مرّ الوقت ببطء شديد، كأنّ عقارب الساعة تسير على أطراف أصابعها، مترددة في اتخاذ خطوة جديدة. لم يحدث شيء مميز على الإطلاق. استيقاظ مبكر، عمل مرهق، طعام دافئ، نوم ثقيل. الروتين ذاته يتكرر بلا رحمة، حتى بدأت أشعر أن الأيام تذوب في بعضها كقطرات ماء على زجاجٍ تحت المطر.
رغم ذلك، لم يكن كل شيء ثابتًا تمامًا.
بدأت أشعر أنني أقترب يومًا بعد يوم من العمة ميليسا، تلك المرأة التي لم تبخل عليّ يومًا بابتسامة، أو بكلمة دافئة. صرت أشعر بدفء الأمومة يتسلل من صوتها، وحنانًا لم أتوقع أن أجده في هذا العالم الغريب. ليانا أيضًا… الصغيرة المفعمة بالحياة، كانت تملأ المكان بحيويتها وضحكاتها المتكررة، تقفز نحوي كل مساء وكأنني بطل أسطوري عائد من معركة. صرت أراها أشبه بشعاع ضوء صغير يلوّن أيامي الرمادية.
أما في العمل، فقد بدأت أتحدث بين الحين والآخر مع نوكس، العامل الصامت الذي بدا لي في البداية كأنه جدار من الهدوء. لم نكن نخوض حوارات عميقة أو نكشف أسرارًا، لكن مجرد تبادل بعض الكلمات حول ترتيب الصناديق أو تنظيف الأسلحة، كان كافيًا ليشعرني أنني لست وحدي هنا.
أما لوكسيان… فهو فصلٌ آخر في هذه الرواية اليومية. يصرّ دائمًا على إلقاء نكاته السخيفة وكأنه ممثل كوميدي مسجون في جسد محارب. مرة قال لي إنه هزم تنينًا بضربة واحدة، وكان جادًا جدًا في كلامه. اكتفيت بالتحديق فيه في صمت، ثم هززت رأسي وقلت له: "لو قلت إنك هزمت قطة، ربما كنت سأصدقك."
ضحك، وضحكتُ أيضًا، ربما لأول مرة دون تفكير. لم أكن أعرف إن كان يبالغ عمدًا أم أنه يحاول التسلية، لكنني بدأت أقدّر وجوده، بطريقته الفوضوية الخاصة.
كل هذا لم ينجح في تشتيت تركيزي عن ما كنت أنتظره حقًا: الأسبوع الثاني. كنت أعد الأيام، الساعات، بل حتى الدقائق أحيانًا، منتظرًا اللحظة التي سيتغير فيها شيء، التي سأحصل فيها على القدرة التالية.
الغريب أنني لم أكن أشعر بهذا التوتر من قبل. قبل ظهور "نافذة الحالة"، كنت أعيش يومي كما هو، بلا توقعات، بلا حماس مفرط. لكن الآن؟ أشعر وكأن جزءًا مني يركض باستمرار نحو المجهول، متعطشًا لمعرفة ما ينتظرني في الأسبوع التالي.
هل هذه هي الحماسة التي يتحدث عنها الناس دائمًا؟ الشعور بأن الزمن لا يتحرك بالسرعة الكافية، وأن قلبك يسبق العالم بخطوات؟
شعرت وكأنني أنتظر سنوات… رغم أن الأمر لم يكن إلا سبعة أيام.
وفي النهاية… جاء الأسبوع الثاني.
...
استيقظتُ في أول يوم منه وكأنني نُفِخت في صدري روح جديدة. للحظة، فتحتُ عينيَّ بتسارع، وامتلأ رأسي بصرخة داخلية تكاد تخرج من فمي: "نافذة الحالة!". لكنني لم أنطقها… لا بعد.
تمالكتُ نفسي بصعوبة، وكأنني أحاول إبطاء مشهد مهم في فيلمٍ درامي حتى أتمكن من تذوق كل ثانية منه. أردت أن أكون بكامل وعيي عندما أنطق تلك الجملة. أردت أن أكون مستعدًا بكل حواسي، أن أُمعن في كل حرف من تلك القدرة الجديدة، أن أعيش التجربة كما لو كانت لحظة مقدسة.
لذلك... نهضتُ من الفراش، رتّبت شعري بيدي، غسلت وجهي، وخرجت إلى العمل.
كان العمل كالمعتاد: رفع، حمل، تنظيف، ترتيب. ساعات طويلة تمرّ كأنها صخور تتدحرج ببطء في صدري. لا أحد يدري ما يدور في داخلي، ولا أحد يعلم أن كل ما أفعله الآن هو تمرير الوقت. كل دقيقة تقرّبني أكثر من نهاية اليوم… ومن لحظة الكشف.
وحين انتهى العمل أخيرًا، لم أنتظر طويلًا.
ما إن سلّمت آخر قطعة من البضائع، حتى خرجت من الساحة راكضًا كطفل عثر على خريطة كنز. لم أُلقِ التحية على أحد، لم ألتفت إلى الخلف، فقط ركضت.
ركضت حتى وصلت إلى النزل، وقلبي ينبض كطبول حرب. صعدت الدرجات بخفة، دفعت الباب، ودخلت الغرفة. أغلقت الباب خلفي، ثم جلست على السرير… لا، وقفت… لا، عدت وجلست مجددًا.
"حسنًا…" همست لنفسي.
