استيقظتُ في صباح اليوم التالي بعد نومٍ بدا وكأنه لم يكن كافيًا رغم تعب اليوم السابق. غسلت وجهي، ورتّبت مظهري على عجل، ثم خرجت متوجهًا نحو العمل كما أفعل كل يوم. الهواء كان عليلًا، والشمس بدأت تتسلل بين الأشجار، لكن شيئًا في هذا اليوم كان مختلفًا، وإن لم أدركه بعد.
وبينما كنت منشغلًا في عملي، مركزًا على رفْع أحد الصناديق الثقيلة، دوّى فجأة في المكان صوتُ جرسٍ قويٍّ وحاد، تردّد صداه بين الجدران والعربات. رفعت رأسي بسرعة، التفتّ يمينًا ويسارًا، ثم ثبت نظري على مصدر الصوت. هناك، عند العربة الكبيرة، وقف صاحب العمل ممسكًا بجرس نحاسيّ ضخم، يقرعه بقوة وهو ينظر إلينا بوجهٍ جاد لا يحمل أيٍّ من ملامح المزاح المعتادة.
توقفتُ عن العمل، وكذلك فعل كثير من العمال من حولي. تعالت الهمهمات، والنظرات المتسائلة تبادلت بيننا، لا أحد منا فهم ما يحدث، لكننا جميعًا تحركنا بخطى مترددة نحو العربة حيث وقف الرجل. شعرت أن هذا المشهد مألوفٌ لي بشكل غريب، كما لو أنني عشته من قبل... لحظة، أهذا ما يُسمى بـ"الديجافو"؟ ابتلعت ريقي وأنا أتابع خطواتي، وتلك الأسئلة تتقافز في رأسي: ما الذي يريده؟ ولماذا ينادينا جميعًا بهذه الطريقة؟
اصطففنا أمام العربة، وتوقفت الأحاديث تدريجيًا حتى خيّم الصمت على المكان. نظر إلينا صاحب العمل مطولًا، ثم تنحنح قليلًا وقال بصوتٍ عالٍ:
"أحم، أحم... بما أن الجميع قد اجتمع، فهناك أمر مهمّ ينبغي أن أخبركم به."
تبادلنا النظرات، متوترين، فتابع قائلًا:
"قبل عدة أيام، جاء رجل ثريّ من مدينة أخرى إلى هنا، لأغراض عملٍ معيّنة. وقد قرّر أن يقيم في هذه المنطقة لمدة خمسة أيام وأربع ليالٍ، على أن يغادر في مساء يوم السبت القادم."
ابتسم ابتسامة خفيفة، لا تخلو من القلق، ثم أضاف:
"هذا الرجل... جاء إليّ البارحة بطلبٍ غريب. لقد طلب مني أن أوكل تسعة من عمالي، بالإضافة إليّ، ليكون عددنا عشرة. مهمتنا ستكون حراسته طوال فترة إقامته."
تغيّرت ملامح الجميع، وبدأت التمتمات ترتفع مجددًا، لكن سرعان ما رفع يده طالبًا الصمت، وأكمل بنبرة أكثر جدية:
"الرجل قال إن هناك من يسعى لاغتياله، ولا يثق سوى بمن هم من خارج عالمه السياسيّ والماليّ. لا يريد جنودًا مأجورين، بل عمالًا بسطاء لا يعرف عنهم أحد، وهذا ما جعله يأتي إليّ."
شعرت بجسدي يقشعرّ... اغتيال؟ نحن؟ لماذا؟ أي نوع من المهام هذه التي يُطلب من عمالٍ بسطاء تأديتها؟! أنا بالكاد أتحمل يوم عمل شاق، كيف لي أن أحرس رجلاً مستهدفًا؟! هذا جنون...
"ولذلك..." تابع صاحب العمل، "أبحث عن تسعة متطوعين. من يرغب في المشاركة؟"
ساد صمت ثقيل. لم يتحرك أحد. حتى صوت الرياح بدا أنه قد توقف. قلبي بدأ يخفق بقوة، وأنا أردد في داخلي: لا، بالتأكيد لا، لن أرفع يدي. لستُ مهيئًا لهذا، لا مهارات قتالية، لا خبرة، صحيح أنني أملك بعض القدرات ولكنها ضعيفة .
وفجأة... كسر ذلك الصمت صوتُ يدٍ ترتفع في الهواء. التفت الجميع نحو مصدر الحركة، وإذا به لوكسيان، واقفًا بهدوئه المعتاد، يرفع يده دون تردد، وكأن الأمر لا يعني له شيئًا.
همستُ في داخلي: هذا ديجافو بلا أي شك... المشهد نفسه، التفاصيل ذاتها، لقد حدث هذا من قبل... أو... كدت أراه في حلم ربما؟
ثم، كما لو أن إشارة ما أُطلقت، بدأت الأيدي ترتفع واحدة تلو الأخرى.
