55 - لحظة ما قبل الانطلاق

بعد أن رفعتُ يدي، تلاقت أعيننا للحظة. لم يقل صاحب العمل شيئًا في البداية، وكأنّه كان ينتظر شيئًا ما... أو يتحقق من أمر ما. ثم قال بصوت عالٍ وجاد:

"الآن، وبما أن العدد اكتمل، ليذهب الجميع إلى أعمالهم... ما عدا الذين رفعوا أيديهم."

ساد صمت قصير قبل أن يبدأ الآخرون بالتحرك. نظر بعضهم إلينا، همسوا فيما بينهم، ثم مضوا في طريقهم نحو العربة وأماكن العمل المعتادة. لم أكن الوحيد الذي لاحظ تلك الهمسات، بل بدا أن حتى صاحب العمل قد رآهم يرمقوننا بنظرات متباينة، بعضها مشفق، وبعضها متشكك، وبعضها الآخر... لا يمكن قراءته.

وبعد أن تلاشت الأصوات وخفتت الخطوات، لم يبقَ في الساحة الترابية سوى تسعة أشخاص... بالإضافة إلى صاحب العمل.

نظرت حولي، أحاول أن أستوعب من أصبحوا الآن جزءًا من هذه المجموعة الغامضة. نحن التسعة كنا غرباء عن بعضنا البعض، لا يجمعنا شيء سوى قرار واحد اتخذناه قبل لحظات.

كان لوكسيان واقفًا كالعادة بكل ثقة، ذقنه مرفوع، يداه خلف ظهره، وكأنه قائد وُلد ليقود.

إلى جانبه وقف نوكس، الشاب المراهق صاحب الشعر الأسود والملامح الهادئة، وجهه لا يعكس شيئًا، كأنه جدار صامت لا يُخترق.

أما ماركوس، فقد بدا متوتّرًا قليلاً، يعقد ذراعيه على صدره بينما تتجول عيناه بيننا جميعًا، وكأنه يحاول قراءة أفكارنا أو يستعد للرد على أي تهديد محتمل.

كان الرجل الأربعيني ذو العباءة الزرقاء الغامقة واقفًا بعيدًا قليلاً، لا ينظر لأحد، عيناه مغمضتان وكأنه غارق في تأمل عميق أو تواصل داخلي لا نراه. لم يصدر منه أي حركة، وكأن وجوده كان أشبه بظلٍ أكثر من كونه إنسانًا.

ثم هناك الرجل الأصلع، جسده ضخم بعضلات واضحة، عروق بارزة على ذراعيه، وعلى وجهه آثار جروح قديمة لم تندمل تمامًا. كان يحمل هالة من القوة الصامتة، ولم يكن بحاجة لقول أي شيء لنعرف أنه رجل خَبِرَ القتال.

أما الآخر الذي يشبه رجال العصابات، فكان أكثرهم حركةً واضطرابًا، يلفّ كتفيه بوشاح رمادي ويضرب الأرض بقدمه وكأن الانتظار يزعجه. كانت نظراته حادّة، وله ابتسامة جانبية مزعجة... من النوع الذي لا تحب أن تراه في خصمك.

كان بينهم أيضًا شاب نحيف، ملامحه طفولية بشكل غريب، بشعرٍ أشقر وعينين زرقاوتين واسعتين كأنهما نافذتان تطلان على عالم مختلف. رغم براءته الظاهرة، إلا أنني شعرت بشيء غريب ينبعث منه... شيء لا يمكن تفسيره بسهولة.

أما الشخص الأخير، فكان الأكثر غموضًا. كان يرتدي كمامة سوداء، وقبعة أخفت معظم ملامحه، وملابسه لا توحي بشيء مميز، فقط ملابس عادية قد يمر بها شخص دون أن يُلاحظ في الزحام. حاولت أن أتفحصه أكثر، لكن لا شيء في هيئته يشي بحقيقته... كأنه جاء من مكان لا يتبع أي منطق.

