بعد أن وصلنا إلى الحديقة البسيطة، اندفعت ليانا نحو العشب الأخضر وتدحرجت عليه بفرح لا يوصف، ضحكاتها تعلو بين زهور الحديقة وأشعة الشمس الدافئة. كان مظهرها بريئًا وسعيدًا، كأنها اكتشفت عالمًا جديدًا ينبض بالحياة.
اقتربت منها وجلست على العشب بجانبها، ثم سألتها بابتسامة:
"إذًا، ما هي اللعبة التي تودين أن نلعبها اليوم يا ليانا؟"
رفعت رأسها نحو السماء ثم نظرت إليّ بعينيها اللامعتين وقالت بحماس:
"لنلعب الغميضة!"
فابتسمتُ وقلت:
"حسنًا، من سيعد ومن سيختبئ؟"
ردّت بحماس أكبر:
"أنا أعدّ، وأنت تختبئ!"
قلتُ موافقًا:
"حسنًا، إذن سأختبئ وأنتِ تعدين."
بدأت ليانا تغمض عينيها، وتلف يديها على وجهها وهي تعد بمرح:
"واحد، اثنان، ثلاثة... حتى العشرة!"
وفي تلك الأثناء، بدأتُ أبحث عن مكان مثالي للاختباء، مكان أتحدى أي شخص أن يجدني فيه مهما طال البحث. وجدتُ شجرة قديمة، ذات جذع مكسور قليلاً، وقد جمعتُ بعض قطع الخشب الصغيرة وأغلقتها على الفتحة بحرص. كان المكان شبه مخفي، لكنه يحتفظ بفتحة صغيرة تمكنني من الرؤية للخارج دون أن يراني أحد.
كان ذلك الاختباء ممتازاً ! .
بعد أن أنهت ليانا العد بحماس، بدأت تبحث عني بعينين تلمعان بالترقب والمرح. جلست في مكاني مختبئاً ، أراقبها بحذر وأنا أشعر بمتعة الطفولة تتسلل إلى قلبي. كانت تمشي بين الأشجار وتنظر خلف كل زاوية بعناية، تحاول اكتشاف مكاني السري.
مرت دقائق، وكانت ليانا لا تزال تبحث بلا كلل، ما يقرب من عشرة دقائق، دون أن يلوح لي أثر لها وهي تقترب مني. تاهت نظراتها في الحديقة، وأنا أتابع كل حركاتها بدقة، أستمتع بلعبة الغميضة هذه كما لو كانت أول مرة ألعبها.
فجأة، رأيتها تجلس على كرسي خشبي قديم، وكان تعبير وجهها يدل على التعب أو ربما على الاستسلام المؤقت. تساءلت في نفسي: هل استسلمت حقًا؟ أم أنها فكرت في الاستراحة قليلاً؟
لكن لم تمر سوى ثوانٍ قليلة حتى رأيت شيئًا غريبًا وصادمًا أمام عيني. فجأة، بدأت نسخ أخرى من ليانا تظهر واحدة تلو الأخرى، حتى تراكمت أربع نسخ منها تحيط بالنسخة الأصلية. كان المشهد كأنه من عالمٍ آخر، وبدأت تلك النسخ تتحدث مع ليانا الأصلية وكأنها تجمعهم في اجتماع خاص.
تعرقت قليلاً، وهمست لنفسي بذهول: "مهلاً، مهلاً، أليس هذا غشًا؟!"
كان من الواضح أن ليانا تخبر هذه النسخ بشيءٍ ما، وبعد لحظات قليلة بدأت تلك النسخ بالتفرق والاختفاء تدريجيًا، وأدركتُ في تلك اللحظة أنها أوكلت إليهم مهمة البحث عني.
كانت تلك القدرة التي رأيتها رائعة ومذهلة، مختلفة تمامًا عن مهاراتي البسيطة مثل التنفس المنعش أو سرعة الحركات البسيطة . لقد شعرت بأنني أمام شيء أكبر بكثير مما كنت أظن.
وبعد مرور نصف ساعة تقريبًا من البحث المتواصل، ظهرت ليانا .
