وسرعان ما اعترفت:

"في الواقع... لا أعرف."

ضحك بخفوت، وقال:

"هذا طبيعي. معظم الناس لا يعرفون. لكن... هل لعبت ألعاب الفيديو من قبل؟"

نظرت إليه باستغراب:

"نعم، طبعًا. كثيرًا."

قال بهدوء:

"إذًا، لا بد أنك تعرف شيئًا يُسمّى 'نافذة الحالة'، أليس كذلك؟"

أجبته وأنا أبدأ في الربط بين ما قاله وما فعله:

"نعم، أعرفها."

ابتسم وقال:

"الناس العاديون هنا، الذين يأتون من عوالم أخرى، يكتشفون قدراتهم الفريدة عن طريق تلك النافذة... نافذة الحالة."

توقفت عن التنفس لوهلة، وقلت ببطء:

"تقصد... أن هناك نافذة تظهر؟ فعليًا؟"

قال:

"نعم، لكنها لا تظهر إلا لمن حصل على قدرة فريدة. كل ما تحتاج إليه هو أن تقول بصوتٍ عالٍ: 'نافذة الحالة'. وستعرف إن كنت قد حصلت على شيء... أو لا."

وقفت في مكاني، مصدومًا، وكأنّ سكينًا اخترق صدري ببطء. لم أستطع النطق، كان عقلي يعيد تركيب الصورة من جديد.

"هل هذا حقيقي؟! هل يمكن أن يكون الأمر بهذه البساطة؟!" قلت في داخلي، بينما قلبي بدأ ينبض بسرعة.

نظرت إلى نوكس، لكن لم أستطع قول شيء. كنت بين الشك والذهول. كان هناك احتمال صغير أن يكون يمزح، لكن الطريقة التي قال بها كلامه، النظرة في عينيه، كل ذلك جعلني أُصدّق.

شعرت وكأن العالم حولي تغيّر فجأة، وكأن طبقة من الغموض كانت تحجب الحقيقة طوال هذه الأشهر، وقد بدأت الآن في التلاشي.

وقفت هناك، أنظر إلى الفراغ ذاته الذي كان نوكس يحدّق فيه، وصوت في داخلي يهمس:

"هل أفعلها؟ هل أجرّب؟ هل أقولها؟"

2025/06/08 · 5 مشاهدة · 954 كلمة
Toleen Jaber
نادي الروايات - 2025