أعلم أنه من الممكن أن تكون القدرة الجديدة تافهة أو ضعيفة. قد تكون شيئًا لا يُذكر، لا يُستخدم، لا يُفيد. لكن ماذا أقول… هذا ممتع.
نعم… ممتع بطريقة لا أستطيع شرحها.
بدأت الشمس بالهبوط ببطء خلف الجبال البعيدة، تلوّن السماء بدرجات من البرتقالي والأرجواني، كأنها ترسم لوحة وداع ليومٍ آخر. كانت النسائم المسائية تتسلل برقة عبر النوافذ الخشبية، تنعش الجو برائحة الأشجار والغبار الدافئ.
جلست في الزاوية الصغيرة من الغرفة، المكان نفسه الذي اعتدت الجلوس فيه بعد انتهاء العمل. وضعت الحقيبة على الأرض، ، ثم نطقت بخفوت:
"نافذة الحالة."
ظهر الرد سريعًا، بنفس الصيغة الآلية المعتادة، دون مشاعر:
[ نعم، أيها المستخدم. ]
ترددت لحظة، ثم تابعت:
"القدرة الخارقة... إظهار."
وما إن لفظتُ الكلمات، حتى ظهرت أمامي تلك البطاقة اللامعة… البطاقة التي لا يشبه لونها أي لون رأيته في حياتي. ليست ذهبية تمامًا، بل كأنها مزيج من الذهب والضوء، تنبض بهالة ناعمة يصعب وصفها بالكلمات. جمالها لم يكن عاديًا، بل كان شيئًا يشعر به القلب قبل أن تراه العين.
مددت يدي ولمستها، وكأنني أوقظ شيئًا نائمًا.
[ الفئة: C ]
[ القدرة: التنفس المنعش ]
[ الوصف: عند التنفس ببطء شديد، يُستعاد التركيز ويقل التوتر بنسبة 10%. ]
[ الاستخدام: مفيد في اللحظات الحاسمة التي تتطلب تركيزًا، مثل القتال أو حل الألغاز. ]
[ الشروط: يجب أن تكون العينان مغمضتين لتفعيل القدرة، وتُستخدم مرة واحدة فقط في الأسبوع. ]
قرأت الكلمات واحدة تلو الأخرى، وببطء.
فئة C...؟
لحظة… لحظة فقط… فئة C؟
رمشت بعينيّ، كأنني لم أصدق ما قرأته للتو.
هل هذا حقيقي؟!
لم أتوقع أبدًا أن أصل إلى هذه الفئة بهذه السرعة. كنت أعتقد أن الطريق إليها طويل، وأنني سأبقى عالقًا في أولى الدرجات لأشهر… لكن ها هي أمامي. وكأن هذا العالم قرر، ولو لمرة، أن يبتسم لي.
ابتسمتُ رغمًا عني، ربما من شدة الدهشة، وربما لأن شيئًا في داخلي شعر بالفخر.
لكن الفرحة تضاءلت قليلًا عندما قرأت اسم القدرة:
"التنفس المنعش".
رفعت حاجبيّ ببطء، الاسم بدا غريبًا، بل بسيطًا أكثر من اللازم. وكأنني حصلت على تقنية تنفّس، لا قدرة خارقة.
ثم انتقلتُ إلى الوصف… "عند التنفس ببطء شديد، يُستعاد التركيز ويقل التوتر بنسبة 10%"...
10%...؟
توقفت للحظة.
هل هذا كثير؟ أم قليل؟
أنا لست بارعًا في الأرقام، بل لنقل إنها أسوأ مادة عرفتها يومًا… لذلك لا أدري إن كان عليّ أن أفرح أم أقلق.
ولكن… الفكرة تبدو لطيفة. القدرة على استعادة الهدوء في لحظة ارتباك؟ ربما ليست بالقوة التي تقلب المعارك، لكنها ليست عديمة الفائدة أيضًا.
واصلت القراءة.
"مفيد في اللحظات الحاسمة التي تتطلب تركيزًا، مثل القتال أو حل الألغاز."
قهقهت بصوت خافت.
القتال؟ الألغاز؟
أنا بالكاد أستطيع حمل الصناديق طوال النهار دون أن أسقط. ولم أحاول حل لغز واحد منذ أن وجدت ذلك اللغز الورقي في علبة عصير قبل سنوات ولم أفهمه.
هل عليّ أن أعتبر نفسي شخصًا "حاسمًا" فجأة؟
ضحكت مجددًا… ليس سخرية، بل لأن الموقف نفسه بدا كوميديًا.
ثم وصلت إلى الشروط:
"يجب أن تكون العينان مغمضتين... وتُستخدم مرة واحدة فقط في الأسبوع."
أومأتُ لنفسي ببطء.
ليست شروطًا صعبة، لكنها تعني أن القدرة لن تكون جزءًا من يومي العادي. ربما لا أحتاجها الآن، لكن من يدري؟ قد أكون في موقف صعب ، في لحظة حرجة، أغمض عينيّ، وأتنفس… فأشعر بالهدوء وسط الفوضى.
أغلقت البطاقة، وعدت لأنظر إلى الغروب.
كانت السماء قد بدأت تميل أكثر نحو البنفسجي، والقرية هادئة إلا من صوت خافت بعيد لعربة تبتعد على الطريق الحجري.
رغم أن القدرة لم تكن كما تخيلت، إلا أنني شعرت بالرضا.
ليست قوة ضاربة… لكنها بداية.
والبدايات لا تُقاس بعظمتها، بل بإخلاصك حين تستقبلها.