ما إن ظهرت أمامي - أو أمام مخبئي بالأحرى - حتى نظرت إليّ بعينين تلمعان بخفة الظل والانتصار. لم أكن أعلم ما إذا كانت تلك هي ليانا الحقيقية أم إحدى نسخها، لكن شيئًا ما في وقفتها جعلني أبتسم تلقائيًا.
خرجتُ من مخبئي وأنا أصفق لها بخفة، ثم قلت مبتسمًا:
"تهانينا، لقد فزتِ عليّ."
ضحكت ضحكتها المرحة وردّت:
"ههه، نعم! لقد هزمتك بسهولة!"
ثم نظرت إلي بعينين مليئتين بالتحدي وأضافت وهي تضع يديها على خصرها بثقة طفولية:
"لكن، لدي سؤال مهم... هل أنا ليانا الحقيقية؟ أم إحدى نُسَخي؟"
هنا تجمدتُ في مكاني، وقد رسم الحرج والتردد على وجهي ملامح من القلق والدهشة. لم أتوقع هذا السؤال، ولم أكن مستعدًا للإجابة. قلت في داخلي وأنا أراقبها:
«ألن تشعر بالحزن إذا أخطأتُ الإجابة؟ كيف لي أن أميز؟»
بدأتُ أراقب حركاتها بعناية. نظرات عينيها، طريقة وقوفها، وحتى تنفّسها... كنت أبحث عن أي خيط، أي علامة بسيطة تخبرني بأنها هي.
لكن بينما كنت غارقًا في تحليلي المرتبك، سمعت صوت خطوات خفيفة وسريعة تركض خلفي. التفتُ بسرعة، فرأيت ثلاثًا من نسخ ليانا يقتربن بابتسامات واسعة، يركضن بخفة ويحيطن بنا كأنهن في مشهد مسرحي طفولي.
هنا بدأ قلبي يخفق بسرعة، وأدركت أن القرار لا مفر منه.
نظرت إلى الفتاة التي أمامي، وقلت بتردد وشيء من الحذر:
"أ... أنتِ ليانا الحقيقية."
ساد صمت قصير. لم ترد مباشرة، بل ظلت تحدق في وجهي بعينين ثابتتين. شعرت بقلبي يهبط تدريجيًا إلى معدتي، وكأنني ارتكبت خطأ فادحًا.
لكنها سرعان ما ضحكت وقالت:
"كيف عرفت؟"
ضحكتُ معها، وتنفست الصعداء، ثم رفعت حاجبي مازحًا وقلت:
"إنه سر."
بدت راضية بإجابتي الغامضة، وأطلقت ضحكة خفيفة وهي تشير إلى النسخ أن يختفين، ثم أمسكت بيدي وقالت:
"حسنًا، دورك الآن في العد ، لكن لاحقًا! لنأكل أولاً!"
قضينا وقتًا رائعًا في اللعب بين العشب والأشجار، نتسابق تارة، ونتقاذف الكرات تارة أخرى. ثم جلسنا في الظل وتناولنا الطعام الذي أعطتنا إياه العمة ميليسا ، كان بسيطًا لكنه لذيذ، يعبق بنكهة النزهات القديمة. ثم اشترينا مثلجات من بائع كان يمر بالقرب من الحديقة، وأخذنا نأكلها ونحن نضحك من آثارها الباردة على وجوهنا.
ومع ظهور خيوط الغروب البرتقالية في السماء، أدركنا أن الوقت قد حان للرحيل. جمعتُ أغراضنا وساعدتُ ليانا في حمل ما تبقّى، ثم خرجنا من الحديقة ونحن لا نزال نضحك على مشهد طريف حدث قبل قليل.
عند وصولنا إلى النزل، كانت العمة ميليسا بانتظارنا عند المدخل، وما إن رأت ابنتها حتى فتحت ذراعيها وعانقتها بقوة، كما لو أنها لم ترها منذ أيام، لا ساعات.
دخلنا بعد ذلك إلى الداخل، تناولنا عشاءً دافئًا ومريحًا تحت ضوء المصابيح الخافت، ثم تمنيت للجميع ليلة سعيدة، وصعدت إلى غرفتي.
استلقيت على السرير، وأنفاسي لا تزال تحتفظ ببقايا الضحك والفرح، ثم غفوت بهدوء... وكأن العالم كله، ولو للحظة، صار مكانًا أكثر لطفًا.