نوكس... ثم ماركوس... ثم عاملٌ ثالث... رابع... خامس... وسادس...
كلهم رفعوا أيديهم، ملامحهم لا توحي بالخوف، بل بالحماس الغريب، أو ربما الطمع في المال الذي لم يُذكر بعد.
ثمانية أيادٍ حتى الآن... كلهم يبدون متأكدين من قرارهم. لم يتبقَ إلا شخصٌ واحد فقط ليكتمل العدد.
ومع ذلك، لم يتحرك أحد.
نظرت حولي... بعض الوجوه مترددة، وبعضها خائفة... وأنا؟
أنا... لا أريد. ليس هذا ما أبحث عنه. هذا الخطر... لا يخصني.
...
ولما رأى صاحبُ العمل الأيادي وقد بدأت تتوقف، ولا تزال اليد الأخيرة التي ستكمل العدد المطلوب غائبة، أطرق برأسه للحظة، كأنما يمنحنا فرصةً للتفكير، ثم رفع نظره إلينا مجددًا وقال بصوتٍ حازم ولكن خالٍ من الضغط:
"ربما نسيت أن أذكر شيئًا... الرجل الذي طلب حمايته، وعد بأن يدفع ألف دولار لكلّ عاملٍ من التسعة الذين سيوافقون على مرافقته."
ساد صمتٌ عميق للحظة، لا تُسمع فيه إلا همسات متقطعة... ثم بدأت تتصاعد كأمواجٍ خفية بين الصفوف.
"ماذا؟! أ... ألف دولار؟!" "هل سمعتَ جيدًا؟ قال ألف؟!" "ه... هذا مبلغ ضخم! لم أحصل عليه حتى بعد شهور!"
وصلت كلماتهم إليّ كما لو كانت طبولًا تُقرع في أذني.
ألف دولار؟!
جلست البارحة في النزل بهدوء، تناولت عشائي بجانب العمة ميليسا التي اعتادت أن تسألني كيف كان يومي، وليانا الصغيرة التي دائمًا ما تضحك من صمتي... كنت أظن أنني بدأت أجد شيئًا يشبه الاستقرار، شيئًا يشبه "الحياة".
لكن هذا المبلغ... سيكون خطوة جيدة لتحقيق هدفي .
لو حصلت عليه، يمكنني الخروج من دوامة البقاء فقط... إلى دوائر الاختيار. شراء أدوات، تطوير قدراتي، وربما حتى... استكشاف هذا العالم بثقة أكبر. لدي ثلاث قدرات الآن، وأنا لست كما كنت في أول يوم وصلت فيه.
لكن، الموت... لا يزال حقيقيًا.
بينما تصارعت أفكاري، كسر أحد العمّال الصمت.
كان رجلاً نحيفًا، قليل الكلام، رفع يده ثم أنزلها في لحظة، وقال بصوتٍ مضطرب:
"أ... أنا آسف، لا أستطيع... الأمر خطير للغاية..."
ثم تبعه آخر بصوت أكثر توترًا:
"حتى ألف دولار لا تستحق أن نخاطر بحياتنا... لسنا جنودًا..."
ثم ثالث، ورابع، وكلّهم أجمعوا على ذات المعنى: الخوف أكبر من المال.
كنت أراقبهم بصمت، بينما دقات قلبي تُبطئ وتُسرع بشكل متذبذب، كأنها تتردد مثلي تمامًا.
هل أفعلها؟
نظرت إلى يدي... ثم إلى لوكسيان، الذي ما زال واقفًا بكل ثقة، بل وبشيء من الحماسة في عينيه، كأنّه ينتظر بداية مغامرة ممتعة.
ثم إلى نوكس، الذي كان يراقبني نظرة خافتة، كأنّه يشعر بما يدور في داخلي.
وببطء... وكأن شيئًا ما تحرّك داخلي رغم خوفي، ارتفعت يدي...
بخفة، وكأنها لا تزال تفكر إن كانت تفعل الشيء الصحيح.
شعرت بالأنظار تتجه نحوي، عيون تتساءل، تندهش، وربما حتى تستغرب.
لكنني لم أتراجع، بل رفعت يدي أعلى قليلًا، وكأنني أُعلن شيئًا... ليس لهم، بل لنفسي.
رمقني صاحب العمل بنظرةٍ عميقة، وابتسم ابتسامة صغيرة لا تحمل سخرية ولا دهشة، بل شيئًا آخر... شيء يشبه "الرضا".
ابتلعت ريقي، وصدرِي لا يزال ضيقًا من التردد، لكن في داخلي... في مكانٍ ما لم ألمسه من قبل، شعرت بنقطة ضوء صغيرة، تكبر... ببطء.
وللمرة الأولى منذ وصولي إلى هذا العالم... شعرت أنّ ما يحدث الآن، ما اخترته، ليس تقليدًا للآخرين، ولا ناتجًا عن الصدفة...
بل خطوة...
تخصني وحدي.