وقفت أنا، بينهم، أشعر أنني الأضعف، ومع ذلك... كنت هنا. لا أعلم إن كان قرار رفع يدي نابعًا من شجاعة حقيقية... أم من تهوّر لا واعٍ.

رفع صاحب العمل نظره إلينا وقال بهدوءٍ أشبه بالتحذير:

"ما أنتم فيه الآن ليس عملًا إضافيًا... بل اختبار. الطريق من هنا إلى ما بعده لن يشبه ما عشتموه سابقًا. من قرر البقاء يمكنه الانسحاب الآن... لن ألومه."

لم يتحدث أحد. حتى العصبي الذي يشبه رجال العصابات، سكن فجأة. كان الهدوء الذي ساد يحمل شيئًا يشبه التوتر الكهربائي. كأننا نقف على حافة شيء كبير... ومجهول.

نظر إلينا صاحب العمل بجدية، وقال بصوت حازم:

"اسم الشخص الذي ستقومون بحراسته هو فاليس ريمون. عليكم أن تعاملوه بكل احترام، فهو لا يحب أن يُسخر منه أو يُقلل من قدره."

ثم أضاف بتأنٍ:

"ستبدؤون بحراسته غدًا. ستتوجهون إلى قلعته الواقعة في الجانب الشمالي من القرية، وستتناوبون على الحراسة بشكل دائم على مدار الأربع وعشرين ساعة."

عمّ الصمت المكان لوهلة، كلٌ منّا يعيد ترتيب أفكاره، ثم كسر صاحب العمل الصمت بسؤال مباشر:

"هل لديكم أي استفسارات؟"

لم يجرؤ أحد على طرح سؤال، ربما لأن جميع التفاصيل كانت واضحة ومفهومة مسبقًا، أو ربما بسبب التوتر الذي خيّم علينا جميعًا.

تابع قائلاً:

"إذاً، بما أنه لا توجد أي أسئلة، اذهبوا وأكملوا أعمالكم."

انصرف الجميع، وعاد كلٌ منا إلى مهامه المعتادة. بينما كنت أمشي عائدًا إلى عملي، شعرت بمزيج من الخوف والفخر. كانت هذه المرة الأولى التي أرفع فيها يدي وأواجه التحدي دون تراجع أو تردد كالعادة. شعرت بأنني قد تخطيت حاجزًا نفسيًا كبيرًا، وأنني أخيرًا بدأت أغير مسار حياتي.

حين انتهى العمل، توجهت بسرعة إلى النزل، حيث استقبلتني العمة ميليسا .

قلتُ لها بكل هدوء، وأنا أحاول أن أخفي قلقًا داخليًا:

"لقد حدث شيء مهم اليوم، لقد تم اختياري للحراسة."

نظرت إليّ بحذر، وقالت بقلق:

" هذا الأمر يبدو خطيرًا جدًا. هل أنت متأكد من أنك تريد الذهاب؟"

تنهدتُ وأجبتها مترددًا:

"ربما يكون خطرًا، لكن لا تقلقي، فأنا سأكون حذرًا ولن يحدث لي شيء."

في تلك اللحظة، دخلت ليانا المطبخ بسرعة، وصاحت بقلق متزايد:

"لا يا عمي، لا تذهب! أرجوك، دعني أرافقك، خمسة أيام! لا أريد ."

ابتسمت لها محاولاً تهدئتها، وقلت بثقة:

"سأعود سالمًا، لا تقلقي، الوقت سيمر سريعًا."

بدا أن كلامي قد طمأنها بعض الشيء، ولكن في عينيها ظلّ الحزن يختبئ .

بعد أن تناولت طعامي، صعدت إلى غرفتي، وجلست على سريري وأنا غارق في بحر من الأفكار. تخيلت ما ينتظرني غدًا، والأحداث التي قد تحصل، والأشخاص الذين سأتعامل معهم.

كنت متوترًا، لكنه توتر ممتزج بالأمل والشجاعة.

2025/06/17 · 5 مشاهدة · 795 كلمة
Toleen Jaber
نادي الروايات - 2025