بعد أن فرغتُ من حديثي مع ماركوس، عدتُ إلى عملي المعتاد. كان اليوم مليئًا بالمشاغل التي لم تهدأ حتى أعلن صاحب العمل انتهاء الدوام. عدتُ إلى المنزل، حيث استقبلتني العمة ميليسا بابتسامة هادئة دافئة، كانت كافية لترسل إليّ شعورًا بالراحة وكأنها تقول لي بصمت: "أهلاً بعودتك."

جلسنا حول مائدة الطعام، وتناولنا وجبة بسيطة لكنها مفعمة بالحب، أعدتها العمة ميليسا بعناية. بعد الانتهاء، صعدتُ إلى غرفتي وألقيتُ نفسي على السرير. هكذا كانت الأيام تمرّ: عمل، طعام، نوم... روتين لا يتغير.

ولكن في داخلي، بدأ شيء جديد ينبعث؛ رغبة صادقة بالتقرب أكثر من ليانا، تلك الطفلة الصغيرة التي لاحظتُ وحدتها ومللها في هذا العالم الغريب. فكرتُ أنه ربما حان الوقت لأكسر هذا الملل، وأجعل ليانا تخرج إلى مكان يبهجها.

في مساء الجمعة، بعد الانتهاء من العمل وتناول الطعام، قررت أن أخبر العمة ميليسا عن خطتي. قلتُ لها:

"أريد أن آخذ ليانا معي غدًا، يوم السبت، إلى مكان ممتع قليلاً، لكي تستمتع وتنسى قليلاً الوحدة والملل."

ابتسمت العمة ميليسا بهدوء، وقالت بابتسامة خفيفة:

"الأمر يعتمد على ليانا."

تفاجأت من هدوئها، فرفعت حاجبيّ وسألتها:

"أتثقين بي؟ ماذا لو اختطفت ليانا ووضعتها في مكان بعيد؟"

ضحكت برقة وقالت:

"من المستحيل أن تفعل ذلك... مجرد إحساس أُم، لا أكثر. ولكن، عليك أن تسأل ليانا بنفسها."

توجهتُ بعدها إلى غرفة ليانا، حيث كانت تلعب بهدوء مع حصانها الخشبي الصغير، عيناها تلمعان ببراءة الطفولة.

وقفت أمام الباب وطرقت ثلاث طرقات خفيفة، فرفعت ليانا رأسها ونظرت إلي بدهشة وسرور في آنٍ واحد، ثم قالت بحيوية:

"لماذا أتيت يا عمي؟ هل تريد اللعب معي؟"

ابتسمتُ وقلت:

"ليس اليوم يا ليانا، لكني أردت أن أسألك شيئًا... ما رأيك أن تذهبي معي غدًا إلى مكان ممتع؟"

ابتسمت ليانا ابتسامة عريضة، وأجابت بحماس:

"نعم، بالطبع أريد!"

ثم توقفت قليلاً، ونظرت إلي بعينين متردّدتين وهمست:

"لكن أمي قد ترفض."

طمأنتها قائلاً:

"لا تقلقي، لقد تحدثت مع أمك وأخبرتها عن الأمر، وقالت إنه إذا وافقتِ على الذهاب، فهي لن تمنعك."

فرحت ليانا بصدق، وصرخت بفرح:

"حقًا؟ يااااي!"

عدتُ إلى العمة ميليسا وأخبرتها بما دار بيني وبين ليانا، فابتسمت بابتسامة دافئة، وأعطت موافقتها على ذهاب ليانا معي.

شعرتُ بفرحٍ كبير، وكأنني أحمل كنزًا ثمينًا ينتظرني غدًا. بعد ذلك، عدتُ إلى غرفتي، حيث وجدتُ التعب يثقل جفوني، فألقيتُ نفسي على السرير وغطست في نوم عميق.

---

وفي صباح يوم السبت، استيقظت وأنا أشعر بشيء من الحماس والانتظار. هذا اليوم كان مختلفًا، لأنه اليوم الذي سأقضي فيه وقتًا مع ليانا بعيدًا عن روتين العمل والملل. لم أقرر بعد إلى أين سنذهب، لكن قررت أن أترك الخيار لها، لأجعلها تشعر بالحرية والبهجة.

ارتديت ملابس مريحة وبسيطة، فقد كان يوم عطلة، ثم نزلتُ الدرج متجهًا إلى غرفة ليانا. وقفت أمام الباب وطرقت عليه ثلاث طرقات هادئة.

فتحت ليانا الباب، وكانت قد استعدت تمامًا؛ شعرها مربوط بعناية على شكل كعكة صغيرة، وعيناها تتلألأان بالفرح. كانت ترتدي فستانًا ورديًا ناعمًا، مزينًا بتطريزات دقيقة لأشكال أزهار صغيرة تبرق بلطف تحت ضوء الشمس.

ابتسمتُ لها وقلت:

"هل أنتِ مستعدة للذهاب يا ليانا؟"

ردّت بحيوية:

"نعم، أنا مستعدة!"

ودّعنا العمة ميليسا بابتسامة حنونة، ثم خرجنا من المنزل. أمسكت يدها الصغيرة بين يديّ كي لا تضيع وسط القرويين.

نظرت إليها بابتسامة مازحة وقلت:

"إذًا، أيتها الأميرة الصغيرة، إلى أين تودين الذهاب؟"

فكرت قليلاً ثم قالت بفرح:

"أريد الذهاب إلى الحديقة."

قلتُ مبتسمًا:

"حسنًا، كما تشائين."

كان الجو مشمسًا، لكنه معتدل، ونسيم لطيف يداعب الأجواء، مما جعل النزهة مثالية.

بدأنا نمشي بين أزقة القرية، وكانت ليانا تنظر إلى القرويين من حولها باندهاش وفرح، كما لو أنها تكتشف عالمًا جديدًا، أو ترى قطعة كعكة شهية للمرة الأولى.

وبعد دقائق قليلة، وصلنا إلى الحديقة التي تقع على الجانب الشرقي من المنزل، ولم تكن بعيدة. كان اسمها "حديقة الأزهار".

كانت الحديقة بسيطة، مختلفة عن الحدائق التي عرفتها في عالمي السابق. لم تكن مزودة بالكثير من الألعاب أو المرافق الحديثة، ولا أراجيح أو زحاليق مصممة بعناية.

كانت الحديقة عبارة عن مساحات خضراء واسعة، تتناثر فيها أزهار برية بألوان زاهية: الأحمر، الأصفر، والبرتقالي، تحيط بها أشجار صغيرة تلقي بظلالها على مقاعد خشبية قديمة متناثرة هنا وهناك. وكانت هناك مسارات ضيقة مرصوفة بالحصى تعبر وسط الحديقة.

رغم بساطتها، لم تشتكِ ليانا، بل انطلقت بين الزهور بفرح عارم، تحاول لمسها واستكشافها، وكأنها تعيش لحظات من الدهشة والسعادة البسيطة.

رأيت في عينيها براءة الطفولة وسعادتها، وشعرت أنني حققتُ ما كنت أريده: إخراجها من دائرة الوحدة والملل، وإدخالها إلى عالم من الفرح البسيط، حتى لو كان بعيدًا عن فخامة حدائق عالمي القديم.

2025/06/13 · 4 مشاهدة · 696 كلمة
Toleen Jaber
نادي الروايات - 2025